رحل عن دنيانا الفانية معالي الشيخ الدكتور عبدالله بن يوسف الشبل فحزنت قلوب ودمعت أعين وأصحابها يرددون (إنا على فراقك شيخنا لمحزونون). وحين عزمت على الكتابة عن الشيخ -رحمه الله- تزاحمت في ذهني الخواطر والمواقف، وفيما يلي لمحات من ذلك: - بدأت علاقتي بالشيخ منذ انتقالي للعمل بالجامعة عام 1403ه، وكان حينها أميناً عاماً للجامعة، وكان مكتبي في الطابق نفسه الذي فيه مكتب الشيخ، مما أتاح لي شرف التعرف عليه والتعلم منه مبكراً، وقد زادت العلاقة متانة بعد تكليفه بوكالة الجامعة وارتباطي الإداري به. - لم أكن من الأكاديميين الذين عايشوا الشيخ في مجال العلم والبحوث وسعة اطلاعه، ولكني ممن عايش الشيخ وتتلمذ على يديه في مجال العمل الوظيفي الإداري، فهو من الندرة من الرجال الذين من تعامل معهم لا يمكن بحال أن ينساهم، فلقد كان مربياً قبل أن يكون مسؤولاً، وكان متواضعاً يصغي إليك حين تناقشه أو تطرح عليه همومك، وكان عف اللسان حين يتناول النقاش آخرين، وكان همه توظيف جاهه وموقعه الوظيفي لخدمة الجامعة دون النظر لحظ نفسه. - أول ما يسترعي الانتباه ويبهرك في الشيخ ما آتاه الله عز وجل من بسطة في الأخلاق، إضافة إلى موسوعيته المعرفية، وإذا كانت شهرته العلمية تتركز في تخصصه العلمي المتصل بالتاريخ ووثائقه فإن ثروته المعرفية تتجاوز ذلك إلى علوم القرآن والفقه والحديث والأنساب والأنظمة وفنون الإدارة وغيرها، وحين نتحدث عن الأنظمة وفنون الإدارة فلا يفوت من يعرف الشيخ أنه كان يتعامل مع الأنظمة ولوائحها بما يخدم صاحب العلاقة قدر الإمكان، وبهذا الأفق الواسع عالج مشكلات الكثيرين كما عالج مشكلات ظهرت بين الجامعة وقطاعات حكومية أخرى، أدركنا ذلك من خلال اجتماعاتنا به في اللجان وفي الأسفار. - كان للشيخ مجلس يقام غالباً يوم الثلاثاء الأخير من كل شهر، ولطالما تأملت وغيري هذا المجلس، وما يكتنفه من أحوال لا تراها في غيره، فقد كان المجلس يمتلئ عدة مرات، بما يحتم على الزائر أن لا يطيل المكث فهناك خارج المجلس من ينتظر الدخول والسلام على الشيخ، وكان هناك إجماع لدى الجميع بأن هذا الحرص على الزيارة ينطلق من محبة خالصة مدادها الوفاء للشيخ والاعتراف بحقه، فما أجمله من وفاء كان يتغشى محبي الشيخ لما كان له من مقام في نفوسهم ولما يعرفونه عنه من سابق فضل لدينه ووطنه وفيما حققه في مسيرته من ثراء علمي وعملي متنوع، يعرف ذلك كل من كان على صلة به في عمل إداري أو قاعة درس أو تجهيز بحث أو رافقه في سفر، وتجد التنوع في الزائرين بين وجهاء وأساتذة وطلاب علم وموظفين سابقين، فجميع من كان يحضر لم يكن له مصلحة على الإطلاق، فسبحان من جعل للشيخ قبولاً بين عباده. - كان آخر لقاء عام للشيخ مع محبيه في مجلسه العامر بعد صلاة المغرب أول أيام عيد الفطر المبارك من عام 1436ه، وبعد ذلك كان يتناوب الدخول للمستشفى والخروج منه ولكن بوضع لا يسمح له باللقاء العام. - خلال الشهور الأخيرة من حياة الشيخ، كنت وغيري نستقي أخباره من ابنه عبدالعزيز ومن د. عبدالرحمن الربيعي وهو من أخص تلاميذ الشيخ القريبين منه، وكنا نتواصى بما هو واجب علينا نحوه في وضعه آنذاك، وفي ذات مرة كتبت لابنه عبدالعزيز بالسؤال عن أحوال والده، فتأخر علي بالجواب فبعثت له رسالة عتب، فجاء الرد مع اعتذار كريم، فكتبت إليه: (يعلم الله أننا نعتبره والدا لنا أيضاً، وأعذرنا على مزاحمتنا لك في ذلك، ونتمنى أن نقف معك في خدمتك ورعايتك له، كيف لا ونحن قد أحببناه وغرس محبته في القلوب لنبله وخلقه الذي وسع الجميع، فلا تلمنا أخي على السؤال والإلحاح، لا تلمنا على العتب حين تتأخر علينا بالجواب إذا سألناك). - حل الأجل المقدر للشيخ إيذانا بانتقاله إلى جوار ربه صباح يوم الاثنين الرابع من شهر رجب الحالي، وفور سماعي بالخبر حمدت الله واسترجعت يقيناً بأن الموت نهاية كل حي وأن شيخنا قدم على كريم، وجال بخاطري معاناة الشيخ وما مسه من الضر فسألت الله جل جلاله أن يكون شيخنا ممن يشملهم هذا الحديث (ما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض ليس عليه خطيئة)، وقمت بالاتصال بأخي د. عبدالرحمن الربيعي لتبادل التعزية والمواساة في المصاب الجلل. - من عايش الشيخ وناقشه وسافر معه يدرك بجلاء ما كان عليه الشيخ من نزاهة وتواضع وكرم واحترام للآخرين وتقدير لجهودهم فضلا على ما كان عنده من حزم في مواضعه، فلم يكن يقبل الخطأ، وإذا كان غيره مثله في ذلك لكنه كان يختلف عنهم في أساليب المعالجة. - كانت الجامعة في أزهى عصورها حين كان مديرها معالي الشيخ عبدالله التركي وكان وكيلها الشيخ عبدالله الشبل، ولقد رأيت وغيري ما كان بين الرجلين من احترام وتقدير لبعضهما كان مضرب المثل في العلاقة بين المسؤولين من أصحاب المواقع الأولى في الجامعة، وكان لذلك أثره الكبير في المنتج العلمي والعملي، وحين نتناول بالحديث المدينة الجامعية، لا نجاوز الحقيقة حين نقول بأن كل حجر فيها يشهد بأن شيخنا الراحل هو قطب الرحى في إنجاز هذا الصرح العظيم مبنى ومعنى.