لا نبالغ إذا قلنا إن الأمير سعود الفيصل - رحمه الله - ظل لعشرات السنين يقضي نصف يومه في الأرض والنصف الآخر في السماء، وفي أحيان لا يتسنى له المكوث على الأرض إلا ساعات قليلة جداً متنقلاً بين البلدان في مهمات لوطنه المملكة العربية السعودية أو من أجل أمتيه العربية والإسلامية. لقد عايش سموه أربعة ملوك كان محل ثقتهم وتقديرهم ومحبتهم، وهم الملوك خالد وفهد وعبد الله - رحمهم الله جميعاً - وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله ورعاه - الذي مما يعرف عنه محبته الخالصة وتقديره الكبير للأمير سعود الفيصل، حتى أن الأخير حين اشتد عليه المرض ورفع طلباً للملك سلمان يطلب إعفاءه من منصبه لمتابعة علاجه، رد عليه خادم الحرمين الشريفين برسالة كانت بلسان كل السعوديين إن لم يكن كل العرب والمسلمين، والتي جاء فيها: «لقد عرفناكم كما عرفكم العالم أجمع على مدى أربعين عاماً متنقلاً بين عواصمه ومدنه، شارحاً سياسة وطنكم وحاملاً لواءها, ومنافحاً عن مبادئها ومصالحها, ومبادئ ومصالح أمتكم العربية والإسلامية، مضحين في سبيل ذلك بوقتكم وصحتكم, كما عرفنا فيكم الإخلاص في العمل والأمانة في الأداء والولاء للدين والوطن، فكنتم لوطنكم خير سفير ولقادته خير معين». كما قال - حفظه الله - بكلمات معبرة: «يعلم الله أن تحقيق طلب سموكم من أصعب الأمور علينا وأثقلها على أنفسنا، إلا أننا نقدر عالياً ظرفكم». إذ كان الملك سلمان لا يخفاه المتاعب الصحية التي عانى منها سموه لسنوات طويلة، ولكنه استمر خادماً محباً لهذه البلاد وقادتها، لم تتغير ثقتهم فيه ولا محبتهم له طيلة عمله وزيراً للخارجية حتى أن الملك سلمان - حفظه الله - حين وافق على طلب سموه بإعفائه من منصب وزير الخارجية عينه وزيراً للدولة عضواً بمجلس الوزراء ومستشاراً ومبعوثاً خاصاً لخادم الحرمين الشريفين ومشرفاً على الشؤون الخارجية، فقد منحه - أيده الله - خمسة مناصب لأن «سعود الأوطان» شخصية استثنائية لا مثيل لها لا من حيث إنه أقدم وزير خارجية على مستوى العالم، إلى جانب ما يلحظه الجميع في كل أقطار العالم من إخلاص وتفاني سموه وثقة العالم كله فيه لخلقه العالي، ولأنه صاحب مبدأ ولا يساوم حيال قضايا الأوطان العربية والإسلامية، وكان يقف إلى جوار جميع العرب والمسلمين في كل الاجتماعات باستثناء من يجد أنهم يعبثون بمقدرات الأوطان، فقد تصدى لهم - رحمه الله - وبقي حازماً صارماً في أي قضية للعرب والمسلمين مهما كان حجمها. يقول رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك، في مقالة مؤثرة وهو الذي عرف الفقيد عن قرب خلال مرافقتهما للقيادة في رحلات عدة ومهمات مختلفة: «هكذا هي الحياة، رحلة قصيرة، وإن قضى المرء فيها سنوات طويلة من عمره في بذل وعطاء، وإن خلق بين نجومها نجماً، وكان شعاعاً من أشعتها، وبدراً من بدورها، هو هذا الإنسان الضعيف الذي تنتهي به الحياة إلى ما انتهت بالرجل الرمز سعود الفيصل الذي تركت وفاته في كل واحد منا جرحاً غائراً، وجلل الحزن كل نبض في كل مكلوم منا». ويضيف: «يكفي أن نتذكر من أيامنا التي خلت اسم سعود الفيصل لنتذكر معه ما حدث من صراعات وعواصف على مدى أكثر من أربعين عاماً، حين كان فيها الراحل الكبير متفرغاً لخدمة الدبلوماسية السعودية، وأدار بفكره وعقله أيضاً السياسة العربية كل هذه الفترة الطويلة، ولنتذكر أيضاً سعود الفيصل الذي رسم سياسة المنطقة لا سياسة المملكة فقط في تعاملها مع أكثر القضايا تعقيداً، ونجح كما لم ينجح أي دبلوماسي آخر من قبل». وأضاف: «سعود الفيصل عميد الدبلوماسية في العالم، قليل الكلام، لكنه يحسن اختيار المفردة الدبلوماسية الغنية بالفكر السياسي، كما كان يطوّع كلامه بلغة جميلة للوصول إلى هدفه، وما من مرة كانت هناك قضية شائكة ومعقدة إلا وأعجز محاوره وأقنعه بقبول رأيه والاتفاق مع وجهة نظره». كما قال الأستاذ خالد المالك: «كان الفقيد صاحب موقف صلب لا يلين، وبخاصة إذا ما كان ذلك يمس مصلحة وطنه، ولهذا فقد انصرف إلى مسؤولياته طيلة حياته العملية، فطبع السياسة السعودية ومساراتها وتوجهاتها بما كان يؤمن به، فنجح أيما نجاح، وحافظ على رتمها وتأثيرها واحترام العالم لها إلى أن تنحى، ثم بعد فترة قصيرة إذا به يلقى وجه ربه الكريم. صحيح أنه قضى السنوات الأخيرة من عمره مرهقاً ومتعباً، وبين المصحات يتلقى العلاج، لكنه بقي محارباً قوياً، لم يهزمه المرض، ولم تقعده الإعاقة، ولم تنل منه سنوات التعب، بل إنها أعطته المزيد من الجهد والتصميم والعزيمة والبذل والعطاء لصالح هذه الأمة، فكان ثمنه هذا الاحترام والتقدير، بما لم يحصل عليه أي وزير خارجية في العالم». وأضاف متأثراً لغيابه عن دنيانا: «إنها خسارة مدوية، وفقد غير عادي، وغياب مؤثر، يصاحبه ويسبقه هذا الحجم من التحديات التي واجهها في حياته إن في صحته وإن في عمله، لكنه بقي إلى أن مات فارساً شجاعاً ومحارباً قوياً وذا نفس طويل في مواجهة الأزمات، بإصراره وعزيمته وثقته التي لا حدود لها وقدرته على تجاوز كل المعوقات، فكيف لا نحزن أمام قامة كهذه، ولا نجزع في وفاة من كان القلب السياسي النابض لهذه الأمة، وأن تمر وفاته دون أن نعبر عن حزننا وألمنا وانكسار خواطرنا أمام هذا الفقد، وأن نمضي مع هذا الخبر -الفاجعة- دون أن نتذكر ذلك الصوت الهادئ الرزين الذي كان يعبِّر نيابة عنا، ويتحدث باسم كل منا. أجل.. يموت سعود أو لا يموت، فهو باق في ذواكرنا، حبيباً لن ننساه، وصوتاً أثيراً لن يخفيه موته عنا، فهناك عطاءات كثيرة وثرية خدم بها وطنه وأهله، وسعى بها لنكون هكذا موضع احترام العالم وتقديره، وطبع السياسة بالطابع الذي كرَّس به نجاحات الدبلوماسية السعودية على مستوى العالم، بما أصبح حديث دول العالم ومثار إعجابهم». وختم قائلاً: «رحم الله سعود الفيصل، الرجل الذي تمنى كل منا أن يكون لصيقاً به وقريباً منه ليتعرف على هذا الوزير الرمز في كفاءته وإخلاصه وأمانته، فقد نأى بنفسه عن كل شيء، وتفرَّغ لخدمة وطنه، وكان نعم الوزير الذي يتمنى جميع أفراد المجتمع لو أمكنهم محاكاته والسير على خطاه، وأخذ الدروس والعبر من سلوكه، فعسى أن يعوضنا الله من الرجال من يرون في الفقيد قدوتهم وملهمهم في خدمة الوطن والمواطن». وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد، والذي عرف عنه أيضاً قربه من الفقيد قال إن من الأشياء التي ندم عليها أنه لم يكتب عن الأمير سعود الفيصل، في حياته معبراً في كل مرة عن حزنه العميق لفقد هذه الشخصية الكبيرة، وزاد ابن زايد: «سنفتقده كثيراً في كل اجتماع لنا وزراء الخارجية». لقد أحب أهل السعودية والخليج والعرب والمسلمين سعود الفيصل، وظل يحظى باحترام كبير من قبل الجميع في دول العالم، لشخصيته الفريدة ولشدته في الدفاع عن قضايا الأمة ولقدرته البالغة على الإقناع وتقديم وجهة نظرة بوضوح، حتى أن الساسة في اجتماعاتهم يتوقفون عند ما يقوله سعود الفيصل، ففي حديثه تشخيص المشكلة وعلاجها. ظلت أغلب المنظمات من الأممالمتحدة حتى أصغر منظمة في العالم تأخذ بما يقوله سعود الفيصل، لأنهم يعرفون أنه يتحدث من خبرة كبيرة وبحكمة عالية وبصدق وإخلاص وبأسلوب منقطع النظير، أسلوب لا يعرفه ولا يتقنه إلا سعود الفيصل، أسكنه الله فسيح جناته.