من المفاجآت التي لا يمكن لي أن استوعبها أو أصدق فحواها هو حينما شعرت أنني فقدت في آخر الظهيرة (ذاتي)، فكنت أظن أن الأمر مجرد حلم وستعود روحي مع وقت العصر أو قبل الغروب. فتشت عن ذاتي في كل زاوية من زوايا البيت ولم أجدها، فأنا أعرف إنني فقدتها نائماً فقد كانت معي قبل أن آوي إلى قيلولتي، فلم أعثر على أي أثر لها، فالدهشة تحاصرني، فليت أحد حولي يبحث معي عنها!! تأخرت (ذاتي) في الحضور، وظللت قلقلا عليها.. ترى أنفسي هربت مني وتركتني في هذا السرير الرث.. ذاتي انفلقت تماما مثلما تتشظى حياتي بين أهل هذه المدينة الموحشة. يا للمأساة كيف أجد ذاتي؟! بقي شيء من إدراكي استطعت فيه أن اعرف مكان المغسلة ودورة المياه والماء البارد، فجله أخذته ذاتي فيما يبدو معها. من أبلَّغ؟ ومن المسئول عن هروب ذاتي من حياتي في هذه القيلولة النحسة؟! لو أخبرت الناس حولي حتماً سيضحكون، وهناك من يقول: أصيب «الرجل» بالعدوى من جاره المعتوه، وهناك من يقول بأنني ثمل، بل هنا من يقول وبلا مواربة: إنني متعاطي ملعون.. المصيبة التي تسكنني وتلجم حياتي إن كانت ذاتي خرجت وهي على هذه الهيئة التي توحي بأنها ثملة، ستعاقب ذاته ولن أنصفها أو أتوسط لدى أحد لإخراجها من السجن حتى تتأدب وتعود إلى جسدي صاغرة ذليلة. خرجت ذاتي حافية. لا ربما أخذت جوز حذائي الجديد. اركض إلى الخزانة السفلية ربما انتعلته ذاتي المجنونة للكنني وجدته, وكيف يا منفلق تفكر على هذا النحو.. فذاتك مجنونة والمجانين عهدناهم في شوارعنا وأزقتنا وعلى الأرصفة عادة يدورون حفاة شبه عراة بلا أحذية. حننت على ذاتي.. قلت: ما الذي أخذته وما الذي بقي لي منها.هل سرقت ولعي بالفن والجنون؟! ألفيتني لا أفقه أي شيء في الفنون واللون والخطوط فقد وجدت أنها في هربها حملت معها جنوني وفنوني؟! يا للجنون المعتق أين أجد ذاتي وماذا سأقول لأول من يقابلني؟؟.. أأقول له إنني انفلقت ولم اعد أنا كامل بكل نقائصي وهمومي؟ لقد انفلقت وتشظيت أوصالا، وكان الذي كان. أدور في الشوارع، ارتاد المقاهي التي كنت أزورها حينما كانت ذاتي معي. الجنون إن ذهبت إلى الشرطة وقلت لهم: إن ذاتي فرت مني، لا، بل تسللت من سريري في قيلولتي.. حتما سينهرني مسئول قسم الشرطة لأخرج وكأن أمرا لم يكن، لأن لدى الأمن ما هو أهم من قضية فنان فقد ذاته في قيلولة. تمالكت بقايا شجاعتي لأذهب بالفعل القسم.. فقال لي ضابط يعرفني ولا أعرفه: - فتش جيوبك زين يا «رجل» ستجدها مع الأوراق، أو مع علبة ألوانك أو سجائرك أو لفائف الكيف؟ كان الضابط الشاب بنجمتيه اللامعتين يسخر مني لا محالة.. فهو إلى جوار كثيرين يشعر أنني أوشك على الجنون، والأمر لا يعدو كونه مجرد وقت وسيراني -حسب زعمه- أدور في الشوارع كواحد من المجانين الذين لا يرجى برؤهم. أين أذهب؟! ربما مقهى «رد ستار» هو الأنسب.. سألملم حياتي لعلي أجد (ذاتي) الهاربة على أحد المقاعد تحتسي كعادتنا القهوة المرة وربما تثرثر مع صديق أو تعاكس في الهاتف المحمول أحدى ما. خاب أملي ففي عتمة مقهى «رد ستار»، وجدت جاري «سعد» عابرا مع زوجته من أمامي. فهي تلازمه كظله خوفاً عليه من موجات الصرع التي تجتاحه. فهي لا تقود السيارة رغم حاجتها لها وله فالقوانين في مدينة تمنع المرأة من كل شيء إلا قيادتها لأحذيتها، وزوجها على نحو ما تفعله بعض نساء مدينتنا. مررت بلوحة مشنوقة على الميدان الوحيد للمدينة كانت بلا روح وبلا مشاهد موحية بالحياة فجعت حينما وجدت اسمي وتوقيعي على اللوحة»س..».. أنا إذن من هذا الذي يرسم؟!.. آه ربما (ذاتي) الهاربة والشقية هي من تمارس الرسم والتلوين. الحمد لله.. الفكاك منها ومن أهوال الرسم والفن وجنونه. الغروب يوشك أن يحل يطرق باب المدينة الغربي دائما منذ أن خلقنا وخلقت مدينتنا، ولا أثر لذاتي. قبل العتمة وجدت شبح أوحت لي العتمة أنها أنا. ركضت أنا خلفه وفي السوق وبين الناس وأمام محلات للأقمشة الرجالية ربت على كتفه قلت تعال يا (أنا).. فلتفت الرجل الذي دهش من فعلتي وقال نعم ماذا تريد يا أخ..؟! اعتذرت ولم أشأ أن أقول أنني أبحث عن ذاتي..