تطرق الأستاذ م. عبد المحسن بن عبد الله الماضي في زاويته الموسومة (أنت) المنشورة في العدد 15735 من هذه الصحيفة الغراء والصادر يوم الأربعاء 15 محرم 1437ه، إلى مقالة قديمة للدكتور طارق الحبيب تضمنت تحليلاً نفسياً للشخصية السعودية، وقد أورد الأستاذ عبد المحسن نتفاً وإشارات خاطفة لبعض مضامين تلك المقالة منهياً زاويته بهذا التساؤل المحفز: «هذه وجهة نظر من متخصص.. فهل هناك وجهات نظر أخرى عن الشخصية السعودية؟» واستجابة لتساؤل أخي الأستاذ عبد المحسن، أقول إن هذا الموضوع كان ولا يزال أثيراً لدي ومحبباً إلى نفسي، ولقد عكفت منذ أمد بعيد على دراسته ومحاولة سبر أغواره والإلمام بكافة أبعاده، تمكنت من خلاله أن أكوِّن لنفسي منهجاً معيناً ومنظوراً أو إطاراً فكرياً في كيفية تناوله ومعالجة جوانبه وزواياه، وقد انتهى بي المطاف في عام 1418ه الموافق 1998م، إلى الإقدام على تأليف كتاب فيه بعنوان: «مدخل لدراسة الشخصية السعودية: تأملات في طابع الانتماء الوطني»، وقد بقي الكتاب منذ ذلك الحين مخطوطاً لديّ ولم يُقدّر له الظهور، وإن كنت قد نشرت خاتمة الكتاب في مؤلّفي الموسوم: (قضايا ومواقف في الفكر والسياسة) (العبيكان، 1433ه - 2012م) تحت عنوان: (التوفيقية.. مفتاح شخصيتنا الوطنية). ولا بد لي من الاعتراف بداية بأن ما توصلت إليه من نتائج أو نظريات، تضمنت تلك الدراسة القديمة التي مضى عليها الآن ما يقارب ثمانية عشر عاماً، تظل في نهاية الأمر مجرد اجتهادات لا يمكن بحال من الأحوال أن تصل إلى مستوى الكمال، أو أن ترقى بشكل من الأشكال إلى حد اليقين، إلا أنني أستطيع أن أزعم أنها تطرح منظوراً غير مسبوق في موضوعه، وتحتوي أفكاراً جديدة ورؤى مبتكرة ولم يسبق التطرق إليها من قبل. تنطلق الدراسة من فرضية مؤداها أنه إذا كان ثمة ظاهرة تضرب بجذورها في أعماق شخصيتنا الوطنية، بل وتتغلغل في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية في بلادنا، فهي ما يمكن أن نطلق عليه (الثنائية القطبية). وتتبدّى هذه الظاهرة أول ما تتبدّى حين نتلّمس تأثير البعد السياسي على شخصيتنا الوطنية، ثم تفصح عن نفسها حين نعرِّج على تأثير البعد الاجتماعي، وتبرز من مكمنها حين نناقش البعد الاقتصادي، بل إنها تطل علينا - وإن على استحياء - حتى في تناولنا لتأثير البعد الجغرافي. فحين نتلّمس تأثير البعد السياسي على شخصيتنا الوطنية، يتبين لنا أن الدولة السعودية الأولى - التي تُعَد المملكة العربية السعودية امتداداً تاريخياً لها - قامت أساساً على ثنائية دينية سياسية، تمثلت وتجلّت في التحالف والتعاهد الذي نشأ بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، هذه الثنائية المنبثقة عن التكامل والتفاعل الديني السياسي يمكن إرجاعها إلى حقيقة أن الدين والمنحى السياسي اشتركا في أغراض وأهداف متكاملة، حيث كان وجود الأول يعتمد على بقاء الثاني واستمرار دعمه للأول، ولقد نجحت تلك الثنائية لأنها - من جهة - زودت القاعدة الدينية بالأداة السياسية اللازمة التي يصعب دونها تحقيق هدفها المرغوب، ولأنها - من جهة أخرى - أمدت القاعدة السياسية بالأداة الفكرية والعقدية اللازمة، التي يصعب دونها تحقيق تطلعاتها المنشودة. ومنذ ذلك التاريخ ظلت هذه الثنائية تمثل ركناً ركيناً ودعامة ثابتة في الحياة السياسية والفكرية للدولة، إلى أن جاء الملك عبد العزيز الذي ساعده وعيه التاريخي، وإيمانه الديني العميق، وواقعيته وحسه السياسي المرهف، على إيجاد نوع من التوازن، أو التوفيق، أو المواءمة بين السياسة والعقيدة، والذي كان من الدعائم الأساسية التي استند عليها في تشييد الدولة السعودية المعاصرة. ليس هذا فحسب، بل إن هذا التوازن أو التوفيق أو المواءمة قُدّر له أن يكون سمة مميزة من سمات الواقع السياسي السعودي حتى يومنا هذا، وهي سمة منطلقها الدائم وجوهرها الثابت هو التوفيق بين الأقطاب المتباعدة، وتحقيق الانسجام والتكامل بينها.. بين الانطواء والانفتاح، بين الجمود والاندفاع، بين القديم والجديد، بين الأصالة والمعاصرة، بين وضع حد للتسيب ولكن دون أن يؤدي إلى التعصب، والسيطرة على الانفلات، ولكن دون أن يقود إلى التزمّت، بين الاتجاهات التي تميل إلى الغلو والإفراط، والاتجاهات التي تميل إلى التساهل والتفريط، وفي هذا السياق، فلعل من الجدير بالملاحظة أن عدم القدرة - في بعض الحالات - على تحقيق التوفيق بين هذه الأقطاب المتنافرة والمتباعدة هو أحد الأسباب المباشرة في نشوء الأزمات والتوترات التي طرأت أو قد تطرأ على الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية وحتى الأمنية في بلادنا، وذلك نتيجة حدوث اهتزاز في المواءمة المنشودة، أو اختلال في التوازن المطلوب. كذلك فإن ظاهرة (الثنائية القطبية) تفصح عن نفسها حين نعرج على تأثير البعد الفكري، حيث يتضح لنا أنه منذ بداية توحيد المملكة، وبداية الاتجاه نحو ترسيخ وتدعيم أسس الدولة الوطنية الحديثة فيها، وجدنا أنفسنا، وفي إطار تعاملنا مع قضايا الهوية والانتماء، في مواجهة «ثنائيات» ملحوظة تميزت بها تلك القضايا، وانعكست على حياتنا الاجتماعية والسياسية، وكان لها تأثير على بلورة شخصيتنا الوطنية وتكاملها وترسيخ جذورها. إحدى تلك «الثنائيات» تمثلت في موقفنا إزاء الجدلية المصطنعة بين العروبة والإسلام، التي طُرحت قسراً في مرحلة من المراحل على الفكر السياسي العربي، والتي ساعدتنا حقائق التاريخ ومعطيات الجغرافيا على حسمها مبكراً، من منطلق أن طرفي الثنائية يمثلان بالنسبة لنا صيغة واحدة لوضع دائم مستمر في تاريخنا وفي حياتنا، وباعتبار أنهما معاً، وبتلاحم عضوي، يصوغان هويتنا القطرية والقومية، ويحددان مصالح بلادنا الوطنية، ويرسمان مناهجها وارتباطاتها السياسية. ثنائية أخرى تمثلت في تعاملنا من جهة مع ما يقرره ديننا الإسلامي الحنيف من نبذ للتعصب القومي ودعوة للعالمية، بمعنى تجاوز الانتماءات القطرية والقومية، ومن جهة أخرى مع حقيقة ارتباطنا بالأرض التي نشأنا وترعرعنا في ربوعها وأرجائها، والكيان السياسي الذي ننتمي إليه. ثنائية ثالثة تجلت في التحدي الكبير الذي واجهنا - وربما لا يزال يواجهنا - والمتمثل أساساً في التوفيق بين أصالة تنبثق من واقعنا، وتتصل بماضينا وتراثنا، وترتبط بقيمنا ومثلنا العليا، بكل ما يفرضه ذلك من واجبات أو يحتمه من مسؤوليات وتبعات، ومعاصرة نقبل بها حضارة العصر الذي نعيش فيه، والذي اكتشفنا أنه لا مفر من التعامل بين سكانه، ولا مناص من التفاعل بين أفراده، ولا مندوحة من الاعتماد المتبادل في شؤون حياة قاطنيه وأمور معاشهم، ومن المؤسف هنا، أن نجد أن هذه الثنائية قد سلكت مؤخراً منحى سلبياً، حيث ساعدت تطورات الأحداث التي شهدتها بلادنا في الآونة الأخيرة على بروز استقطاب حاد بين توجه تكفيري منغلق ومتطرف، وتوجه ليبرالي منغلق ومائع. وثنائية رابعة تبدَّت في صيغة تساؤل لا يزال مطروحاً على فكرنا المعاصر، هو: كيف يتسنى لنا ترسيخ مفهوم الانتماء الذي اخترناه لأنفسنا، بحيث نجعله يصهرنا في بوتقة واحدة، مع احتفاظنا بمظاهر التنوع والتعدد؟ وتنطلق الثنائية التي يستند إليها هذا التساؤل من فكرة بناء وحدة وطنية قوية تقوم على محورين أساسيين: محور يعترف بالتنوع ويعتز بالتعدد في غير تحجر أو تزمت، ومحور آخر يؤكد الولاء الوطني ويعطي المشاعر الوطنية حقها، ويسعى إلى إيجاد بوتقة وطنية تذوب فيها جميع الانتماءات القبلية والإقليمية، والتعددات الثقافية والمذهبية. أيضاً، فإن ظاهرة «الثنائية القطبية» تبرز من مكمنها حين نناقش تأثير البعد الاقتصادي على شخصيتنا الوطنية، حيث نلاحظ أن التطورات الاقتصادية التي شهدتها بلادنا منذ اكتشاف النفط، وبخاصة بعد تدفق الثروة الذي أعقب ذلك الاكتشاف، أدت إلى وضع استقطاب وجدنا أنفسنا فيه، في البداية، حيارى بين التمسك بمعطيات اقتصادي تقليدي (زراعي رعوي)، تميز بكونه اقتصاد كفاف يشبع حاجات محدودة لعدد محدود من الناس، ويحصرهم في عالم صغير تطوقه الصحراء، وتقيده ندرة الموارد وقلة الإمكانات، ولكنه بالرغم من كل ذلك تسوده الطمأنينة والقناعة والرضا، ويوثق عراه التضامن الأسري والتكافل الاجتماعي، وبين الانغماس في مغريات اقتصاد حديث (صناعي استهلاكي) زجّ بنا في عالم كبير يعج بالحركة ويموج بأفكار ونظريات وفلسفات غريبة على أسماعنا، وشاذة عن تربيتنا، وبعيدة عن أفئدتنا، تذوّقنا فيه طعم الترف الحضاري بآلياته الرهيبة، وتقنياته العجيبة، ومبتكراته المذهلة، ولكنه بالرغم من كل ذلك أقحمنا في أتون المجتمع العصري الحديث، بتوتراته النفسية، وأمراضه الاجتماعية، وصراعاته الاستهلاكية، ناهيك بما يسوده من زعزعة في القيم التقليدية، وتراجع في الضوابط الأخلاقية. أما وقد وصلنا إلى هذا المنعطف، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما تأثير هذه «الثنائيات» التي تزهر بها أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية في بلادنا على شخصيتنا الوطنية؟ وكيف يمكن التعامل مع ما تمارسه هذه «الثنائيات» من تأثيرات؟ تقتضي منا الإجابة على هذه التساؤلات استحضار فرضية معينة ترتكز على المعادلة الآتية: بما أن الواقع السياسي الذي تعيشه أي جماعة بشرية في مرحلة تاريخية محددة، هو المحور الذي تستند عليه الشخصية الوطنية لتلك الجماعة، والذي تؤثر فيه مجموعة من الخصائص الثابتة والمتغيرة: كالعوامل التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والفكرية والبيئية.. وحيث إن المقصود بالواقع السياسي المحدد هو التركيبة التي تتكون من النظام السياسي والفكري الذي تخضع له تلك المجموعة البشرية في مرحلة تاريخية محددة.. ولما كانت طبيعة الواقع السياسي لبلادنا هي التي فرضت الملامح الأساسية والمكوّنات الرئيسة لشخصيتنا الوطنية، والتي تفاعلت تحت تأثير عوامل أخرى منها الثابت ومنها المتغير، ليصبح محصلة ذلك التفاعل هو شخصيتنا الوطنية في شكلها وسماتها وملامحها المعاصرة.. فإنه يمكن القول إذن: إن الواقع السياسي الذي تعيش شخصيتنا الوطنية في كنفه، والذي يحدث تأثيرات عميقة على محدداتها ومكوّناتها، وكذلك عمليات الاستقطاب الثنائية الذي رأينا كيف تزخر بها أوجه الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية في بلادنا.. أدى إلى أن تكون السمة الرئيسة التي تتصف بها شخصيتنا الوطنية هي: «السمة التوفيقية»، بمعنى قدرتها على «التوفيق» بين استقطابات ثنائية مختلفة ومتعددة ومتنوعة.. القديم في مواجهة الحديث، الأصالة في مواجهة المعاصرة، الروحانيات في مواجهة الماديات، المحافظة في مواجهة الانفتاح، معطيات الاقتصاد التقليدي في مواجهة متطلبات الاقتصاد الحديث. «التوفيقية» بهذا المعنى لا يقتصر هدفها النهائي على التوصل إلى «الحل الوسط» بين أمرين فحسب، ولكن صيغتها المثالية تكمن في إيجاد التزاوج المستمر والتفاعل الحي بينهما، وصولاً لما يمكن أن نسميه «الوحدة الإيجابية ثنائية القطب». الطريق إلى تحقيق هذا الهدف النهائي، والسبيل إلى التوصل إلى هذه الصيغة المثالية، لم يكن في الماضي، ولن يكون في المستقبل عملية سهلة، أو أمراً هيناً يسيراً، فهو إما أن يؤدي إلى «الازدواجية» من جهة أو «التطرف» و»التعصب» و»الانغلاق» من جهة أخرى، باعتبارهما يمثلان المسار السلبي للتوفيقية، وإما أن يقود إلى «الاعتدال» من جهة أو إلى «الوسطية» من جهة أخرى باعتبارهما يمثلان التعبير المثالي عن فكرة «الوحدة الإيجابية ثنائية القطب». لا تعني «الوسطية» هنا بالضرورة التسطح في الطابع الوطني وطبعه باللون الباهت، ولكنها تعني الجنوح إلى الاعتدال والتوازن والعزوف عن الغلو والتطرف، وتعني تقبُّل الجديد دون نبذ القديم، وتعني صهر قضايا ومحاور ثنائية متباعدة ومتناثرة، سواء على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو الفكري، في بوتقة واحدة، والرقي بها إلى صيغة تكاملية جديدة تحقق الأفضل وتنبذ الأسوأ. تكمن أهمية هذه الوسطية في أنها تمثل منطقة الأمان والبعد عن الخطر، فالأطراف عادة تتعرض للخطر والفساد بخلاف الوسط الذي يقوم حوله سياج من الحماية والحراسة، فهو رمز الوحدة، لأن الشيء يمكن أن تكون له عدة أطراف، ولكن لا يمكن أن يكون له سوى وسط واحد، وهو رمز التكامل، لأن الصلة بين الأطراف تكون دائماً عن طريق هذا الوسط ومن خلاله وبواسطته. وعلى الرغم من الظروف المختلفة والمتغيرات المتباينة التي عشناها ماضياً وحاضراً من فقر وغنى، ومرض وصحة، وتشتت ووحدة، وفوضى وأمن، وزعزعة واستقرار، استطاعت شخصيتنا الوطنية تجاوز هذا المد والجزر، والتغلب على كثير من الثنائيات والاستقطابات، وبلورة سمات محددة أبرزها - كما رأينا - «التوفيقية» التي تمثل المجهر الذي يكشف دقائق تلك الشخصية، والمفتاح الذي يترك الباب مشرعاً أمام محاولات فهم مكوناتها وتقصي أبعادها. يتطلب الرقي بهذه السمة التوفيقية إلى مستوى الوسطية من جهة درجة قصوى من النضج الفكري والعقلي، ويرتبط من جهة أخرى بظروف البيئة المحيطة، وبقدر ما يسودها من مبادئ وقيم وموروثات ومكتسبات تشكل الدافع والحافز للوصول إلى ذلك النضج ومن ثم إلى الوسطية المنشودة. وفي التحليل النهائي، فإن نجاحنا في إثبات وجودنا وتحقيق ذاتنا وانتشالنا من دوائر التعصب المقيت والانغلاق المدمر وتيارات التكفير وآحادية الرأي من جهة، ومن التيارات الداعية إلى الانسلاخ التام عن نظامنا القيمي ونسقنا الاجتماعي، وتبنِّي مقولات دخيلة على فكرنا وتربيتنا من جهة أخرى .. كل ذلك يرتبط بمدى قدرتنا على الاقتراب من هذه الوسطية باعتبارها تمثل الصيغة المثالية لشخصيتنا الوطنية.