تنشر مقالات الدكتور الأنصاري هذه، كل اثنين وخميس من مفارقات الصراع السياسي والايديولوجي الدولي في المنطقة العربية في المرحلة الأخيرة من الحقبة الناصرية 1965-1967 إنه بينما توصلت الإدارة الأميركية في عهد لندون جونسون - بالتفاهم والتنسيق مع حلفائها البريطانيين، والاسرائيليين بصفة خاصة - إلى أن الحركة الثورية العربية بزعامة جمال عبدالناصر قد أصبحت خطراً يتهدد صميم المصالح الغربية ولا يمكن القبول باستمرارها، خصوصاً بعد أن اقترب الرئيس عبدالناصر من القوى الماركسية المحلية عام 1964 وأفسح لها مساحة ملحوظة في الخريطة الفكرية لجهازه الإعلامي المؤثر بقوة في توجيه الجماهير العربية. في تلك المرحلة بالذات وقبيل حرب حزيران يونيو 1967 بزمن وجيز، تبلور لدى القيادة السوفياتيه في المقابل اقتناع مؤداه إن الطبيعة الوسطية "التوفيقية" للناصرية، بين اليمين واليسار، وبين "الاشتراكية العلمية" و"الرسالات السماوية" - بحسب تعبير "الميثاق" 1962 - بالاضافة إلى استقلالية السياسة الناصرية في المواقف الأقليمية والدولية، قد أصبحت تمثل "عائقاً" أو "تجميداً" للحركة الثورية الراديكالية في المنطقة العربية التي غدت - بحسب التصور السوفياتي والتحليل الماركسي العربي - مهيأة لتغيير جذري لولا "وسطية" عبدالناصر، و"الوصاية" التي يمارسها بتأثيره القوي على حركة "الجماهير" و "البروليتاريا" العربية. ويبدو أن أجنحة في الأحزاب والحركات والنخب القومية في المشرق "البعث" بالدرجة الأولى شاركت في مثل هذا التصور الذي ستثبت مجريات الأحداث بعد ضربة حزيران 1967 إنه كان "وهماً" كبيراً وقع فيه السوفيات والماركسيون العرب والمزايدون القوميون ودفعوا جميعهم ثمنه الباهظ بعد مدة وجيزة من تلقي عبدالناصر ضربة حزيران، لكونه تصوراً وتحليلاً ينطوي على فهم قاصر وخاطىء أساساً لطبيعة القوى والأوضاع في المنطقة العربية محلياً ودولياً، ولدور عبدالناصر ومصر على امتداد هذه المنطقة. ويبدو ان القيادة السوفياتية، بالذات، كانت تتصور ان الضربة الاسرائيلية - الأميركية ستكون محدودة وانها سوف "تحجّم" الحركة الناصرية وتقلص تأثيرها نسبياً لتكون أكثر اعتماداً على الاتحاد السوفياتي، من دون أن يؤدي ذلك في المقابل الى اختراق اسرائيلي - اميركي حاسم في المنطقة العربية يقضي على المصالح السوفياتية، وبالتالي تمسك القيادة السوفياتية ب"الورقة الناصرية" في يدها وتستثمرها سياسياً بشكل أفضل في معركة الصراع الدولي. وذلك ما يمكن أن يفسر المعلومات غير الدقيقة بل المضللة التي سرّبها السوفيات لعبدالناصر بشأن الحشود الاسرائيلية ضد سورية، بالاضافة إلى "النصيحة" السوفياتية الشهيرة التي وجهها سفير الاتحاد السوفياتي في القاهرة إلى عبدالناصر قبيل فجر الخامس من حزيران بعدم توجيه "الضربة الأولى" إلى اسرائيل! وربما كان من أنعكاسات هذا التصور، التأثير الذي مارسته عناصر "يسارية" شديدة التطرف في النظام السوري السابق، حينئذ قبل إبعادها في الحركة التصحيحية التي قام بها الرئيس الراحل حافظ الأسد 1971، من أجل تأخير دخول الجيش السوري ساحة المعركة يوميْ 5/6 حزيران 1967 وذلك كي "ينهك" الجيشان الاسرائيلي والمصري نفسيْهما في الأيام الأولى من الحرب بحسب تصور تلك العناصر، فتصبح القوات السورية - بإشرافها - القوة المؤثرة في المنطقة قياساً بجيش العدو ... وجيش الشقيق في الوقت ذاته من دون تمييز!! وأياً كان الأمر، فإن "القوتين الأعظم" والقوى التابعة لهما، قد التقتا، على رغم صراعهما المفترض في تلك الفترة، على توجيه "ضربة" للحركة العربية بزعامة عبدالناصر والفارق بين "الامبريالية - الصهيونية" و "التحررية الماركسية اليسارية"، إن الأولى أرادتها ضربة ساحقة وهكذا كان، بينما الثانية، لغباء تحليلها، أرادتها ضربة محدودة وذلك لمصلحتها على حساب التيار الناصري، فأصبح وجودها "الضحية التالية" مباشرة بعد توجيه الضربة لعبدالناصر التي كانت قواها في ظله. وليس مستغرباً، في ضوء هذا التحليل القاصر، والسلوكية المكيافيلية، أن تتلاشى الأحزاب الماركسية في المنطقة العربية، واحدةً بعد الأخرى، ثم أن ينتهي ويتفكك الأتحاد السوفياتي ذاته بعد عقدين من تلك الخديعة المبطنة لرائد من رواد حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار والحليف الأبرز للأتحاد السوفياتي، كما كانت تسميه الأدبيات "السوفياتية" ... قبل أن تفقد أسمها! غير إن الانحسار البارز للقوى الماركسية واليسارية في المنطقة العربية لن يتضح إلا بعد بضع سنوات على هزيمة حزيران 1967، وعلى الأخص بعد غياب عبدالناصر عام 1970 الذي تبين أنه كان الرافعة الحقيقية لحركة التحرر العربي، وليس الشلل البعثية واليسارية المزايدة هنا ... أو هناك، حيث استطاع الرئيس أنور السادات تسلم السلطة كاملة في مصر 15أيار/ مايو 1977 مبعداً عدداً كبيراً من العناصر القيادية المصرية المحسوبة على السوفيات واليسار، بصفة عامة، وأعقب ذلك بوقت قصير تلاشي الأجنحة "الراديكالية" في الأنظمة المشرقية العربية، كما فقدت الفصائل اليسارية في المقاومة الفلسطينية دورها المؤثر، وذلك بعد أن زايدت على مواقف عبدالناصر في الشهور الأخيرة من حياته - خصوصاً حيال مبادرة روجرز - بما يوحي انها كانت تطمح بصورة جدية للتصادم معه ووراثة دوره. التي لم تكن مهيأة للاضطلاع بتبعاته القيادية والنضالية الكبيرة. فعندما قبل عبدالناصر "مبادرة روجرز" عام 1970 في ظروف المواجهة الصعبة، انقض اليسار المتطرف في المشرق، بشعارات المزايدة السائدة، وأخرج متظاهرين من فصائله في عمّان يهتفون "عبدالناصر ... يا جبان ..."! ومن مساخر هذا الثلث الأخير من القرن العشرين، ان بعض قادة أولئك المتظاهرين عادوا أخيراً إلى منطقة السلطة الفلسطينية بانتظار المتاح لهم من أدوار. وفي السنوات الأولى بعد الهزيمة، اعترف هشام شرابي بتراجع الأوهام الايديولوجية بُعيد الفورة اليسارية الثورية القصيرة والعابرة بين 1967 - 1970. يقول: "لم تدم نشوة الثورة طويلاً. أدركت أن الثورة ليست أمراً سهلاً، وإنها لا تحصل لمجرد ايماننا بضرورة حصولها. وبدأت أعي أن التحول أمر معقد للغاية، مذذاك، أخذ تفكيري اتجاهاً جديداً يدور حول واقعنا الاجتماعي وأسباب فساده. وأخذت أتساءل حول تركيب مجتمعنا العربي وطبيعة السلوك فيه. شرابي، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، ص21. هكذا لم يكن من مفر من أن يتحول التشخيص من القاء اللوم على صفقة الأسلحة الفاسدة عام 1948 إلى تحميل "التركيبة الفاسدة" كلها مسؤولية الهزيمة. وكان محمد حسنين هيكل قد أشار بُعيد وفاة عبدالناصر إلى أن آخر معاركه كانت مع البعث العراقي الذي صعد المزايدة عليه في تلك الفترة الحرجة من التراجع القومي. والمفارقة أن ميشيل عفلق، المؤسس الفكري للبعث كان قد كتب منذ أواخر 1956 - بُعيد معركة السويس - محذراً: "لو زال عبدالناصر، فإن ذلك سيرجع بالعرب عشرات السنين إلى الوراء، إلى زمن الاحتلال والتجزئة والفساد والانحلال، لأن سياسة عبدالناصر الاستقلالية العربية قد دفعت قضية العرب وامكاناتهم درجات حاسمة إلى فوق. ان جمال عبدالناصر هو فعلاً وبالذات موضوع وهدف لهذه المعركة الفاصلة التي يشنها الغرب الاستعماري..." "معركة المصير الواحد"، ص 111. إلا أن التعامل البعثي العملي مع عبدالناصر لم يلتزم مقولة عفلق الذي بدأ نفسه في التعرض لعبدالناصر بعد الانفصال 1961، الأمر الذي اضطر مفكراً قومياً من مستوى ساطع الحصري لأن يتساءل في حينه 1963: "أفليس من الغريب أن ينسى ميشال عفلق وحزبه كل ذلك ؟" - كتاب "الأقليمية وجذورها"، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 202-302. وواقع الأمر أن الشهور والسنوات الثلاث الأولى بعد الهزيمة 1967-1971 قد شهدت بشكل متواتر، نوعاً من الأنقضاض الأيديولوجي اليساري على مواقع الحركة الناصرية، كما ان الاعلام السوفياتي ركز على انتقاد "وسطية" و"بورجوازية" الثورة "العسكرية" الحاكمة في مصر في معرض تحليله لأسباب الهزيمة، وذلك من منطلق ذلك التصور - الوهم بأنه قد حانت اللحظة التاريخية المناسبة و"الحلقة" الملائمة في سلسلة التاريخ كي تمسك القوى الماركسية واليسارية بزمام الموقف في مصر والمنطقة العربية، وترث مواقع الحركة الناصرية وتتجاوز "وسطيتها"، وتنتقل الى مواقع أكثر حسماً و"ثورية". والواقع ان هذه المؤشرات في مسلك السوفيات واليسار العربي بعد الهزيمة مباشرة تؤكد تلك "النية" المبيتة من قبل. ويستطيع الراصد ليومياتتلك المرحلة 1967-1970 ان يتبيّن أن عبدالناصر نفسه، في بعض الظروف والمواقف، وبتأثير الهزيمة، والضغوط السوفياتية، والمؤثرات اليسارية المصرية والعربية، كان يدلي بملاحظات وتصريحات توحي بميله وانتمائه الشخصي إلى التيار المادي الجدلي، أو اليساري في الأقل. ففي تلك الفترة كان عبدالناصر يؤكد للجنة المركزية للأتحاد الاشتراكي: "ان الثورة يسارية"، ويقول عن نفسه: "أنا يساري متطرف"، ويُسّر الى الخاصة ان: "الطبقة الوسطى أصبحت مصدر خطر على الثورة. محمود أمين العالم: "تأثير عبدالناصر في بنية مصر الاجتماعية" في كتاب "23 يوليو: خمسة أبعاد"، ص 35. وفي المشرقالعربي، كانت النزعة اليسارية، بل الماركسية، تأخذ أبعاداً لم تأخذها من قبل. ويمثل كتاب صادق جلال العظم "نقد الفكر الديني 1968" الذي أثار ضجة كبيرة وقٌدّم إلى المحاكمة في بيروت بتهمة المس بالمعتقدات الدينية، أبرز نماذج الفكر الايديولوجي المتمركس في تلك المرحلة، وذلك من منطلق النقد والإدانة "لوسطية" عبدالناصر. ختم صادق العظم كتابه هذا بعبارة سارتر: "الماركسية هي الفلسفة المعاصرة" بما يعكس عنوان اللحظة و"المزاج" الفكري العام في تلك الآونة. العظم، "نقد الفكر الديني"، ط7، ص154. إلا أن ذلك البروز الموقت لليسار في تلك السنوات القليلة على صخبه كان بمثابة الطفرة السطحية والعابرة. وربما استطاع ذلك التيار إحداث ذلك الانطباع في المنطقة العربية موقتاً نظراً لمواقف عبدالناصر ذاته بعد الهزيمة 1967 وقبل أن يرحل عام 1970، في ما أتخذه من سياسات لتجاوز آثار العدوان. أما بعد رحيل عبدالناصر عام 1970، فيمكن "التأريخ" لصعود موجه يمينية كاسحة، في ظل الخطاب القومي "الثوري" ذاته في البداية، ثم بايديولوجية محافظة أكثر صراحة، أسهمت بدورها في تمهيد الجو في النهاية لسيادة الخطاب الديني بعامة، ثم الأصولي بصفة خاصة. وسوف نرصد في هذا الفصل هذه "التحولات" الايديولوجية والفكرية - على مدى ربع القرن الأخير - بتنويعاتها المختلفة، وارهاصاتها المبكرة، منذ أن بدأت في الظهور قبيل هزيمة حزيران 1967، والى أن تواترت وأنقسمت الى تيارات صريحة متواجهة - يميناً ويساراً - بعد أن أخذ المشروع "التوفيقي" الضخم الذي حاولت الناصرية إقامته في التصدع على صعيد "الجدل" الاجتماعي التحتي، وصعيد "الجدل" الايديولوجي الفكري الفوقي، بتأثيرات تلك الهزيمة / الضربة القاسية. وعلى رغم استمرار التأثير الواسع للمشروع التوفيقي الناصري بين ثنائيات الدين / والعصر ، التراث / التقدم... الخ حتى هزيمة حزيران 1967، فإن المشهد العربي لم يخل من ارهاصات تجدد الصراع وتصدع تلك التوفيقية قبل ذلك التاريخ. ففي عام 1965، أصدر سيد قطب أخطر كتبه "معالم في الطريق" الذي لم يمثل منعطفاً في تفكيره هو فحسب وانما في تفكير المنطقة العربية والاسلامية كلها. يمكننا القول الآن ، في نهاية القرن ، إن كتاب "معالم في الطريق" 1965 كان "المنفستو" الأول للحركة الأصولية الراهنة على امتداد الأفق الإسلامي من مصر إلى الجزائر إلى افغانستان. وربما كان من السابق لأوانه مقارنته من حيث الأهمية التاريخية بالمنفستو الشيوعي 1848، إلا أنه على الصعيد الإسلامي المعاصر يكاد يأخذ مثل هذه المكانة. ولعل الدكتور غازي القصيبي في "العصفورية" 1996 قد لخص أثر هذا الكتاب على مدى هذه الحقبة عندما أورد اللمحة الآتية: "أخرج الدكتور ضياء المهتدى من جيبه كتاباً صغيراً قدمه لي وقال: "هذا هو برنامجي". نظرت إلى الكتاب وقلت: "معالم في الطريق"، قال: نعم، للشهيد العظيم سيد قطب. قدس الله سره. هل سمعت بهذا الكتاب يا بروفسور؟"، قُلت : سامحك الله يا فضيلة الدكتور كيف أسمي نفسي البروفسور ولا أعرف أهم كتاب صدر في العالم العربي خلال نصف القرن الأخير؟". قال فضيلة الدكتور مصححاً: "خلال القرون الخمسة الأخيرة..." العصفورية، ص 274. وإنه من عميق الدلالة أن يستشعر النظام الناصري خطر هذا الكتاب في حينه عندما رصدت مباحثه سرعة انتشاره بين الجماهير انتشار النار في الهشيم، فيضغط الجناح اليساري المتطرف في النظام بإتجاه إعدام سيد قطب في آب اغسطس 1966 بعد مشاركته في "مؤامرة" ضد "أمن الدولة". أياً كانت ملابسات تلك "المؤامرة" فإن ذلك الكتاب / المنفستو هو الذي حمل "حيثيات" إعدامه في واقع الأمر. ينتهي ذلك "الكتاب المنفستو" بالحسم الجذري التالي: "إنها ليست معركة سياسية ولا معركة اقتصادية ولا معركة عنصرية، ولو كانت شيئاً من هذا لسهل وقفها"، لكنها في صميمها معركة عقيدة - إما كفر وإما ايمان ... إما جاهلية وإما إسلام" - هكذا تحدث سيد قطب عام 1965، مسدداً سهمه بحسم لا تراجع فيه إلى صميم العمود الفقري للمشروع التوفيقي الناصري الذي لم يتردد بدوره في تعليقه على المشنقة في العام التالي، فالجاهلية في مفهوم سيد قطب هي العصر الحديث. على الطرف النقيض وفي العام ذاته 1965 كان جلال صادق العظم، أستاذ الفلسفة اليساري وسليل الارستقراطية الدمشقية، يلقي في النادي الثقافي العربي - نادي القوميين العرب في بيروت - محاضرة بعنوان: "الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني". من ضمن ما قاله في هذا المحاضرة: "إن الدين كما يدخل في صميم حياتنا، وكما يؤثر في تكويننا الفكري والنفسي، يتعارض مع العلم ومع المعرفة العلمية قلباً وقالباً، نصاً وروحاً" "نقد الفكر الديني" 15، وفي نظرةٍ عكست ابتعاد اليسار وقصوره عن فهم الطبيعة الثورية الكامنة للدين - كما سيتضح من احداث الثلث الأخير من هذا القرن في العالم الاسلامي - أعاد العظم تكرار المقوله اليسارية / الماركسية الشهيرة القائلة ان الدين يمثل: "الايديولوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه" المصدر ذاته، 16، ولم يكن من باب الصدفه أن يكون المفكر الذي تعرض لسهام نقده في تلك المحاضرة هو... سيد قطب!! كانت الأرض العربية تعتمل بمثل هذه النقائض قبيل هزيمة حزيران، بينما كان المشروع التوفيقي الناصري، والقومي بعامة، يحاول تفادي الحسم المنذر بخطر الحرب الأهلية عن طريق ذلك التوليف التصالحي بين النقائض والأضداد. والواقع انه ليس من المبالغة القول ان الصراع الداخلي الذي شهدته وتشهده المجتمعات العربية في الثلاثين سنة الأخيرة منذ رحيل عبدالناصر 1970 حتى أواخر القرن العشرين - ذلك الصراع الذي وصل بعضه الى مستوى الحروب الأهلية - كان في جانب مهم منه تعبيراً عن انشطار ذلك المشروع الناصري التوفيقي وتحلله الى عنصريه النقيضين، وعودة هذين العنصرين الى التصارع بدل التوافق. ذلك أن "الثورة" الناصرية في الأساس كانت ثورة - في - التوفيقية لا ثورة عليها، وأنها كانت محاولة لتجاوز توفيقية الأصلاح الديني باستيعاب المؤثرات الجديدة للفكر الثوري واليساري في عالم منتصف القرن، من دون تخطي الثوابت التراثية. راجع: محمد جابر الأنصاري، "الفكر العربي وصراع الأضداد"، ص 557 - 580. في مطلع عام 1967 - قبل الهزيمة - عندما بدا ان المشروع "التوفيقي" الناصري بمصر ذاتها أصبح يعاني أزمة داخلية ويصل إلى ما يشبه الطريق المسدود، كان نجيب محفوظ - بدوره - يتابع الخط البياني للثورة في مختبره الروائي ويحدس فنياً بوضوح مدهش بالاحتمال المقبل في رواية "ميرامار" التي صدرت قبل الهزيمة بعدة أشهر. كان "الجدل" في هذه الرواية يتخذ شكل الحوارالآتي: - "اراد ان يقنعني بالثورة بمنطق غريب... أكد لي انه لا بديل للثورة الا واحد من اثنين: الشيوعيين او الاخوان، فظن انه دفعني الى ركن مسدود. فقلت بايمان: - ولكن ذلك هو الحق! ضحك ساخراً ثم قال: - بل يوجد بديل ثالث! - ما هو؟ - اميركا هتفت بغيظ: - اميركا تحكمنا؟ فقال بهدوء حالم: - عن طريق يمينيين معقولين، لم لا؟". إذا بدت هذه الرؤية الروائية وكأنها "نبوءة" شديدة البساطة والوضوح في حدسها بعد سنوات قليله من صدورها فإنها تمثل في الوقت ذاته "تاريخاً واقعاً ومقبلاً" - في الوقت ذاته! - شديد التعقيد والتعرج! فقد انطوت الظاهرة الناصرية أصلاً، على تيارين متباينين، اجتماعياً وحضارياً وفكرياً، وعملت على اقامة مشروعها التوفيقي الشامل بينهما، وذلك اخلاصاً منها لخطها الاصلاحي المبدئي في تجنيب المجتمع المصري خطر الانشطار والعنف الذي تعرض له أواخر العهد الملكي 1946 - 1952 ، وحرصها على تجاوز الحرب الطبقية بنهج الثورة "البيضاء" المستندة الى التحالف السلمي بين قوى الشعب العامل بما في ذلك البورجوازية الوطنية. * كاتب وأكاديمي ووزير بحريني سابق.