قديماً طرح القديس أوغسطين فكرة"التوفيق بين الفلسفة والفقه"، كما طرح ابن رشد في كتابه"فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة والاتصال"فكرة"التوفيق"بين معطيات العقل ومعطيات الدين، لكن كثيراً من الدراسات النقدية رأت أن ذلك كان نوعاً من التمرحل لإلغاء فكرة الدين لصالح سيطرة العقل، وأن الحدّ من أحادية الدين كان وسيلة لتحقيق أحادية الفلسفة، وحتى حين ظنت الكنيسة أنها توحدت بالفكر الفلسفي فإنها مارست المحرقة ضد غاليليو، وكانت نصوص الإدانة بحسب ما نقله بارتراند رسل تشتمل على أن غاليليو كان مناقضاً للنصوص المقدسة وللفكر الفلسفي أيضاً، وذلك راجع إلى أن"التوفيقية"حين تبلغ أقصى مدى من اتحادها، فإنها تكون نظرية لنهاية التاريخ، وأي خروج لفكرة أخرى مقابلها فإنه سيؤدي إلى تحقق صراع الحضارات في الوجود الكوني. إذاً فما الحل لتحقيق توافقية لا تؤدي إلى أحادية مطلقة في نهايتها، وفي الوقت نفسه تتصالح مع المسلمات والمبادئ الأخلاقية والقيمية للإنسان المسلم؟ لا يجد الدكتور نزار مدني في الإجابة على هذا السؤال حرجاً، لكنه يشترط لذلك أن يقرّ القارئ السعودي معه بأن المجتمع يقوم على ظاهرة مسلّم بوجودها، وهي ظاهرة"الثنائية القطبية"، وتتبدى هذه الظاهرة بحسب مدني حين نتلمس تأثير البعد الديني على شخصيتنا الوطنية، ثم تفصح عن نفسها هذه الظاهرة أكثر حين نعرج على تأثير البعد السياسي، وتبرز من مكنها أكثر حين نناقش البعد الاجتماعي، وتسفر عن مكنونها حين نعالج تأثير البعد الاقتصادي، بل إنها تطل علينا ? وإن على استحياء ? حتى في تناولنا لتأثير البعد الجغرافي، تلك هي"الثنائية القطبية"، والمشكلة في الصراع هي أن كلا الطرفين توجد لديه هذه الثنائية، لكن الذي يُوجد الصراع هو أن كلا منهما ينطلق من إحداهما، ولا ينطلق منهما جميعاً، ولو أنه تم الانطلاق منهما جميعاً أو الانطلاق من البعد الحقيقي لإحداهما، وليس البعد الذي يضفيه عليها التعصب، فإن الانطلاق من إحداهما يستصحب معه الانطلاق من الأخرى كضرورة، ويوضح مدني ذلك بقوله: "حين ننطلق من تأثير البعد الديني نجد أن التأثير الذي يحدثه الإسلام في مقومات مجتمعنا لا ينسحب على السياسة والاقتصاد والثقافة والفكر وحسب، ولكنه يمتد ليكوّن الخصائص والملامح الأساسية التي تتسم بها شخصيتنا الوطنية ذاتها، ونحن حين نتحدث عن الإسلام في هذا الإطار، فإننا نتحدث في الواقع عما أسماه البروفيسور علي عزت بيغوفتيش ب"الوحدة ثنائية القطب"، والمقصود بها تلك التي تصهر قضايا ومحاور ثنائية، قد توهم أنها متباعدة ومتنافرة في ظاهرها مثل: المادة والروح، الدين والدنيا، العبادة والعمل، الفردية والجماعية، السماء والأرض، وتذيبها لتكوّن منها مركباً جديداً وخلاصة جديدة". ويرى مدني أن"هذه الوحدة الكامنة في طبيعة الإسلام هي التي مكنته من أن يجمع بين ما يتوهم تناقضه من الأمرين في كيان واحد، وهو جمع أو توحيد لا يقوم على أساس فكرة التجاور والتقارب"، فما يطرحه مدني ليس مجرد التعايش، ولا يصل إلى الوحدة الوطنية المبنية على إلغاء الوحدة الدينية، ولا كذلك على إلغاء المواطنة وتعديد الانتماءات انطلاقاً من الوحدة الدينية. وانطلاقاً من هذه الفكرة، فإن مدني يؤكد أن"أي حلول آيديولوجية عقائدية تغلّب جانباً من طبيعة الإنسان على الجانب الآخر من طبيعته، من شأنها أن تعوق انطلاق القوى الإنسانية وتؤدي إلى الصراع الداخلي ولو بعد حين"، ومن هنا فنظريته ترى أن الوئام الغربي الحاصل الآن في دول الغرب أو في الولاياتالمتحدة الأميركية إنما هو وئام مرحلي، لأن هذه التوحدات لا تزار في أطوار المهد من تشكلها، وما أن تكتمل تلك التوحدات وتتضح مآلاتها حتى يرتد عنها أربابها، لأنها لم تقم على الدمج بين الفرد والجماعة، وإنما قدست في نظرياتها الأخلاقية والاقتصادية على الأقل على الفرد وتجاهلت الجماعة، وفي جانبها الإصلاحي السياسي تناست الجانب الآخر الذي يقوم عليه الشق الآخر من الاستقرار، ألا وهو الإصلاح الروحي والبحث عن العبادة الصحيحة والشرع الصحيح. لكن أين موقع الشارع والإنسان من هذه النظرية؟ يبدو أن نظرية الدكتور نزار مدني تؤدي إلى رأي مفاده أن تحقيق العدالة الاجتماعية متوقف على قدرة وإرادة الشق السياسي من الثنائية على تحقيق المعطيات الفكرية والعقدية بنزاهة واقتدار على الأرض، ومن هنا فإن الهدف النهائي لتحقيق هذه"التوفيقية"ليس مجرد التوفيق وإمساك العصا من المنتصف، وإنما هو تحقيق"الوسطية"بالتزاوج المثمر بين طرفي"الوحدة الإيجابية ثنائية القطب"وذلك هو مؤدى مسارها الإيجابي حتمياً كما يراه الكاتب. وعلى رغم ذلك، فالمؤلف لا يغفل المسار السلبي لرؤيته"التوفيقية"، ويؤكد أن من أشد نقاطها السلبية أن الانحراف بها عن مسارها السليم يؤدي إلى نشوء أو انتشار أو تغلغل"الازدواجية"، سواء أفي الفرد أم في المجتمع، أو إلى"الانفصام"بين الداخل والخارج داخل الذات وخارجها، أو ظهور البون الشاسع بين"الادعاء"و"الحقيقة"! ما يؤدي إلى فقدان المجتمع الثقة في النظرية، ويسارع أي من طرفي الثنائية إلى محاولة الانتقال قسرياً إلى الطرف المادي المتطرف أو الديني المتطرف بمعزل عن الآخر.