أستقبلت المكتبة العربية حديثا كتاب «قضايا ومواقف في الفكر والسياسة» لمؤلفه الدكتور نزار عبيد مدني الصادر عن مكتبة العبيكان»، والذي ضم بين صفحاته البالغة (415) صفحة من القطع الكبير، مجموعة من الدراسات والمقالات التي سبق للمؤلف الدكتور نزار نشر بعضها، ملحقًا بعضًا مما لم ينشره، ولعل إشارة الدكتور نزار في إطلالة الكتاب المنسوجة تحت عنوان «بين يدي الكتاب» تقدم إضاءة واضحة لطريقة تأليف كتابه؛ حيث كتب يقول: «لقد حرصت جاهدًا على الإبقاء على نصوص هذه الدراسات والمقالات بالصيغة نفسها التي كتبت بها في الأساس دون تعديل في مضمونها، أو تغيير في أسلوبها، أو تحديث في معلوماتها، في حين أضفت إلى البعض الآخر أو حذفت منه ما استدعته مقتضيات النشر في كتاب، وإن كان بشكل طفيف جدًّا لم يؤثر على النص الأصلي أو يغير في فحواه وبنيانه شيئًا مذكورًا..».. ويمضي الدكتور مدني في إشارته «بين يدي الكتاب» ليكشف عن الهدف الأساسي الذي دفعه لجمع ما كان نشره حيث يقول: «.. كان هدفي من ذلك إمتاع القارئ بتمكينه من رؤية ما تحقق وما لم يتحقق من رؤى وأفكار وتوقعات بالنسبة للقضايا التي تضمنتها تلك الدراسات والمقالات، وذلك من خلال المدة الزمنية وقت تأليفها وحتى ظهورها في هذا الكتاب، ووهي مدة تجاوزت في بعض الحالات خمسة عشر عامًا..». ولئن أحس قارئ هذه الإضاءة ب «حيرة» في كيفية بحث المؤلف عن وحدة موضوعية تربط بين مقالات كتابه على تفرق وتنوع مشاربها، فإن الدكتور مدني يزيل عنه هذه الحيرة بقوله: «.. على الرغم من أن هذه المقالات والدراسات تعالج موضوعات مستقلة، وتتناول قضايا تتوزع بين اهتمامات قُطرية وقومية ودولية وفكرية مختلفة، إلا أنها، في واقع الأمر، تتسق في خيط واحد، وترتكز على محور مشترك يسعى نحو ربط الفكر بالواقع وتغذية الواقع للفكر بالنسبة للقضايا المطروحة، سواء على الصعيد الوطني أو العربي أو الإسلامي أو الدولي، كما أنها تؤكد على حقيقة أنه على الرغم من طول المدة التي انقضت على تأليفها فإنها لا تزال تلامس اهتمامات الناس وتشغل بالهم وفكرهم، وتتعلق بمصيرهم ومستقبلهم..». خمس قضايا.. وخمسة فصول في ضوء هذا البيان المفحم، وبما أضافه الدكتور نزار فيما يخص دافعيه الشكلي والموضوعي من إعادة نشر مقالاته، تنفتح صفحات الكتاب خمسة فصول يتناول تباعًا قضايا، وعربية، وإسلامية، ودولية، وفكرية.. ففي الفصل الأول «قضايا عربية» يستهل المؤلف بموضوع «التوفيقية.. مفتاح شخصيتنا الوطنية»، حيث يشير الدكتور نزار إلى أن «الثنائية القطبية» تمثل ظاهرة متجذرة في أعماق شخصيتنا الوطنية، وتغلغل في الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية، معددًا مسارين للتوفيقية (إيجابي وسلبي)؛ أما السلبي فيبرز حين الانحراف بالتوفيقية عن مسارها السليم، أو عدم القدرة على التكيّف مع متطلباتها ومقتضياتها، وهو ما يؤدي في بعض الحالات - بحسب رأي المؤلف - إلى نشوء أو انتشار أو تغلغل ظاهرة الازدواجية، على خلاف ما تنتجه التوفيقية في مسارها الإيجابي حيث تكون ثمرتها عندئذ تحقيق الاعتدال والوسطية اللذين يساهمان في صياغة الصورة المثالية للشخصية الإسلامية. المقال الثاني في الباب الأول يتناول فيه المؤلف «ظاهرة التطرف» مؤكدًا أن معالجة هذه الظاهرة تكمن في استكمال ثلاثة عناصر رئيسة تتمثل في التحديد والتعريف ثم التشخيص، عارضًا لكل عنصر من هذه العناصر على نحو تفصيلي ممنهج. ويرصد المؤلف في مقاله الثالث في الفصل الأول جملة من الإيجابيات والسلبيات في مجتمعنا مركزًا على نقد ظاهرة التعميم عند حدوث بعض الأخطاء من أفراد المجتمع ليدمغ بها كل أفراده بما يشي بأن المجتمع كله على هذه الشاكلة، داعيًا الى ضرورة النظر في مثل هذه الأحوال إلى الحدث ومسبباته دون الإيحاء بأنه ناتج عن سلوك جمعي يتسم به كل أفراد المجتمع. وفي مقاله «ظاهرة ملموسة» يسلط مدني الضوء على حركة الترجمة، مؤكدًا أننا في أمس الحاجة إلى برنامج مكثف ومدروس بنقل أمهات الكتب من الثقافات الأخرى سواء أكانت شرقية أو غربية، على أن يتولى هذه المهمة من لهم الدربة والمقدرة من ناحية امتلاكهم لناصية اللغة المُترجم منها وإليها، لافتًا إلى خطأ بعض المفردات التي تمت ترجمتها وأصبح خطؤها شائعًا ومن ذلك مفردة (Secularism) المترجمة إلى «العلمانية» مبينًا أن هذه الترجمة غير صحيحة، وأن مترجميها لم يفهموا من كلمة (الدين) و(العلم) إلا ما يفهمه الغربي المسيحي منها، من واقع أن الدين والعلم في المفهوم الغربي متضادان متعارضان، كذلك يقدم المؤلف صورة لعدد غير قليل من الترجمات غير الدقيقة لمصطلحات وكلمات صارت شائعة بين الناس. في مقاله «تأملات في اللغة» يشير المؤلف إلى ما تتعرض له اللغة العربية من تحديات كثيرة أثرت في نموها، من بينها المواجهة بينها وبين اللغات الأخرى وبخاصة اللغة الإنجليزية، وزحف تيار العولمة، وعزف أبناء العربية عنها. ويجاور هذا المقال حديث عن «المنظّرون والممارسون» بإشارة المؤلف إلى أن إحدى مشكلات مجتمعنا كثرة المنظرين مع وجود بون شاسع بين هذا التنظير والممارسة، مبينًا أن المطلوب هو ألا يتمادى المنظرون في الابتعاد عن الواقع، وأن يحاولوا الاقتراب من الموضوعية، وألا يمعن الممارسون في الواقعية والبراجماتية على أن يضيفوا إلى ممارساتهم قسطًا من التنظير وشيئًا من الأكاديمية، على أن يعملا معًا لتجسير الفجوة التي بينهما. ويختم المؤلف الفصل الأول من كتابه بمقال تحت عنوان «الشكل والمضمون» يتناول فيه موضوع السعودة، مبينًا أن الوصول إليها لا يتم إلا بالحد من استقدام العمالة الأجنبية أو بإجبار الشركات والمؤسسات على تشغيل العمالة الوطنية، كما يتناول أيضًا موضوع التعليم وتطويره، ويرى أن ذلك لن يتم إلا بإعادة النظر في المناهج الدراسية أو بتحسين مستوى المدرسين والمعلمين، أو بزيادة الربط بين المنزل والمدرسة، كما يتناول موضوع رفع مستوى الألعاب الرياضية، والخصخصة، خالصًا من ذلك إلى القول: «إذا كان التنظير في القضايا والمشكلات شيئًا هينًا يسيرًا، وعملية سهلة ممكنة، فإن تحويل هذا التنظير إلى برامج محددة وخطة محكمة وتطبيقات عملية أمر يتطلب جهودًا مكثفة، وإحاطة تامة بالتفصيلات والخلفيات، وبما تتيحه وسائل التقنية الحديثة من إمكانات، وهو أمر لا يستطيع القيام به فرد بعينه مهما أوتي من سعة في العلم وبسطة في الفهم، وإنما لا بد أن تتضافر فيه الجهود بشكل جماعي منظم». يستهل المؤلف الفصل الثاني من كتابه والذي يتناول فيه «قضايا عربية» بتقديم «رؤية جديدة للصراع العربي الإسرائيلي» مفادها أن هذه القضية لن يتأتى لها الحل بشكل نهائي وحاسم عن طريق ما يطرح من «حل سِلمي قوامه المفاوضات الجارية بين الطرفين، مثبتًا رؤيته من خلال ثلاثة محاور تتجلى في استحضار الماضي، واستقراء الحاضر، واستشراف المستقبل، مبينًا أن استحضار الماضي يشير إلى أن النزاع بين العرب وإسرائيل ذا طبيعة عقائدية أو أيديولوجية، والشواهد تشير إلى أن هذا النوع من الصراع لا يمكن أن يحسم إلا عبر الحرب أو عن طريق التغيير الجذري للتركيبة الاستراتيجية والسياسية، أما استقراء الحاضر فيشير إلى أن إسرائيل ترى أن أمنها قضية تتجاوز في أهميتها الاتفاقيات الثنائية مع الدول العربية، بما يعني أن الأمن في مفهومها لا ينحصر بما يمكن أن يحققه السلام، بل بما تستطيع إسرائيل أن تفرضه بقوتها الذاتية، أما استقراء المستقبل فيشير إلى أن الطرف العربي المفاوض غارق في متاهات لا أول لها ولا آخر تستنزف طاقته وتبدد جهوده، خالصًا من ذلك إلى أن المفاوضات لن تثمر عن سلام أو حل لهذه القضية المعقدة. ويقدم الدكتور مدني في الدراسة الثانية من الفصل الثاني «مدخل لدراسة الأمن القومي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية» راسمًا أربعة أطر لتحقيق الأمن القومي لدول مجلس التعاون تنظر في ضرورة أن يظل الخليج بعيدًا عن الصراع الدولي بصفة عامة، وأن يحتوي النزاعات المسلحة التي تنشب في المنطقة ومحاولة درء أي أخطار عسكرية أو تهديدات قد تتعرض لها، وإنهاء الخلافات العربية وتحقيق التضامن العربي وتسخير الطاقات لمواجهة التحدي الصهيوني، وأخيرًا انتهاج مبدأ التنمية الشاملة على أساس علمي ومحاولة القضاء المشكلات الناجمة عن تطبيق برامج التنمية في دول مجلس التعاون. يتأسى المؤلف في مقاله الثالث المعنون ب «رسالة إلى أمة» على الحالة التي وصلت إليها الأمة العربية والإسلامية وانطفاء جذوة الحلم بالوحدة والتضامن، داعيًا إياها إلى توحيد كيانها المستند على الدين واللغة والثقافة والفكر، وإسقاط كل الانتماءات القديمة. ويسلط المقال الرابع إلى أزمة المثقفين، مؤكدًا أن الأزمة ليست في الثقافة بل في المثقفين أنفسهم، مشيرًا إلى أن المثقفين ينقسمون إلى قسمين، مهاجرين خارجيين، نأوا عن أوطانهم وتغربوا عنها روحًا وجسدًا، وآخرين داخليين يعيشون على هامش الأحداث ولا يتفاعلون بها أو معها، مبينًا أن هذا النمط من المفكرين والمثقفين العرب يعاني من خلل أساسي ذي شقين، يتجلى أولهما في أن بعض التنظيرات والأطروحات الفكرية العربية مارست تأثيرها على الفرد العربي ذات يوم وهي وافدة عليه وليست من صميم بيئته ومحيطه العربي، والآخر جنوح بعض الفئات الفكرية والثقافية إلى الاستئثار بالتيارات الفكرية العربية واحتكارها وتنصيب نفسها ناطقًا رسميًا باسم الفكر العربي، راسمًا الحل للخروج من هذا الوضع بضرورة نأي المثقفين العرب من الوقوع في أحابيل المعايير المزدوجة، والنزول من الأبراج العاجية، والوعي بعمق الوجدان الديني في مجتمعاتهم، والكف عن النظر بإحباط للحضارة العربية والإسلامية دوروها، في مقابل النظر بإعجاب مبالغ فيه للحضارة الغربية وتأثيرها. وقريبًا من ذلك يتناول الدكتور مدني في مقاله «تحديات أمام الفكر العربي» أسباب تخلف الفكر العربي والفكر السياسي عن مواكبة النظريات التي تطرح أنساقًا فكرية تستنطق التاريخ وتستشرف المستقبل، لافتًا الى أن المعضلة الكبرى أن الفكر العربي لا يدخل المنعطف التاريخي الحاسم بعقل سليم بل بخلل واضح في بنيانه، مؤكدًا أن الفكر العربي في انتظار الطبيب الذي يستطيع أن يضع يده على علته ومكن دائه ليصف له العلاج الناجع. المقال قبل الأخير في هذا الفصل تناول «شخصية الأمة: مقوماتها ومصادر تكوينها»، مبينًا أن دراستنا لشخصيتنا الوطنية لا تقودنا إلى اكتشاف البعد الحضاري لذاتنا فحسب، ولكنها تكشف لنا أيضًا أهمية هذا البعد ومحوريته بالنسبة للتحدي الكبير الذي يواجهنا في تاريخنا الحديث. خاتمة مقالات هذا الفصل جاء تحت عنوان «العودة للمستقبل» على خلاف بما تشي به مفردة العودة التي ينتظر أن يكون اللاحق لها «الماضي» ولكن الكاتب يمضي بنا إلى المستقبل، داعيًا علماء الاجتماع والنفس إلى البحث في ظاهرة «الحنين إلى الماضي» بتتبع آثارها الإيجابية والسلبية معًا. بين يدي القضايا الإسلامية سبعة مقالات اشتمل عليها هذا الفصل من كتاب الدكتور نزار مدني، حيث يستهل هذا الفصل بتناول «البعد الدولي في المنظومة الإسلامية»، مشيرًا إلى أن أبرز المشكلات التي عانت منها البشرية منذ فجر التاريخ تجلت في عدم اهتدائها إلى فكرة متكاملة عن الكون والحياة والإنسان، مؤكدًا أن الدين لا يمكن تنحيه من الحياة، بحسبان أن الدين الإسلامي قد أخذ في الاعتبار قضية التطور التاريخي، مبينًا أن مصدر القوة في النظام الإسلام يتأسس على أربعة أبعاد تنظر في البعد الخاص بتنظيم العلاقة بين الفرد وخالقه، وبين الفرد وغيره من الأفراد، والبعد المنظم للعلاقة بين الفرد والدولة، وآخرها البعد الخاص بتنظيم العلاقة بين الدول الإسلامية وغيرها من الدول والمجتمعات. أما بقية موضوعات هذا الفصل فقد تناولت تباعًا «نحو منظور موضوعي للرؤية الإسلامية للعلاقات الدولية والتنظيم الدولي»، و»نحو محدد مشترك للقضايا الأساسية التي تواجه المسلمين في العصر الحديث.. تأثير العلمانية على النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية»، كما يستعرض المؤلف أيضًا في هذا الفصل «تأثير قضية القومية على النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية»، و»المسلمون وقضية العولمة»، و»العلاقة بين الإسلام والغرب(التغريب)». الفصل الرابع من الكتاب تناول «قضايا دولية»؛ حيث يستهل الفصل بمقال «الهيكل الجديد للنظام الدولي المعاصر» داعيا المؤلف فيه إلى تصحيح المصطلح، مبينًا أن الهيكل السياسي الدولي الراهن مرجعه الأساسي محصلة الهيمنة والتوسع الأوروبي السابق، لافتًا إلى أن الوضع الراهن للعلاقات الدولية يصفه بعض علماء العلاقات الدولية ب «الوضع الفوضوي»، مستعرضًا أسباب الهيمنة الأميركية الحالية على الأوضاع العالمية. بقية المقالات تناولت تباعًا «كلام في السياسة.. الدولية»، و»إيدز العلاقات الدولية المعاصرة»، في إشارة منها إلى أن «فيروس العرقية» هو «إيدز» العلاقات الدولية المعاصرة بحسب إشارة مجلة (الإيكونومست)، ومن بين المقالات أيضًا «مقومات القرار السياسي الخارجي»، و»خواطر حول نظرية المؤامرة»، ويختم الفصل بمقال عن «الترويكا». قضايا فكرية في هذا الفصل يبسط المؤلف سبعة مقالات، يبتدرها بدراسة تتناول «قرن التحولات والتغيرات» مستجليًا من خلاله ما يشهده العالم من تحولات جذرية في القرن الحادي والعشرين، مبينًا أن هناك تحولات جديدة بدأت تمارس تأثيرها على الأسس والمبادئ والفلسفة التقليدية لعلم الاقتصاد، أما بقية المقالات الست الأخرى فتتناول تباعًا «ذكاء الكمبيوتر»، و»إنه آلة ونحن بشر»، و»نهاية العالم؟»، و»ما يجب وما لا يجب»، و»إنهم يقلّبون الحجارة».