عندما تحول التلفزيون والإذاعة إلى هيئة مستقلة تفاءل كثيرون ظناً منهم أن العمل سيكون أكثر احترافية وجرأة واستقلالاً والتزاماً بمتطلبات الإنتاج الحديث بعيداً عن نمطيات العمل الرسمي داخل أروقة الوزارة. على أرض الواقع كانت المفاجأة فلم يختلف التلفزيون، بكل قنواته، والإذاعة عن سابق عهدهما، واستمرت وتيرة العمل التقليدي، وغابت ملامح نجاح تعوّد عليها المتابعون، وتشتت الجهد بين عدة قنوات ولدت فجأة بين طرفة عين وانتباهتها، ولم تحظ باهتمام، أو تخطيط يحدد أهدافها وطبيعة عملها، والمستهدفين منها، وأشكال الإنتاج الذي تتطلبه، والتحديات التي قد تواجهها. النقد الوافر الذي تكيله أطياف عدة للقناتين السابقتين يدعو للتريث ورفع مستوى الأداء وتحسين صورة التلفزيون المطالب بتحسين صورة أشياء عدة، كما تفعل وسائل الإعلام العصرية ويفعل نظراؤه في بيئات أخرى، لكن ذلك لم يحدث، أو حدث بشكل محدود، ومع ذلك سارعت الهيئة إلى تدشين خمس قنوات جديدة تزايد النقد معها، وتعالت وتيرة عدم الرضا وفقد الأمل، وطالب آخرون بإعادة تأهيل هذه الباقة، ورفع مستواها، أو إغلاقها درءاً لهدر المال وتشتيت الجهود والطاقات. قناة الثقافية على رأس هذه المجموعة التلفزيونية، وقد كانت مفاجأة، واستمرت مع الأيام صانعة مفاجآت على مستوى البرامج وأفكارها، وقدرات المذيعين، ومتابعتها للأحداث، وإنتاج البرامج الثقافية، واهتمامها بقيادة الرأي العام في مجالات فشل فيها آخرون مثل مسارات الفنون الجميلة، والأدائية، والتراثية والشعبية، والتشكيلية، وإتاحة الفرصة للموهوبين ورعايتهم والاحتفاء بهم عبر برامج جماهيرية تنفذ بالتعاون مع التعليم، أو الجامعات، أو هيئة السياحة وجمعيات الثقافة، أو الأندية الأدبية لتكون القناة منبراً عصرياً للثقافة والفن والجمال والإبداع بكل أطيافه، لكنها، بكل أسف، ولدت مترهلة، واستعارت كثيراً من سمات الدعة والسكون من شقيقتيها الكبيرتين. لم تعلن القناة فلسفتها ورؤيتها وأهدافها، ولم تختر هيئة استشارية تعضّد دورها تكون على علم واقتراب من المشهد الثقافي ومفاهيمه، وتوثق علاقته بأشكال الإنتاج التلفزيوني وطرق استثماره.. وفي تقارب الطرفين فرصة تقديم باقة مميزة من الأعمال تحمل صفة الجماعية وروح الفريق الذي يتحمل صناعتها وتبعاتها خير من الفردية والاجتهادات التي دفعت برامج إلى الظهور ثم الاختفاء المفاجئ، رغم نجاح بعضها. قبل ثلاثة عقود وأكثر قدّم التلفزيون والإذاعة عدة برامج ثقافية بقيت أصداؤها حتى اليوم رغم قلة الإمكانات، لكنها كانت تحمل رؤية وأهدافاً، ويقوم على إنتاجها وتقديمها مذيعون مؤهلون احتفوا بكثير من المبدعين في كل المجالات، وأتذكر هنا على سبيل المثال «مسرح التلفزيون» و«وتر وسمر» و«الكلمة تدق ساعة» في التلفزيون.. و«استديو رقم 1» و«قصة من الأدب السعودي» و«من القائل» في الإذاعة. أظن «قناة الثقافية» قادرة على أداء دور ريادي يفوق المؤسسات التقليدية إن حددت رؤيتها وأهدافها، واستعانت بفريق مؤهل، وفتحت أبوابها وتعاونت مع القطاعات الثقافية الكبرى في المملكة، وآمنت بقضايا الثقافة والفنون وارتباطها بحياة وتكوين الإنسان المتصالح مع نفسه ومحيطه، المحتفي بقيم الجمال والضوء في عالم يتزايد فيه الظلاميون ومصادرو الحريات وكارهو الفن. والمواجهة لا تتم بالنوايا الحسنة وحدها، ولا البث طيلة ساعات اليوم اعتماداً على أفلام وثائقية عتيقة ونمطية، ولا هدر الأموال على ديكورات برامج مدرسية مباشرة في زمن تغيرت فيه لغة الخطاب ومؤثراته، والتقت تخصصات عدة من أجل صياغة برامج تلفزيونية تتوازى مع عصرها وتصل إلى مستهدفها لتؤثّر، وتقنع، وتغيّر ولا أظن تلفزيوننا، بكل قنواته، يواجه التحديات الراهنة كما يجب.