إن الحديث عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة آل سعود حديث طويل ولا يمكن أن نعطيهم حقهم كاملاً لكثرة ما كتب عنهم من الكتّاب العرب والأجانب من رحالة ومستشرقين، والشيخ محمد بن عبدالوهاب ألف عنه أكثر من مائة كتاب ورسالة كلها ضد دعوته وتجديد الدعوة وإحياء السنة النبوية في صحراء نجد والجزيرة العربية، وحال الشيخ محمد بن عبدالوهاب في تجديد الدعوة السلفية هي حال كثير من الأئمة والدعاة العظماء الذين سبقوه، حيث قوبلت دعوتهم بالرفض والصد، (فعلم شيخنا علم متبوع وليس علماً منقطع) ومدرسته مدرسة حديثة حتى أصبحت الدرعية منبراً وملتقى لجميع الدارسين من أنحاء الجزيرة العربية وخارجها من العراق وبلاد الشام وكل من عرف حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وجدها دعوة صادقة نابعة من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حيث انتشرت انتشاراً واسعاً في الجزيرة العربية وخارجها ولنعجل حديثنا عن دعوة الشيخ -رحمه الله- من جانب نظرة الدولة العثمانية وموقفها من هذه الدعوة ومن أئمة الدولة السعودية الأولى، فتجدها خلال خمسين عاماً منذ ظهور الدعوة وانتشارها وملازمة الشيخ محمد بن عبدالوهاب للإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى لم تعط أي اهتمام ولم تتخذ أي إجراء ضد الدعوة بسبب أن الدولة العثمانية في العراق والشام ومصر يرفعون دائماً تقارير كاذبة للخليفة العثماني، حيث يذكرون في مراسلاتهم بأن هذا الداعية محمد بن عبدالوهاب ما هو إلا شخص يقوم بالدعوة إلى الله بجهود فردية وليس له أي خطر على الدولة العثمانية، حيث يقيم في منطقة نائبة بقلب نجد في بلدة صغيرة اسمها الدرعية يرأسها إمام اسمه محمد بن سعود. (هذه وثائق في الأرشيف العثماني) ولكن واقع وحقيقة الأمر هو وجود دولة لها كيانها السياسي والاقتصادي والاجتماعي بشهادة كثير من الرحالة والمستشرقين الذين وفدوا إلى الجزيرة العربية وخاصة منطقة نجد فللإمام محمد بن سعود -رحمه الله- مؤسس الدولة السعودية الأولى خلال حكمه الذي دام أربعين عاماً ومن بعده أبنائه وأحفاده وضع القواعد لتأسيس دولته على أرض الجزيرة العربية منطلقها منطقة نجد عاصمتها الدرعية وهي منطقة صحراوية أهملت إهمالاً كاملاً من قبل الدولة العثمانية حتى مقومات الحياة من أمن اقتصادي أو اجتماعي وحتى البنية التحتية حرمت منها عمداً طيلة ثلاثة قرون ماضية، ولكن بفكر وحكمة الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- جعل أض الجزيرة العربية أرض الأمن والأمان والاستقرار الاجتماعي بتوفيق من الله فقامت الدولة السعودية الأولى بأمتها وعلمائها ورجالها، وأصبحت هذه الدولة الفتية بكيانها الكبير محط أنظار وإعجاب كثير من الرحالة والمستشرقين الأجانب الذين قدموا إلى منطقة الجزيرة العربية وخاصة منطقة نجد وتحملوا كثيراً من الصعاب والمشقة لكي يزودوا حكوماتهم بالتقارير عن هذه الدولة الفتية مع وجود كثير من التسهيلات من ولاة الدولة العثمانية، والكثير منهم خالف الحقيقة بكتابتهم وجانبهم الصواب لجهلهم بالإسلام وعدم معرفتهم بالأهداف السامية بقيام الدولة السعودية الأولى (1726م) فنجد الإمام محمد بن سعود ومن بعد أبناءه وأحفاده البررة لم يغفلوا عن رعاية وخدمة الحرمين الشريفين، ومن هنا بدأت وشعرت الدولة العثمانية بخطر الدعوة ومن أئمة آل سعود بعد ثمانين عاماً من قيام الدولة السعودية الأولى فقامت بحملاتها الإعلامية ضد الدعوة من خطب بالمساجد ومن فتاوى تصدر من هنا وهناك وعبر ولاتها في العراق والشام وخاصة مصر حتى تكسب الشرعية في حربها ضد هذه الدعوة المباركة ومجددها الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- وهذا هو المعلن عنه والمتعارف عليه لعامة الناس ولكن حقيقة وواقع الأمر في أروقة الدولة العثمانية هو القضاء على الدولة السعودية الأولى وعلى أئمتها وذلك عندما أحست واستشعرت بأن مكانتها وهيبتها في العالم الإسلامي سوف تفقدها وأن إشراف والقيام بخدمة الحرمين الشريفين وخدمة حجاج بيت الله الحرام سوف تكون تحت مظلة أئمة آل سعود، وبذلك أعدت العدة على أرض الواقع فقامت بتجهيز الجيوش للقضاء على كيان الدولة السعودية وعلى الدعوة ونشاطها وعلى أئمتها وعلمائها حيث لم تنطلق الجيوش من مقر الدولة العثمانية وذلك لضعفها وعدم القدرة بذلك وإنما قامت عن طريق ولاتها في المنطقة وفشلوا فشلاً ذريعاً بحروبهم المتكررة وباءت محاولاتهم بالفشل حتى تحقق لها ذلك بتكليف والي مصر الهالك محمد علي باشا وإعطائه جميع المزايا العليا من قبل الباب العالي والذي أمر بدورة بإرسال الجيوش والمعدات يقودها الهالك الغازي إبراهيم باشا 1816م بعد أن فشل والي العراق فشلاً ذريعاً في حربه مع الدولة السعودية وبهذه الحملة سقطت الدرعية في 9 سبتمبر 1818م بآخر إمام من أئمة آل سعود (عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز) فأصبحت نجد والجزيرة العربية تعيش في فوضى عارمة، حيث فقد الأمن والاستقرار الذيكانت تعيشه وتنعم به تحت مظلة أئمة آل سعود حتى الحرمين الشريفين (مكةالمكرمة والمدينة المنورة) لم تسلما من تلك الفوضى والخراب حتى أصبحت رعاية وخدمة الحرمين الشريفين تحت جهود شخصية من قبل أهالي مكة والمدينة المنورة، فهذه نتائج حرب الغازي الهالك إبراهيم باشا على الجزيرة العربية خلقت الفوضى بالمنطقة وعاد إلى مصر بعد سنتين من التدمير والقتل والتشريد والخراب دون أي اعتبارات دينية أو سياسية. ولو رجعنا إلى واقع وحقيقة أئمة آل سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في منطقة نجد والجزيرة العربية ليس هدفهم الاصطدام مع الدولة العثمانية حينما قامت الدولة السعودية الأولى وليس هدفهم قتال الناس وخلق الفوضى ووضع السيوف على رقابهم وإنما الهدف هو بناء دولة عصرية لها كيانها الخاص بثوابتها ومنهجها الكتاب والسنة ومن هنا لا يمكن أن نتناول دور كل إمام من هؤلاء الأئمة البررة والدور العظيم والقيادي الذي قاموا به بجعلهم الجزيرة العربية وخاصة منطقة نجد منطقة أمن واستقرار اجتماعي واقتصادي بتوفيق من الله. وليكن حديثنا عن الإمام الشيهد عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز آخر أئمة آل سعود في الدولة السعودية الأولى 1818م ودوره البارز طيلة حكمه الذي دام خمس سنوات بالحفاظ على ملك آبائه وأجداده بالتصدي للأعداء فمنذ قدوم الغازي طوسون باشا إلى الجزيرة العربية قاصداً نجد 1811م ومن ثم لحق به والده الهالك محمد علي باشا 1813م لتعزيز انتصارات ابنه طوسون ولم يبق طويلاً محمد علي في الجزيرة العربية ورجع عاجلاً إلى مصر لتهدئة الأوضاع والمشاكل الداخلية فيها؛ أما طوسون فواصل انتصاراته حتى وصل منطقة القصيم (وسط شمال نجد) والإمام كان أكثر استعداداً برجاله لمواجهة هذا الغازي وحدثت مناوشات عسكرية بين الطرفين كانت لصالح الإمام عبدالله بن سعود وذلك لجهل طوسون وجيشه بمنطقة نجد حتى تم الصلح الذي عرضه الإمام على طوسون باشا لحقن دماء أبناء المنطقة فقبل طوسون ذلك بشروط وضعها من خمسة بنود وتعتبر نافذة بعد موافقة والده محمد علي باشا، فتوقف الغزو وعاد راجعاً طوسون إلى مصر بعد استأذن والده بسبب مرضه وانسحبت قواته من القصيم وقبل انسحاب طوسون وقواته من القصيم أرسل الإمام عبدالله بن سعود مندوبين (عبدالله بن بنيان والقاضي عبدالعزيز بن إبراهيم) إلى مصر محملين بالهدايا للتفاوض بشأن شروط الصلح مع محمد علي باشا إلا أنه رفض التفاوض وعاد مندوبا الإمام إلى نجد بعد قولته المشهورة (يتعهد محمد علي باشا بالقضاء على الدولة السعودية وتحطيم الدرعية في الوقت المناسب)، ولما علم الإمام عبدالله بن سعود بفشل المفاوضات مع الهالك محمد علي باشا وعاد مندوباه من مصر ألحقه بعدة رسائل ومثلها إلى والي العراق والشام من أجل حقن دماء أبناء المنطقة وتجنيبها الحرب، كما أنه لم يغفل الإمام عبدالله بن سعود بإرسال عدة رسائل إلى الخليفة العثماني مماثلة لرسائل محمد علي باشا ولم يغفل في رسائله إلى الباب العالي بإيضاح موقفه تجاه الدولة العثمانية، حيث ذكر بأنه تابع للخلافة العثمانية ولا يريد بها شراً. وفي عام 1816م أرسل الإمام عبدالله بن سعود مندوبين جدد إلى مصر برسائل إلى محمد علي باشا محملين بالهدايا وهما (حسن بن مزروع وعبدالله بن عون) بشأن التفاوض ونزع فتيل الحرب ولكن محمد علي باشا رفض ذلك لأنه يريد التوسع في ملكه على حساب أهل نجد والجزيرة العربية وذكرت بعض الروايات بأن الباب العالي أصدر قراراً بعدم الرد على رسائل الإمام عبدالله بن سعود وأمراً لمحمد علي باشا بعدم الإجابة على رسائل الإمام عبدالله بن سعود -رحمه الله- وأن القرار هو إسقاط الدرعية والقضاء على الدولة السعودية وأئمتها وعلمائها.. من هنا وجد الإمام عبدالله بن سعود -رحمه الله- بحكمته وخبرته العسكرية بأنه أمام الأمر الواقع هي الحرب التي لا مفر منها بعد جهود مضنية من مفاوضات وإيفاد مندوبين وإرسال رسائل إلى الخليفة العثماني وولاة العراق والشام ومصر ولكن الحرب حسمت من طرف واحد والي مصر محمد علي باشا لإسقاط الدرعية، فتم له ذلك عن طريق ابنه الطاغية الهالك إبراهيم باشا ولو نظرنا إلى جميع الرسائل التي أرسلها الإمام عبدالله بن سعود إلى الخليفة العثماني وإلى ولاته في العراق والشام وخاصة مصر طيلة حكمه لم يطلب أي مساعدات أو إرسال وفود لدراسة أوضاع واحتياجات المنطقة أو تخصيص مبالغ مالية سنوية من ميزانية الخلافة العثمانية وهذه سياسة الامام عبد الله بن سعود حيث سار على نهج آبائه وأجداده بذلك فنجد الدولة العثمانية خلال فترة حكمها لعدة قرون مضت لم تكن الجزيرة العربية وخاصة منطقة نجد وشمالها من ضمن خططها التنموية ولم تلتفت أبداً أو تنظر للفقر الذي حل بها والكوارث التي عصفت بها وبأهلها لأكثر من قرن حتى قيض الله أئمة آل سعود البررة والشيخ محمد بن عبدالوهاب المجدد للدعوة -رحمهم الله- فأصبحت الجزيرة العربية منارة أمن ورخاء واستقرار ونور تستمده من شرف خدمة ورعاية الحرمين الشريفين وحجاج بيت الله الحرام منذ قيام الدولة السعودية الأولى إلى يومنا هذا. وبالله التوفيق،،،