احتدم الجدل في وسائل التواصل الاجتماعي حول وضع مستجد في الإعلام المرئي: مناقشة صريحة لقضايا تتداخل فيها المستجدات الفكرية والمجتمعية والسياسية, مكونة تأزمات في حياة المواطن على المستوى الفردي والعائلي. لعل آخر ما نوقش منها في برامج حوارية فضائية، قضية الشباب الذين غادروا دفء أسرهم - بغض النظر عن رضا الأهل أم رفضهم- واستجابوا لنداءات «الجهاد» في دول أخرى. والنتائج كارثية لهم ولذويهم وللأبرياء مواطني الدول الأخرى المعنية. شخصيا أرى الأمر يتعلق ليس فقط بمدى تغلغل «التسيس والأدلجة» في أفكار الشباب وحتى بعض الكهول ملتبسا ب«التدين» المرتبط بتفسيرات انتقائية، بل أيضا يتعلق بتغلغل ممارسة «التعصب» كقيمة مقبولة في التنشئة، تساهم في شحذ القابلية للأدلجة والاستجابة لنداءات التضليل والتحريض والاستنفار: أعطيكم مثالا محزنا لما يجر إليه التعصب: هاتفني مؤخرا مواطن محتدم المشاعر -لا أعرفه ولا يعرفني شخصيا- ليستنفرني للدعم في دوري كعضو في مجلس الشورى: وضح لي أن ابنه بين المعتقلين في دولة عربية مجاورة منذ عشر سنوات بين مجموع كبير من أمثاله لعلهم تسعون شابا. وأكد لي أنه يعلم أن القيادات الأمنية في البلدين تتابع الموضوع, وأنه على اتصال معهم هنا, ويعرف أن المفاوضات لتبادل المقبوض عليهم تعثرت بتشدد الجانب الآخر .. وهو يطالب بالإصرار على حق عودة المعتقلين. تعاطفت مع تألمه وسألته بقصد استيضاح المزيد من التفاصيل حول القضية: لماذا كان ابنك والآخرون في تلك الدولة؟ هل كان يدرس؟ أو ذهب للتجارة؟ أو لزيارة أقرباء أو أصدقاء؟ ولماذا قبض عليه؟ قال: بل هو من ضحايا «الاستنفار» الذي تصاعدت موجته في السنوات السوداء تلك, فجرفت الكثيرين من الشباب المتحمس المفتقر إلى التجربة, واستنفرتهم فاستجابوا لدعوة الجهاد و «تحرير تلك الدولة وإخواننا المسلمين من الغزو والاحتلال الأجنبي» ... «تسللوا ودخلوا للجهاد» فقبضت عليهم قوات العدو الغاشم, وسجنوا منذ ذلك الحين. وحين خرجت القوات الأجنبية سلمتهم إلى القيادة المحلية هناك... وتعرفين أنها قيادة «صفوية» «رافضية» «مجرمة» لا يهمها أنهم «يتعذبون ونحن ذووهم نعاني!!» هنا توقفت لأفكر: ترى ألم يكن هذا الأب بطريقة تفكيره هذه سببا مباشرا في نجاح استقطاب وتضليل ابنه؟ ألا تشير مفرداته التصنيفية الإقصائية إلى طريقة تنشئته لأولاده؟ لم أوضح له: تعني أنه وزملاؤه لم يدخلوا تلك البلاد في زيارة ودية بريئة في ظروف طبيعية, بل دخلوا بقصد مسبق ليفجروا مواقعها ومواطنيها. وليس هناك قيادة في الدنيا تقبل ذلك سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة, سنية أو شيعية أو ملحدة. ولم أصحح له مفاهيمه وأذكره بأن استخدامه لهذه التعبيرات «الإقصائية» لتبرير عمل عدائي لا يؤهل طلبه لنظرة متعاطفة من أي محكمة أو جهة دولية لا متحيزة. تألمت معه إنسانيا لأنه أب مكلوم متألم تضاءل أمله في استعادة ابنه .. وأحجمت أن أؤلمه أكثر بتوضيح أنه أخطأ في تنشئته لهذا الابن، وأنه هو نفسه مضلل ومغيب عن حقائق الصح والخطأ في عالم الدول السيادية, والمقبول والمجرّم من تصرفات أي مواطن أو زائر. وأن من ضللوه وضللوا ابنه والآخرين لن يدفعوا ثمن تنفيذ أفكار «التعصب» والعدوانية التي دعوا إليها باسم الدين، وربما تراجع عنها بعضهم حماية لأنفسهم. في الحقيقة وأنا أستمع إليه غالبني الدمع حزنا عليه وعلى مشكلة الأوطان والأسر مع قابلية التعصب الذي أنجح التضليل وتضييع الشباب واستقطابهم للموت أو الاعتقال والمعاناة. المواطن الطبيعي السوي المشاعر والتفكير لا يحلم بتفجير نفسه ليغتال الغير. ولكن تقبل ممارسة التعصب وتكثف الاستقطاب بشعارات مضللة يؤدي إلى نجاح اختراق التفكير السوي للفرد, وتنامي تجمعات مؤدلجة تنحرف به عن مساره. اللهم احم شبابنا وذويهم من النتائج الكارثية ل«التعصب» المقيت.