إنَّ من واجب الكاتب أن يغوص في منظومة المعرفة، ويقدم الحكمة أينما كانت ولا تقتصر كتاباته على رؤاه وأفكاره وتجاربه وأسلوبه البلاغي والإنشائي، فالكتَّاب على مر العصور يبحثون عن المعرفة في شتى الثقافات ويقومون بتقديمها للأمة كما جاءت، ويوثّقونها بكل فخر واعتزاز إيماناً منهم أن العقل البشري هو ملك للجميع ومساحة المعرفة وفنونها، كذلك متى ما وجدت الشخصية الفكرية السوية التي تُؤصل الحكمة في أعلى درجاتها.. وتراثنا الإسلامي غني بالعلماء والمفكرين الذين أثروا الساحة الفكرية على مر العصور وانعكست على مناهج الثقافة والتربية الغربية من خلال العقل الذي يقود إلى الوصول إلى المعرفة، فلهذا لفت انتباهي وأنا أقرأ عن الموسم الثقافي التربوي للمركز العربي للبحوث التربوية التابع لمكتب التربية العربي لدول الخليج في دورته الحادية عشرة (ثقافة الطالب أين موقعها في مدارسنا؟).. ومن بين هذه المحاضرات محاضرة للدكتور عبد الله يوسف الغنيم وقد اخترت من محاورها (التعلُّم الذاتي واكتساب المعرفة) التي أبرز فيها قصة «حي بن يقظان» لأبي بكر محمد عبد الملك بن طفيل، تلك التي لقيت اهتماماً خاصاً من العلماء الغربيين، فقد ترجمها بوكوك إلى اللاتينية، ونُشرت مع النص بالهولندية والألمانية والإسبانية والفرنسية وغيرها، وقد أثَّرت هذه القصة تأثيراً واضحاً في مناهج التربية الغربية، ونخص بالذكر مبادئ روسو (1712- 1778م ) ويستالوتزي (1746- 1827م ) التي كانت تقوم على إثارة دوافع الإنسان نحو الطبيعة بدءاً من حيز البيئة المحلية إلى العالم أجمع بالتدريج، وتوجيه الطلاب نحو استخدام حواسهم ليتعلموا من خلال قيامهم بأنشطة علمية، بدلاً من الاعتماد على حفظ الحقائق والمعلومات. عاش ابن طفيل في النصف الأول من القرن السادس الهجري في مدينة غرناطة في الأندلس، ووصف بعلمه الواسع وإحاطته بعلوم الفلك والرياضيات والطب والشعر، كما عُرف بعباراته الرقيقة وأسلوبه الرشيق، وقد شغل مناصب سياسية متعددة كان آخرها وزيراً للخليفة أبي يعقوب بن عبد المؤمن صاحب المغرب، ثم عند ابنه المنصور من بعده إلى أن توفي 581ه/1185م وقصة «حي بن يقظان» تحكي مراحل التطور الطبيعي للإنسان على النحو التالي: ولد حي بن يقظان في جزيرة من جزائر الهند خط الاستواء، ومن الكتّاب من قال إنه ولد من غير أب أو أم، ومنهم من قال إنه ولد في جزيرة من أخت ملك خافت من أخيها على ولدها فقذفته في اليم، وجرفه المد إلى جزيرة قريبة، حيث التقطته ظبية كانت قد فقدت صغيرها، فحنّت عليه وتكفلت به، واغتذى بلبن الظبية فتربى ونما بين الوحوش منعزلاً عن الناس، وتدرج في المشي، وما زال معها يحاكي أصوات الظباء في الاستصراخ والاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع، ويقلد أصوات الطير وسائر أنواع الحيوان، وفي ذلك إشارة إلى نشأة اللغة الطبيعية، وكان يتصرف مثل الحيوانات بتقليد أفعالها ومحاكاة طبائعها حتى كبر وترعرع، وعرف كيف يحصل على غذائه ويستر نفسه ويبني بيته، ثم اهتدى إلى قدح النار واستعمال الآلات والأدوات اللازمة لمعاشه، واستطاع بالملاحظة والفكر والتّأمل أن يكتشف بنفسه مذهباً فلسفياً يُوضح به سائر حقائق الطبيعة. وكان ابن طفيل لا يمر يوصف أمر من الأمور المذكورة إلا وقدم فيه وصفاً دقيقاً معتمداً فيه على ثقافته الواسعة، يتضح بجلاء استناده إلى العلوم الطبيعية، وما وصلت إليه من معرفة في التشريح وفي تطور الجنين في الرحم، وفي وظيفة القلب، ثم الحاجة إلى العقل في تفسير الأشياء وتحليل الأسباب. وقد رأى بعض الباحثين أن ابن طفيل قصد من كتابه شرح أسرار الحكمة المشرقية، وأنه لما رأى أن من الصعب التعبير عن تلك المباحث والاصطلاحات النظرية وجد أن الأسلوب القصصي الرمزي هو الأنسب في بيان ما أراده، بعيداً عن الأساليب المعقدة التي يكتب بها الفلاسفة وعلماء الكلام، وإذا ما تركنا هذا التفسير في أغراض قصة «حي بن يقظان» فإن الجانب التربوي والتثقيفي لطالب العلم هو المقصد الأساس، فقد مثل ابن طفيل في ذلك أول ظهور الإنسان على وجه الأرض، ومدارج ترقية الفكر إلى أن وصل إلى ما وصل إليه من المعارف المختلفة، مؤكداً أهمية العقل والتجربة التي قادته إلى صنع حضارته وترسيخ مكانته بين مختلف الأحياء. والله من وراء القصد. [email protected]