يمثل مبدأ «العقل قبل ورود السمع» أحد أهم الأصول التي أقام عليها المعتزلة مذهبهم، ويقصدون من وراء هذا الأصل، أن العقل الذي وهبه الله للانسان يقتضي منه ضرورة استخدامه في النظر في الكون والعالم وسائر الموجودات من حوله باعتبارها أمارات أو دلائل على الصانع وهوالله تعالى، ويصلون من خلال هذا الأصل الى القول بأن الانسان مكلف بالنظر في مكونات هذا العالم للوصول منه الى التعرف على الحق تعالى واتباعه وطاعته حتى ولولم يكن هناك أنبياء ورسل مرسلون من عنده تعالى، بحيث إن استخدام موهبة العقل في النظر الى بدائع الصنائع الالهية سيجر حتماً - من وجهة النظر الاعتزالية - الى أن يستدل الانسان على مُبدعها وخالقها، ومن ثم وفقاً لهذه النظرة، يكون الله تعالى قد بعث الرسل وأنزل الكتب زيادة في الحجة على الناس ومنة منه تعالى وفضلاً عليهم لمساعدتهم على إخراج أنفسهم من الظلمات الى النور باتباعهم الكتب والرسالات التي تتوافق حتماً مع مقتضيات العقل حيث إن كليهما - العقول والرسالات - من عظيم منة الله تعالى على خلقه وإبداعه. بناءً على هذا الأصل الاعتزالي المشهور قام الفقيه والفيلسوف الأندلسي ابن رشد الحفيد (520 - 595ه) ببناء نظريته المعروفة التي تقضي بحتمية توافق الشريعة والفلسفة في الوصول الى الحق عبر تأليفه لكتابه المشهور(فصل المقال، فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) والذي أوضح فيه أنه لا ثمة تناقضاً مطلقاً بين الحق الذي جاءت به الشريعة ممثلة بما جاءت به الرسل - خاصة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بصفتها خاتمة الرسالات - وبين التفلسف الصحيح، وجاءت تلك المحاولة الرشدية الرائعة على اثر الهجوم المكثف الذي طال الفلسفة والفلاسفة في عصره وما سبقه، خاصة من قبل أبي حامد الغزالي(450- 505ه) الذي كان قد ألف قبله كتابه المشهور(تهافت الفلاسفة) والذي يرجع اليه حسب رأي بعض المعاصرين ما آل اليه أمر الفلسفة والنظر العقلاني من اضمحلال وانهيار على مستوى الثقافة العربية. وكان الفيلسوف العربي المعروف ابن طفيل (505- 581ه) قد حاول بعد الهجمة الغزالية (نسبة للغزالي) إعادة المياه الى مجاريها فيما يخص توافق الشريعة والحقيقة (أي الفلسفة) فألف كتابه المشهور(حي ابن يقظان) الذي يمثل قصة انسان ولد في جزيرة نائية وتُرك وحيداً فيها، وتولت ظبية من تلك الجزيرة تربيته حتى كبر وبلغ مبلغ الرجال وبدأ في التعرف على ما حوله من مكونات العالم وأحداثه، وخلال رحلة طويلة من التأمل والتساؤل وصل الى معرفة الله تعالى من خلال بديع خلقه وأنه واحد أحد لا ندّ له ولا شريك، وفي النهاية يلتقي مع أحد الشبان القادمين الى تلك الجزيرة التي يقطن فيها واسمه الحركي في القصة (أبسال) وكان - أي ذلك الشاب القادم اليه - يؤمن بإحدى الملل المرسلة للناس وبوساطة أحد الرسل فلما التقيا أنس كل منهما بصاحبه وعرف كل منهما ما لدى صاحبه من المعرفة وارتحلا معاً والتقيا بصاحب أبسال ويدعى (سلامان) الذي صوره ابن طفيل على أنه لا يعلم من ملته الا الظاهر منها فقط، في حين أن أبسال يعرف باطنها، وبعد رحلة تأملية واختلاط معهما عرف (حي ابن يقظان) أن الحق الذي معهما يتوافق مع ما وصل اليه بواسطة التفلسف والتأمل، والغاية الرئيسية من هذه القصة لابن طفيل هي أن يوضح اتفاق العقل والنقل أي اتفاق الدين والفلسفة. من جهة أخرى فالأشاعرة - وهم خصوم المعتزلة الرئيسيون - خاصة في ناحية علم الكلام، لا يرون هذا الرأي - رأي تكليف الانسان بعقله فقط - اذ يرون أنه لا بد من بعث الرسل وانزال الكتب للناس حتى يهتدوا الى الحق، وحجتهم في ذلك قول الله تعالى في محكم التنزيل {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وبالتالي فهم يرون اختلاف الفلسفة في عمومها عن الدين خاصة في ما يتصل منها بالإلهيات وما يتفرع منها من أمور الحشر وقيام الساعة وكل ما يتعلق بالجانب الميتافيزيقي. هذه المناقشات الحية والمناظرات الرائعة بين المذاهب والتيارات الاسلامية فيما مضى من زمننا العربي، وخاصة في القرنين الرابع والخامس الهجريين، والتي كانت تجري بينهم بكل يسر وسهولة وبكل تسامح وحفظ لحق المختلف في ابداء رأيه أين هي اليوم من عالمنا الاسلامي ومن ثقافتنا الراهنة؟ ماذا لوكان ابن طفيل حياً بيننا اليوم وألف قصته التي كان يهدف من ورائها الى تسهيل وترغيب الناس في الفلسفة؟ بمَ كان سيوصم؟ وبمَ كان سيتهم؟ ألن يجد كماً هائلاً من مفردات التصنيف الأحادي ستلاحقه ليس أقلها الحياد عن الصراط المستقيم، ما ذا لو كان ابن رشد هو الآخر موجوداً بيننا وألف كتابه (فصل الخطاب) أو كتابه الآخر(تهافت التهافت) بماذا تُرى سيقابَل؟ أترك الاجابة لمخيلة القارئ العزيز، على أنني فقط أذكره أن مؤلفات صدرت لمعاصرين حملت رؤية مخالِفة أقل بكثير من المضامين التي حملتها كتب أولئك الرواد من أمثال ابن رشد وابن طفيل ومع ذلك فقد ذاقوا الأمرَّين من سوء عاقبة ما كانوا يودون به زحزحة هذا الركام الظلامي الراكد على ثقافتنا منذ قرون، وهي فرصة لنؤكد من خلالها على ثراء المناظرات الكلامية والفلسفية التي كان أوائلنا يتوافرون عليها ويعترف الناس لهم بحق ابدائها والتماهي معها، ولم تكن تظهر من معايشيهم اذ ذاك أية نقيصة لهم أو امتهان لكرامتهم أو بوادر تفسيق لهم أو زندقة أو تبديع فضلاً عن التكفير، ولم نكن لنصل الى ما وصلنا اليه اليوم من الضيق والتبرم بالمخالف حتى ألفنا ثقافة (من تمنطق تزندق) مما جعلنا لا نضيق فقط بالمخالف بل نحدد له جزاءه في الآخرة بتكفيره وإخراجه من الملة. [email protected]