(1) قبل أن يتحول فضل شاكر إلى مطرب شهير، يسهرُ الناس جميعاً على صوته الشجي. كان مطرباً مغموراً في فرقة «نصر» التي كانت تعزف كل ليلة، أحياناً، في خلية الزهور، التي يملكها أبو رمزي الأمين، ويديرها ولده الكبير رمزي الذي تخصص في تصوير الفيديو. حيث لن ينجو عرسٌ من عدسته كما لم ينجُ عدد من الأعراس من صوت أخيه محمد، الذي جرب أن يعمل مطرباً لكن قدراته الصوتية لم تساعده على الخروج من خلية والده. غنى فضل شاكر، في الخلية وغيرها من الأماكن والصالات التي تقام فيها الأعراس، غنى في سطوح البنايات، وغنى في خطبة خالتي إيمان في صالون بيت جدي، قبل أن يصبح مطرباً يسمعه الملايين، ويطرب على سماع صوته العشاق في ليالي الوجد. كانت خلية الزهور تحت المبنى الذي يجاور المبنى الذي نسكن فيه، كانت تماماً، فوق غرفة أبو فتحي. المسرح الذي كان يقف عليه فضل شاكر ليشدوا بصوته الشجي والحنون، كان تحت رأس أبو فتحي الذي كان يتذمر دوماً من الصوت العالي للغناء. لكن المغني بقي يغني والأعراس بقيت مستمرة إلى أن هجر الناس الصالات المغلقة وبدأوا يرحلون أعراسهم إلى الأماكن المفتوحة على السماء والهواء. كان فضل شاكر نجم الأعراس، أعراس الفقراء الذين جاء منهم، لحين فتحت أمامه أبواب الشهرة. هجر المدينة نحو بيروت. هناك، بدأت رحلته الثانية في الفن، الرحلة الممتلئة بالنقود. قيل يومها أن فضل يتقاضى في حفلة واحدة ما يوازي خمسون عرساً من أعراس خلية الزهور. تغيرت حياته، تغيرت حتى ألوان ملابسه، وأصبح يملك سيارات بعدما كان يأتي إلى الأعراس بالتاكسي، قبل أن يشتري سيارة صغيرة بيضاء لم يكن يظهر لونها الحقيقي إلا بعد حفلة تنظيف شاملة تقشط الغبار المتراكم دون أن تخفي الندبات والضربات والصفعات التي تلقتها في حياتها على الطرقات. قبل أشهر، ظهر فضل بحلة جديدة. قبلها كان قد عاد إلى صيدا، التي أعاد رفيق الحريري بناءها قبل مقتله في وسط بيروت. افتتح المطرب المشهور مطعماً على مدخل المدينة أسماه «ألحان» كان يأتيه للسهر زملاؤه من الفنانين أصحاب الشهرة الواسعة. حتى محمد عبده، أحد ألمع الفنانين في العالم العربي سهر فيه. لكن فضل لم يكتفِ بهذا. عاد إلى مسقط رأسه في المدينة. الحيّ الأكثر فقراً بين أحيائها. صحيح أنه سكن بعيداً في مكان يقطنه أغنياء المدينة حيث بنى فيلته ونصب حراسه ومرافقوه. لكنه عاد إلى الحي وإلى أصدقاء الأمس الذين منهم الشيخ أحمد الأسير، الشيخ السلفي الذي برز مؤخراً كأحد المشايخ السلفيين الذين يقارعون حزب الله الشيعي الذي يسيطر على لبنان أو يكاد يسيطر على جزء من قراره الرسمي. صيدا التي قارعت العدو الإسرائيلي في الثمانينات، مدينة مقاومة كما يحلو لأهلها تسميتها، حيث لا تزال اليافطة التي زرعت منذ عقدين على دوار مستشفى الدكتور إيليا شاهدة على العملية العسكرية النوعية التي نفذها ثلاثة شبان من الجماعة الإسلامية. عاد فضل إلى هذا المناخ ليترك بعدها الفن ويلتحق بالجماعة السفلية في المدينة ثم يظهر بعد ذلك بأشهر على إثر الثورة السورية في ساحة الشهداء ليؤذن بصوته الرخيم جموع المصلين، الذي احتشدوا في ساحة الشهداء نصرة للشعب السوري. عاد فضل إلى ما كانه قبل أكثر من عقدين. ذلك الفتى الفقير الذي عمل على تنمية موهبته بالغناء بشتى الوسائل، وقاوم تحديات كثيرة لكي يبرز بين الأفضل عربياً، لكنه بعد أن حقق ما حقق عاد إلى مكانه الأصلي فتى فقيراً دون أي خلفية عقلانية للعيش. (2) بعد العام 2004 ليس كما قبله بالنسبة للسنة في لبنان. بقتل رفيق الحريري غيلة في قلب بيروت، لم يعد للسنة اللبنانيين شخصية تجمعهم. كان رفيق الحريري الذي خرج من صيدا إلى السعودية ومنها عاد إلى بيروت رئيساً للوزراء في حكومات ما بعد الطائف، شخصية كاريزماتية، حتى المختلفون معه كانوا يجزمون بقدرته على سرقة الأضواء والقدرة على جذب الجماهير. لكنه قتل بشكل بشع جداً شكل إهانة إلى كل السنة. في بلد يعيش على الفهم الزعاماتي المتنقل بين رؤوس الطوائف، كان قتل رفيق الحريري هدماً للشخصية السنية العامة الوحيدة القادرة. بعد رياض الصلح الذي اغتيل أيضاً، لم يصل إلى زعامة السنة في لبنان شخص آخر يملك نفس الإمكانات سوى رفيق الحريري، حتى رشيد كرامي الذي اغتيل في الحرب، لم يكن كرفيق الحريري. شخص كهذا كان لابد لتغطية غيابه القسري، ملأ الفراغات بعدد لا يحصى من الناس. ولده سعد الدين الذي لا يزال يؤمل أن يغطي غيابه، غير قادر على التواجد في لبنان لأنه مهدد بالقتل، المفتي نفسه بعد تعرضه لضغوط اضطر إلى تغيير قناعاته السياسية والابتعاد عن قاعدته الشعبية. وصل التهديد لسعد الحريري بقتل وسام الحسن المسؤول الأمني الأبرز في لبنان بعد عودته من الخارج بأقل من اثنتي عشرة ساعة. في لبنان، ثمة أطراف تسعى للبناء وأخرى تحيك مؤامرات القتل في حلكة سواد الغرف الخفية. جاء وسام الحسن وسلك الطريق الذي يسلكه دوماً ودخل إلى واحدة من الشقق التي يسكنها في الأشرفية، الحي المسيحي الأكبر في بيروت، ثم في الصباح وحين دخل السيارة هدف الذهاب إلى مكتبه دوى انفجار كبير حطم أجزاء كبيرة من الأبنية الموجودة في الشارع الفرعي. حول الشارع الآمن إلى ساحة زلزالية. قبله بسنوات اغتيل الصحافي اللبناني من أصول فلسطينية سمير قصير في مكان قريب جدا من مكان مقتلة الحسن. بعد قتل رفيق الحريري، أصبحت بيروت مسرحاً للموت المتنقل بين شوارعها وأبنيتها. المدينة التي بدأت ثقافة السلم تسير في عروقها، عادت دار حرب مهلكة. بعد مقتلة الحريري، قال لي السيد هاني فحص ما حرفيته، إننا سنشهد حتماً نزوحاً طائفياً من الأحياء المختلطة لصالح جعلها أحياء مذهبية. قال لي هذا وكأنه يقول إن رفيق الحريري كان بدأ مشروعاً لإعادة الحياة والتنوع بين اللبنانيين لكن ثمة جهة لا تريد هذا أو على الأقل تريد أن تسقط هذا المشروع. سرعان ما بدأت بعد فترة عملية إفراغ الأحياء من بعض سكانها لينضموا إلى بحورهم الطائفية الواسعة. جاء الحريري بثقافة لبنان الستينات المختلط ورغم ما فعلته الحرب حاول أن يعيد ذلك اللبنان إلى ما كان عليه. أما موته، فلم يكن مجرد قتل للقتل. بل كان ذروة مشروع آخر يسعى لترسيخ نفسه وإظهارها بكل ما أوتي من قوة وعزم. جاءت الحرب 2006 التي قال نصر الله قبل نهايتها بأيام إنه لو كان يعرف أن تداعياتها ستكون على هذا النحو لما كان أقدم على ما فعله. في الحرب قتلت ليال حداد، صديقتي وزميلتي التي كانت تغطي الحرب لأول مرة في حياتها كمصورة محترفة لمجلة فنية. لم أعلم حتى اليوم، لماذا تهتم مجلة فضائحية بصور الحرب والدمار في ساحات الحرب الحقيقية. كنا في صور حين قلت لها لا تذهبي إلى قانا يا ليال، فالطيران ممكن أن يستهدف أي شيء متحرك لا يمكنه أن يتأكد ما هو محتواه. بالحقيقة قبل ذلك بأيام كنت قد ذهبت إلى بعلبك برفقة صحافيين بريطاني وأمريكية وبسيارة مجهزة بكل أنواع الاتصالات وبأعلام صحفية تشير إلى نوعية الأشخاص الذين تحملهم السيارة، ومع ذلك رمت الطائرات التي تسيرها الرادارات صاروخاً أمامنا وخلفنا لكي نتوقف عن إكمال الطريق. قلت لها لا تذهبي، وقالت كلا سأذهب. لقد تكلمت مع السائق وهو مستعد وقد دفعت له أجرته قبل الذهاب في حال حصل شيء. ذهبت وبعد ساعة واحدة قتلت بصاروخ من الطائرات الإسرائيلية. كانت ليال شهيدة حماسها وتهورها وعدم مسؤولية الجهة التي تعمل معها. لم أفهم لغاية اليوم، كيف يمكن لمؤسسة أن ترسل فتاة في مقتبل العمر بلا أي خبرة مهنية إلى حرب حقيقية. لكن لبنان على هذا المستوى يعيش فوضى غير طبيعية والمؤسسات الصحفية فيه بغالبيتها لا يسيرها القانون بقدر ما تسيرها العلاقات العامة وسطوة أصحابها. أسست الحرب لما يمكن أن نسميه فراقاً مبدئياً بين الطوائف. أثناء الحرب كان التذمر بين الطوائف قد وصل إلى حدود غير معقولة. ففي تحقيق كنت أجريه في مناطق الجبل التي يسيطر عليها وليد جنبلاط، الذي فتح المدارس والمباني الخاصة الخاوية للنازحين. سألت امرأة جنوبية عن السبب الذي جاء بها إلى هنا في حين أن بيروت أقرب عليها. قالت حرفياً (جئنا إلى هنا لأننا نعرف أننا سنكون بمأمن لأن وليد جنبلاط يتعامل مع إسرائيل) هكذا حرفياً. صدمت وحين ترجمت كلامها لزميلتي الأمريكية صعقت بدورها. لكننا أكملنا ونحن نرى التصدعات العميقة في جسم المجتمع اللبناني. (3) لا أدري ما الأدب الذي ممكن أن يكتب حول بلد كهذا. أو وضع كهذا، ما هو شكله ومحتواه، ما هي مضامينه. الروايات التي كتبت عن الحرب السابقة، كانت عن الحرب السابقة. حتى الشعراء الذين كانوا فيما مضى شعراء الحرب، شعراء كانتونات وأحزاب ومقاومات، لم يعودوا كذلك. بعد مشروع رفيق الحريري تحولوا إلى عشاق يكتبون عن المرأة، نسوا الموت، الذي لم يعد يمر بقوافل طويلة كما في السابق. غير أنه مرشح للعودة، المشهد القديم يبدو أن اللبنانيين اشتاقوا له اشتياقهم إلى الهروب والهجرة والسفر الأبدي. في يوغوسلافيا السابقة كتب أدب مهم جداً عن الحرب. ما وصلنا إلى الإنكليزية والفرنسية وبالتأكيد لم يترجم للعربية، أدب يقف على منصة المأساة البشرية حين يتحول البشر إلى وحوش آدمية. حين تتحول البلاد والمدن والأمكنة إلى مجرد ذكرى عبرت أهوال الجحيم. ما قيل عن التطهير العرقي في يوغوسلافيا وكذلك في مكان آخر قصي في رواندا كان دموياً. في لبنان، بعد مقتلة الحريري، بدأ التطهير المذهبي البارد. بدأت الهجرات تمشي خطواتها بهدوء وحذر. لكنها هجرات نهائية ودائمة. العيش مع المذهب أو الدين أوفر على الحياة البشرية من غضبها. (4) أعود إلى فضل شاكر، الصورة الواضحة التي ما زلت أملكها من طفولتي، لم تكد تنمحي حتى أظهرتها صوره الجديدة. حين كان مطرب الأعراس المفضل لم أكن أسمع له برغبة. كنت أسمع غصباً عني لأني قريب من خلية الأعراس. وحين أصبح مطرباً عاطفياً، لم أسمع له. لم أشترِ مرة أي كاسيت لأسمع ذلك الصوت المرتبط بطفولتي. كنت أسمع صوته ينبعث من نوافذ السيارات ليلاً وأنا أمشي قبالة البحر أو صوته يخرج من نوافذ جاراتي في بيروت. بقيت أسمعه غصباً عني. لا لموقف ضده بل لرغبتي الجامحة نحو الموسيقى الكلاسيكية والسيمفونيات التي أسافر في البلاد وأنا أبحث عن نسخها الأصلية. مرة جديدة أسمعه، لكن هذه المرة بعد أن تحول إلى شبه مقاتل في سبيل مذهبه وكرامته في مدينتي التي أحبها صيدا المرشحة للتفكك بسبب الحقد الذي منذ مقتلة الحريري وهو آخذ في التصاعد. باريس [email protected]