ومرد تسمية الأشياء بغير مسمياتها في كثير من الأحوال إلى التفاؤل، وانتظار ما يمكن أن تمنحه في قابل الأيام، أو دفع لمشاعر اليأس، أو استجلاب للأمل، أو دعاء ضمنياً بأن يكون الفقر غنى، والإمحال ربيعاً، والخسارة ربحاً، والفشل نجاحاً، والقصور اكتمالاً، والمرض صحة، والعجز قوة، والخوف أمناً، والقنوط أملاً، والاختلاس أمانة، والكذب صدقاً، والخيانة وفاءً؛ وهكذا من عشرات المتضادات التي لا تعبر عن الحالة الظاهرة قطعاً؛ بل تدفن المعنى المراد المضاد في باطن اللفظ؛ وكأن المراد ألا يَصدم أيٌ منا نفسَه بمواجهة واقع غير مرض ولا مبهج ولا يجد في داخله من القوة ما يعينه على مواجهته؛ بل القفز عليه تكاذباً وادعاءً وخداعاً للذات إلى ما هو أكثر بهجة وإسعاداً وتفاؤلاً وأملاً، ولو في الظاهر من خلال إيحاء الاسم فقط. فندعو مدينتنا الغالية بالرياض، وهي صحراء قاحلة جرداء غبراء شهباء موحلة لا رياض فيها ولا أنهار ولا غابات ولا سهوباً خضراء ولا أودية جارية ولا طيوراً مغردة ولا سحباً ممطرة ولا نسيماً عليلاً؛ ومع ذلك وإمعاناً في عناد الجغرافيا وتمنياً لما هو مفقود واستجلاباً لما هو غائب نصر على تقمص الوهم وارتداء أردية جمال متوهم؛ فنسمي الأحياء بما يخدع النفس تماهياً معها في أحلامها الجميلة بالتحليق في سماء الأحلام المتخيلة، فلا نجد في هذه الرياض الصحراوية الجرداء إلا ما نرى من اجتهاد بشري معاندٍ قسوةَ البيئة بزراعة الاخضرار في أنحائها قدر الإمكان رغم الحرارة القاسية وشح المياه؛ فنجد أحياءها تزيف نفسها بخلاف ما هي عليه وتتوشح أسماء ليست لها ولا تنطبق عليها كحي الربيع، حي النسيم، حي الشفاء، حي الربوة، حي الروضة، حي النفل، حي الورود، حي الياسمين، حي النزهة، حي الفيحاء. فأي ربيع مزعوم وأين هو وما أشكاله وألوانه في ربوة مدعاة بنفل وياسمين؟.. وأية نزهة مكذوبة متخيلة متوهمة في روضة فيحاء حافلة بورود تتمايل مع نسيم لطيف يمنح الشفاء؟.. إنها الصحراء التي يطلق عليها العرب قديماً «مفازة» تعلقاً بأمل مغامر يدفع ابن الصحراء دفعاً إلى الخوض في لجة سرابها وهبوب رياحها وتيه جهاتها والخروج منها دون الوقوع في هلاك الضياع أو العطش أو الموت حراً وقراً. وإذا كانت أحياؤنا على هذا النحو من الجمال في المسمى فماذا ندع إذاً لمدن أوروبية تتبختر في الربيع الحق، وتتنعم بالهواء العليل الشافي، تحفها الأودية الجارية، والأنهار السارية، والسحب السارحة والمارحة، والمطر المنهمر، والرذاذ العليل المنسكب في هدوء ورقة يغسل القلوب قبل الوجوه كل صباح؟.. إنها عادتنا أن نقلب الأشياء فنسمي كل أمر على خلافه؛ إما من باب التفاؤل كما ذكرت، أو من باب الخوف من العين كما يسمي المصريون أحد أبنائهم «خيشة» خشية عليه من العين!.. ونحن نتفاءل ونسمي: سعيداً، لعله يَسعد ويُسعد، وراشدا، لعله يرشد حين يبلغ رشده؛ لكن الأمل قد -وهي هنا للتقليل- يخيب فلا سعيد سعيداً، ولا راشد راشداً.. وقد تداعت إليّ هذه المعاني وأنا أقرأ حكم محكمة جدة على المتهمين في قضية السيول التي أغرقت المدينة وقتلت من قتلت وأهلكت من أهلكت وخربت ما خربت قبل ثلاث سنين، وما أصدرته المحكمة من أحكام تميل إلى التخفف، وتلاحق من في الواجهة دون أن تقترب ممن هم خلف هؤلاء الذين كانوا في مقدمة الصف الأول من أولئك الذين تسببوا في إحداث تلك المأساة المؤلمة والفاجعة التي لا يمكن أن تنسى؛ وكنت أتمنى كما يتمنى كل مواطن مخلص أن يتتبع المحققون والقضاة بقية خيوط مسلسل الفساد الطويل المزمن في جدة إلى أن يصلوا إلى الأطراف الأخيرة من الخيوط؛ لا أن يمسكوا بالعقدة الأولى أو الثانية البارزتين الظاهرتين الملموستين منه وتجاهل العقدة الأخيرة التي من أجلها تمت كثير من التعديات. ورحت أسرح في خيالات فلسفية، ومعانٍ لغوية إلى مفهومات لا تخفى على لبيب عن طرائقنا في التخفي، وأساليبنا في خداع أنفسنا، ومناهجنا التي ألفناها في ادعاء المثاليات والتظاهر بكثير من الأخلاقيات، كما تجد وأنت داخل إلى مكتب أحد الوزراء أو المسؤولين النافذين عبارات مكررة محفوظة لا قيمة لها إلا في اللوحات الجميلة المنقوشة، وهي تحث على الحلم أو العدل أو التواضع؛ بينما يصدمك واقعه بأن علاقته بالحلم أو العدل أو التواضع مثل علاقة أمهاتنا بمصطلح النانو. «الأمانة» كم هي كبيرة هذه الصفة العظيمة التي أبت السموات والأرض أن يحملنها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً؛ وما تم اختيار هذا الاسم لشئون المدن وقضاياها إلا لأنها تستدعي كثيراً من الأمانة الحقة على مصالح الناس وتحقيق العدل و خدمتهم خدمة مرضية على الوجه الأكمل الذي يرضي الضمير الحي ويبرئ الذمة. ولكننا مع بالغ الأسف وخلاف ما كان يأمل واضع هذا الاسم الجميل ومبتكره وملبسه هذه المصلحة الكبرى المسماة ب «أمانة مدينة...» التي كان في وسعه أن يسميها مصلحة البلدية أو إدارة البلديات، أو إدارة خدمات المدن، دون أن يلحق بها مسمى «الأمانة» الذي يوحي بأن الأمر فيه ما فيه مما يمكن أن يقود إلى إخلال بما يجب أن يحافظ عليه من مصالح الناس وحقوق الوطن؛ فكأن المشرع الإداري أو القانوني الأول الذي خطط لإدارات الدولة رأى أن ينبه من يتصدى لمسؤوليات إدارات شؤون المدن ويتولى العناية بمصالحها أن يضع نصب عينيه مفهوم «الأمانة» ويجعلها غايته القصوى التي سيحاسب عنها دنيا وأخرى، وسيكتبها التاريخ في سجلاته آماداً وأجيالاً قادمة. هل يمكن أن يتجرأ أحدنا ويطلق تساؤلاً شفافاً بعد مأساة جدة، ومآسي أخرى بلدية بعضها حدث وبعضها لايزال في طور التكون ويطالب بتغيير هذا الاسم الجميل المتفائل ويضع بدلاً منه اسماً مجرداً خلوا من التذكير بعظم هذه المسؤولية الدينية والوطنية والإنسانية الخطيرة التي لم تشفع لمن يمر تحت لافتتها الكبيرة صباحاً ومساء، ومن يوقع باسمه المصون في أوراقها الرسمية من بعض من مروا على «أمانات» بعض المدن من أن يضع «الأمانة» في السلة القابعة تحت طاولته العريضة. إننا حالمون متفائلون آملون نغالب الواقع القاسي ونعانده رغبة في أن تبتهج حياتنا ولو باخضرار مصطنع، أو بقيم قد لا تكون حاضرة في كل الأحوال. [email protected] mALowein@