لقد تحولت بعض المواقع الإلكترونية الاجتماعية مثل ال(Fecebook) و(My Space) و(Twitter) وغيرها من مجرد أشكال من النزعات الآنية بين طلاب الجامعات إلى مراجع عالمية في غضون زمن قصير نسبياً، أما قضية جدواها لصحتنا العقلية من عدمها، فهذا أمر آخر. إنَّ من السهل أن نصرف الأذهان عما يتبادله الملايين من مستخدمي المواقع الإلكترونية الاجتماعية من تفاصيل تافهة ومبتذلة، لكنهم يقومون - في واقع الأمر - بأكبر عملية تواصل اجتماعي تحدث من نوعها. ولطالما قدمت لنا شبكة الإنترنت منتديات متحررة من القيود يتواصل عبرها ذوو الاهتمامات المشتركة مع بعضهم بعضاً، لكن هذه المواقع الاجتماعية ساهمت في قسط وافر من تلك الفوضى التي عمت الشبكة حين سمحت للناس بالتواصل بشكل مطرد ودون ضوابط وبأوضاع لم تحدث من قبل. وفي ورقة عمل لهما نشرت في العام 2007، قدمت الباحثتان في الإعلام الاجتماعي دانت بويد من مركز أبحاث مايكروسوفت، وزميلتها نيكول إيليسون من جامعة ميتشيغان، تحديداً ثلاثياً للمواقع الاجتماعية على الشبكة العنكبوتية على النحو الآتي: يجب على هذه المواقع: 1- توفير منتدى قادر على بناء صورة عامة أو شبه عامة للمجتمع. 2- عمل قائمة بأسماء المستخدمين الآخرين المتصلين بتلك المواقع. 3- تبادل وجهات النظر والتواصل مع قوائمهم وقوائم الآخرين. ومنذ تدشينه في جامعة هارفارد في العام 2004، تزايد عدد أعضاء ال(فيسبوك) وصولاً إلى أكثر من 250 مليون شخص في أكثر من 170 بلداً. ولو كان ال(فيسبوك) بلداً لأصبح رابع أكثر البلدان سكاناً في العالم، ويأتي ترتيبه مباشرة خلف الولاياتالمتحدة. ويقوم ما يقارب من نصف مستخدمي هذا الموقع بزيارته بشكل يومي. كذلك ازدادت شعبية المواقع الإلكترونية الاجتماعية الأخرى، فموقع (LinkedIn)، المصمم خصيصاً لمحترفي الشبكات، يضم 40 مليون عضو يزدادون واحداً في كل ثانية، فيما يضم موقع (My Space)، الذي كان أكبر المواقع الاجتماعية قبل أن يزيحه موقع ال(فيسبوك)، يضم ما يقارب من 125 مليون مستخدم، فيما يقوم 7 ملايين من مستخدمي موقع (تويتر) بنشر أكثر من 18 مليون مادة مكتوبة يومياً لمن أراد الاستماع في ذلك الموقع. جدير بالذكر، أن المراهقين وطلاب الجامعات يمثلون ما نسبته 40 في المائة من مستخدمي المواقع الإلكترونية الاجتماعية. يقول ديفيد ديسالفو: إن الدخول إلى تلك المواقع الاجتماعية وما يصاحبه من أنشطة أخرى يحتل المرتبة الرابعة من أكثر الأنشطة استخداماً في الشبكة العنكبوتية، وهو بهذا يسبق استخدام البريد الإلكتروني الشخصي، ويلي مباشرة محركات البحث والبوابات الإلكترونية. وقد ازداد الوقت الذي يتم قضاؤه في فضاء المواقع الإلكترونية الاجتماعية ثلاث مرات عن معدل الاستخدام الكلي لشبكة الإنترنت من قبل أولئك المشتركين أنفسهم، وهذا يمثل ما نسبته 10% من كامل الوقت المستخدم على الشبكة. وبازدياد أعداد هذه المواقع الاجتماعية، فقد تغيرت نظرة الكثير من الناس عن الإنترنت، من وسيلة تستخدم بسرية وخصوصية إلى أداة تجيب عن تساؤلات كثيرة فيما يخص النفس البشرية وهويتها: من نحن، وكيف نشعر تجاه أنفسنا، وكيف نتعاطى مع الآخرين؟ يبدو في واقع الأمر أن التفاعل وجهاً لوجه هو نقطة التحول المحورية في تأثيرات التواصل الاجتماعي بشكل عام. ففي سنة 2009، قامت أستاذة علم النفس لورا فريبيرغ وفريقها في الجامعة التقنية بكاليفورنيا بعمل دراسة على الشعور بالوحدة عند مستخدمي ال(فيسبوك) اكتشفت من خلالها أن طلاب الجامعات الذين يتواصلون وجهاً لوجه اجتماعياً هم أكثر أقرانهم في الاستفادة من ذلك الأمر، حيث إنهم يحافظون على الشخصية نفسها من خلال التواصل الإلكتروني، فيما يزداد الشعور بالوحدة عند أولئك الذين يقتصر تواصلهم عبر الشبكة العنكبوتية فقط. نظرياً، يمكن أن تكون الشبكات الاجتماعية نعمة لأولئك، الذين يزيد مستوى تقدير الذات عندهم، فهي حلبات جاهزة لاختبار المهارات الاجتماعية دون وجود مخاوف من بروز علامات الإحراج على الشخص. وخلال دراسة له على مستخدمي مواقع ال(فيسبوك) تمت في العام 2009، وجد الباحث في الإعلام الاجتماعي كليف لامب ميزات عديدة يمكن لمستخدم تلك المواقع الحصول عليها. فقد قام فريق لامب بمسح على 477 عضواً لموقع ال(فيسبوك) في بداية ونهاية سنة واحدة هي فترة تلك الدراسة لقياس تلك التغيرات التي طرأت على العديد من جوانب الصحة النفسية عند أولئك الأعضاء. تبين من خلال ذلك أن استخدام موقع ال(فيسبوك) يتوازى بشكل قوي مع زيادة في (رأس المال الاجتماعي social capital)، وهي الفوائد الاجتماعية الملموسة التي ينالها المرء من خلال مشاركته في الشبكة الاجتماعية، خصوصاً أولئك الذين يجدون انخفاضاً كبيراً لديهم في تقدير الذات. ويمكن لنا تشبيه تعزيز رأس المال الاجتماعي في تقدير الذات بالوقود عالي الأوكتين، الذي يرفع من كفاءة عمل السيارة، حيث يمنحك مهارات اجتماعية أفضل، وشعوراً أكبر بالقناعة مع زيادة الثقة. وفي الواقع، فإن سبب الانتقادات المتواصلة لتلك المواقع الاجتماعية يعود لرؤية الكثيرين لها كمنتديات تعج بالنرجسيين، الذين يحاولون شد انتباه العالم، فهم يستمتعون في جمع الاتصالات الاجتماعية - فكلما كانت أكثر كان ذلك أفضل - دون النظر إلى مدى سطحية تلك العلاقات، وهم يتخاطفون لوحات الرسائل لكي يثبتوا نجوميتهم في جذب الانتباه. وقد لا يستطيع نرجيسيو المواقع الاجتماعية الهرب من تلك الانتقادات، لكن قد يبرز سؤال مهم في حال ظهور علامات النرجسية عليهم، مفاده: هل وصل أولئك الأفراد - وهم بكامل اعتدادهم بأنفسهم - إلى مكانة أكثر مما يحتملونها، أم أن تلك المواقع تؤدي دوراً معيناً في صناعة نرجسيتهم؟ ومهما قلنا عن هذا الأمر وعدم ملاءمة تلك المواقع، فإن كثيراً من الناس قد بدأوا يقضون وقتاً أكبر في التواصل عبرها، بل إن بعضهم واجه مشكلات بسببها. وبناء على دراسة تمت في مركز أبحاث النواة في بوسطن تبين أن الشغوفين في التواصل الافتراضي يقضون ساعتين يومياً من وقت العمل على الشبكة، وهو ما يكلف الشركات خسائر تقدر نسبتها بما يقارب 1.5 في المائة من إجمالي الإنتاج العام لمكاتبها. وليس من المستغرب وجود تأثير كهذا لتلك المواقع الاجتماعية، فهي تمتاز بدرجة عالية في توصيل الإشباع والإمتاع للمشاهد، شأنها في ذلك شأن التلفزيون وألعاب الفيديو والأشكال الأخرى من وسائل الإعلام التقني. تقول جوديث دوناث، رئيسة مجموعة الإعلام الاجتماعي في معهد ماساتشوسيتس للتقنية: إن التواصل عبر تلك المواقع يقدم سلسلة من المكافآت العقلية الصغيرة التي لا تتطلب قدراً كبيراً من الجهد في استقبالها. والعامل المشترك في العديد من الدراسات، هو اعتبار التواصل عبر تلك الشبكات، مكاناً تتكاثر فيه العادات السيئة. يقول سكوت كابلان، الباحث في الإعلام الاجتماعي في جامعة ديلاوير: (إن الأشخاص الذين يفضلون التواصل الافتراضي على نظيره الواقعي يسجلون كذلك معدلات عالية في اضطرابات الوسواس القهري في لقاءاتهم عبر الشبكة، كما أنهم يستعملون تلك التقنية في محاولاتهم تغيير سلوكياتهم). وخلص كابلان في دراسة له أتمها في العام 2007 على 343 طالباً على وشك التخرج في محاولة منه لمعرفة السبب وراء إذكاء نيران السلوكيات القهرية عبر تلك المواقع، وتوصل بشكل مباشر إلى أن الجوانب الشخصية تؤدي دوراً كبيراً في تعرضهم لتلك التهديدات النفسية كالشعور بالوحدة والقلق الاجتماعي. كما أن لبعض الأنشطة الموجودة في تلك المواقع، التي تعمل على جذب الأفراد كألعاب الفيديو والمقاطع الإباحية والمقامرة، الدور الكبير في تزايد اضطرابات الوسواس القهري لديهم. إنَّ الشبكات الاجتماعية تجد نفسها واثقة من اقتحامها للكثير من مجالات حياتنا في ظل تغلغلها الظاهر للجميع. يقول لامب: (قد نتجه إلى عصر ستختفي فيه الفروقات بين وجودك في عالمك الواقعي ونظيره الافتراضي). سيكون التحدي القادم في قدرتنا على حفظ علاقاتنا الواقعية في ظل هذا الطوفان الكبير من اللقاءات الاجتماعية عبر الشبكة والتي تعمل على جرنا نحو الخوض في أمور تافهة. إن التواصل الاجتماعي عبر الشبكة، والذي يسميه علماء النفس بتقنية الألياف الرقيقة، تنقصه الكثير من العناصر المهمة في تكوين عملية الاتصال بشكل عام مثل لغة الجسد واللمس. ختاماً أقول: قريباً سيصبح التواصل الاجتماعي الإلكتروني (الافتراضي) جزءاً لا يتجزأ من الاتصال اليومي، لكنه سيغيّر من كيفية تفاعلنا مع بعضنا بعضاً، ومن ثم يغيّر أنفسنا. - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية