على مر العصور والإنسان يبحث عن التواصل مع الآخرين..والباعث لذلك الحاجة إلى الانتماء والشعور بالأمان..ولعل ذلك ما دعا الشاب الأميركي مارك جوكربيرج إلى البحث عن وسيلة مثلى تتلاشى فيها الحواجز الجغرافية، يمكنه من خلالها الالتقاء بزملائه في جامعة هارفرد والاطلاع على أخبارهم وآرائهم..ومن تلك الحاجة ذات البعد الاجتماعي والبعد التقني المواكب لعصر السرعة والتكنولوجيا أطلق جوكربيرج في عام 2004م (الفيس بوك) الذي أصبح اليوم وسيلة اتصالية في الشبكة العنكبوتية يسرت عملية التواصل والتقارب العاطفي بين البشر في أرجاء المعمورة، بعد أن كان في بدايته لا يتجاوز حدود جامعة هارفارد. وأشارت آخر التقارير حول هذا الموقع الإلكتروني إلى أن عدد مستخدميه قد تخطى حاجز ال175 مليون مستخدم، كما أنه في إحصائية نشرت في الموقع أشارت إلى أن 70% من المستخدمين من خارج الولاياتالمتحدة الأميركية، وبهذا يكون (الفيس بوك) متصدرا لقائمة المواقع الاجتماعية بعد أن كان موقع ((my space ولفترة ليست بالقصيرة متربعا على عرش المواقع الاجتماعية الأكثر جماهيرية. ولما لهذا الموقع الجماهيري من قبول لدى المستخدمين كونه يفتح السبل أمامهم للتواصل مع الآخرين وبشكل بسيط وجذاب من خلال إنشاء المستخدم لصفحته الخاصة التي تمكنه من وضع بعض من المعلومات والصور ومقاطع الفيديو الشخصية التي تتاح لأصدقائه فقط وللمجموعات التي هو عضو فيها، أدرك القائمون على صناعة المعلومات أن ذلك الموقع سيضمن أرباحا بأرقام فلكية، ففي أكتوبر من العام 2007م اشترت مايكروسوفت حصة في (الفيس بوك) نسبتها 6 في المائة بقيمة 240 مليون دولار حيث تقدر قيمة الموقع بنحو 15 مليار، والملفت في هذا الشأن أن النجاح السريع والملفت الذي حققه الموقع عند إنشائه في عام 2004م مكن صاحبه من الحصول على عرض لشراء موقعه بمبلغ مليار دولار قبل حوالي ثلاث سنوات، إلا أنه رفض ذلك العرض ليقينه بأن قيمة شبكته الاجتماعية تقدر قيمتها بأكثر مما عرض عليه، والنجاح الذي حققته الشبكة اليوم أثبت صحة تقديراته التي كانت متفائلة إلى حد غير معقول في نظر المراقبين آنذاك وخصوصا في ظل شراء شركة (نيوزكوربوريشن) التي يمتلكها المليونير الأسترالي روبرت ميردوخ لموقع (ماي سبيس) بمبلغ 580 مليون دولار. جانب مشرق كما أسلفنا فإن (الفيس بوك) قد تخطى الحواجز الجغرافية التي تفصل حدودها بين مستخدميه، وبالتالي فإنه أصبح بمثابة النافذة التي يطل من خلالها الفرد على الآخر، وقد يذهب ذلك إلى حد أبعد بأن يكون نافذة يطل من خلالها المشترك على عادات وأعراف وتقاليد الشعوب الأخرى، ولهذا فنجد أنه صار كالبيت الذي يجمع بين المستخدمين الذين تجمعهم صفات أو هموم أو مصالح مشتركة، على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ومواقعهم الجغرافية. ففي المملكة وجد فيها العديد من الشباب المستخدمين لها مساحة لممارسة الأنشطة الاجتماعية تمخضت عنها مجموعات تساعد الشباب على تطوير التواصل وتقوية العلاقات فيما بينهم، كما أن هناك المئات من المجموعات التي اشتهرت في (الفيس بوك) بين أوساط مستخدميه على اختلاف فئاتهم العمرية وكل منها تهدف إلى هدف مختلف سواء كان دعويا أو اهتماما مشتركا أو أي نشاط آخر في المجالات الثقافية والفكرية والرياضية والسياحية والاقتصادية وغيرها..مما جعل ذلك بيئة مناسبة تمكن المستخدمين من خلالها إطلاق إبداعاتهم ومشاريعهم التي تحقق أهدافا مشتركة تصب في صالح المشتركين. فهناك العديد من المجموعات في (الفيس بوك) تسعى إلى أن تتبنى آراء أو توجهات أو حتى التأثير على صناع القرار، فهناك مجموعة "صناع الحياة" التابعة للندوة العالمية للشباب الإسلامي في المنطقة الشرقية بالسعودية، والتي تهدف إلى تفعيل دور الشباب في المملكة بإخراج طاقاتهم وتكوين حلقة وصل بينهم وبين المؤسسات الاجتماعية للنهوض بالمجتمع، كما أن الفتيات السعوديات نجحن أيضا في استثمار (الفيس بوك) في أعمال الخير، من خلال تأسيس مجموعة أطلق القائمات عليها اسم "أرزاق" للقيام بأدوار تطوعية في المجتمع، وأيضا انتشرت مجموعات أخرى بالسعودية تحث على أعمال تطوعية مثل التبرع بالدم، والحفاظ على البيئة، وضرورة إعادة تدوير الورق والمخلفات. ولعل مجموعة "أنا بشر لحماية أعراض الفتيات في السعودية" وهي امتداد للحملة التي أطلقتها الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في السعودية وتهدف إلى مواجهة خطر التشهير بأعراض الفتيات جاءت للمحاولة من تقويم سلوكيات الشباب السعودي، الذي يجعل من مثل هذه الشبكات الاجتماعية وسيلة لمضايقة الفتيات بأي شكل كان، ومما سبق نجد أن هناك استخدامات ايجابية عديدة من قبل المستخدمين في المملكة تجلت في أهداف تبعث إلى التفاؤل والارتياح. الوجه الآخر لا شك أن ما تم ذكره آنفا من جوانب مضيئة في استخدامات (الفيس بوك) يدعونا إلى أن نطلق عليه وصاحبه جوكربيرج قصة نجاح ستبقى محفورة بذاكرة التاريخ، وتروى للآخرين ليشحذوا هممهم وليتحرروا من قيود الرهبة والخوف من الفشل. ولكن على ما يبدو أن (الفيس بوك) ليس حاله بأفضل من غيره من الاختراعات في عالم الإنترنت وتقنيات الاتصال الحديثة التي أحدثت تغييرا ملموسا في حياة البشر، فكما أن له فوائد جمة، في المقابل نجد أن له آثارا سلبيه على متعاطيه، حيث يرى كثيرون بأنه أصبح بيئة خصبة للتشهير بالفتيات وانتهاك خصوصياتهن، حيث أن غالبية مستخدميه من الشباب الذين وجدوا فيه مكانا ملائما للتسلية، وقد يتجه البعض منهم إلى أن يبثوا من خلاله همومهم ومعاناتهم ومشاكلهم الأسرية والاجتماعية عبره، وذلك لمشاركة الآخرين لهم فيها. كما أن هناك من يرى أنه يدعو الأفراد إلى أن يبقوا في معزل عن مجتمعهم وأن يتملصوا من علاقاتهم الاجتماعية حيث يرى البعض من مستخدميه أنه بمثابة العالم أو المنزل الآخر، كما أنه يدعو مستخدميه إلى إضاعة أوقاتهم التي هم مطالبون فيها بتأدية واجباتهم في المنشأة التي يعملون بها؛ حيث ذكرت تقارير أن الموظفين في أستراليا يستخدمون الموقع بمعدل ساعة يوميا مما أدى إلى خسارة قدرها (6200 دولار) في السنة لكل موظف، وهذه خسارة كبيرة قياسا بشركات أو مؤسسات تعداد موظفيها يتجاوز ألف موظف أو أكثر. ومن الاتهامات الموجهة إلى (الفيس بوك) نجد قضية ملكية المعلومات التي تنشر في الموقع، حيث أثيرت تساؤلات عن حقوق الحماية المتوفرة لها، فقد ظهر أكثر من تقرير حول هذه القضية وأوضح أن موقع (الفيس بوك) يتيح هذه المعلومات الهائلة عن الأفراد لجهات معينة حين الحاجة لها، مثل جهات استخباراتية أو دولية، ويتضح هذا الأمر من خلال الموافقة على شروط العضوية، حيث أن هناك شرطا يقول بأن المشترك موافق على إتاحة هذه المعلومات لأي جهة قد تحتاجها، وهذا هو الأمر الذي يغفل عنه كثيرون . وفي صدد الاتهامات الموجهة لهذا الموقع الاجتماعي والتي ذكرتها تقارير غربية تقنية؛ كمية الرسائل الغير المرغوب فيها والتي تصل من خلال الفيس بوك، ومشكلة خصوصية المعلومات، وأن هناك جهات أصبحت تبيع معلومات المشتركين لأطراف أخرى للربح المادي، وكما أفادت تقارير عن بدء الفيس بوك بعمل نظام إعلاني على طريقة (جوجل) بحيث تظهر الإعلانات في صفحات الأعضاء ويتم استهداف صفحاتهم بطريقة مزعجة، ومن السلبيات التقنية أيضا عدم إمكانية حذف المعلومات التي يضعها المستخدم، وهذه القضية أصبحت مثار جدل الآن بين التقنيين من أجل خلق بيئة يستطيع فيها المستخدم حذف ما يشاء من المعلومات التي ينشرها. تعامل حذر (الرياض) في استطلاعاتها للرأي عبر موقعها الإلكتروني، طرحت تساؤلا عن مدى تأييدك للمشاركة في (الفيس بوك)، وقد أيد 909 أشخاص المشاركة في (الفيس بوك) بنسبة 41%، فيما اعترض 1328 شخصا على المشاركة فيه بنسبة قدرها 59%، وعلى ضوء هذه النسب التي يبدو الفارق فيها واضحا نجد أن السلبيات في نظر المهتمين تطغى على الإيجابيات، ولهذا فإن ذلك يستدعي أن تكون هناك حلول علمية، وخصوصا في جانب الخصوصية التي دعت مستخدمي الإنترنت حول العالم إلى التعامل مع الشبكة الاجتماعية بحذر بالغ، ونرى بأنه لا بد أن تكون هناك دراسات من قبل الباحثين في المجالات التقنية والاجتماعية والنفسية تتناول السلبيات له، وأن تقدم حلولا واقتراحات لتقويم استخداماته من قبل الأفراد. وأيضا من المفيد أن تنشأ مؤسسات القطاع الحكومي والخاص صفحات لها في الموقع؛ لإيجاد مساحة يمكن لمنسوبيها من التفاعل وتبادل الآراء من خلالها، وذلك من شأنه أن يرتقي بالعمل المؤسسي كما أنه يشعر مستخدميه بأهمية تلك الخدمة وأنها ليست للتسلية فقط، وخصوصا إذا ما اعتمدتها الجامعات والمؤسسات التعليمية. كما أنه يرى كثيرون بضرورة إيجاد ضوابط تحد من الانتهاكات للخصوصيات التي قد تحدث للمستخدمين في (الفيس بوك)، وذلك بتفعيل الجانب التوعوي لدى الأفراد، سواء من خلال الموقع نفسه، أو عن طريق وسائل الإعلام، وأما في جانب إثارة الفتن الطائفية والمذهبية في العالم الإسلامي فإنه لا بد من إيجاد آلية لغلق قنوات الاتصال أمام المستخدمين الذين يجدون في تلك الشبكة الاجتماعية مرتعا لهم لنشر أفكارهم الهدامة وبث سمومهم التي تزعزع صفوف المسلمين، فقد عمدت عدد من الدول في العالم العربي إلى حجبه للحد من التجاوزات التي تحدث من بعض مستخدميه. وكل تلك الاحتياطات والضوابط وغيرها تزداد ضرورة اعتمادها وخصوصا في ظل إطلاق إدارة (الفيس بوك) مؤخرا للنسخة العربية منه، والذي لا شك أنه لم يأت إلى محاولة لكي يتلاءم الموقع وعدد المستخدمين العرب الذين يقبلون عليه بشكل كبير ففي إحصائية نشرت في (الفيس بوك) أفادت بأن عدد المشتركين في السعودية قد تجاوز ال231 ألف مشترك، منهم 196040 تحت سن الثلاثين، وتبلغ نسبة الذكور 62% والإناث 38% من إجمالي عدد المشتركين.