تحت هذا العنوان وفي جريدة الجزيرة الغراء الصادرة يوم الاثنين 25-9-1433ه، وفي زاويته (رؤية اقتصادية) كتب الدكتور محمد بن عبدالعزيز الصالح عن جريمة السمسار الهندي الذي أحضر له سائقاً هرب في الليلة الأولى من بداية العقد. هذا الهروب أو بعبارة أدق ومعنى أوضح دلالة: هذه الجريمة التي سماها الدكتور محمد الصالح بأدبه المتواضع وحسن ظنّه «مخالفة» تنمّ عن وجود عصابات تخطط وتُقْدم عنوة على الجريمة في وضح النهار، وفي تحدٍّ سافر لنظام البلد الذي آواها واحتضنها وللعقد الذي يربط الطرفين. نعم: أقولها بملئ فمي إنها هي وأمثالها وأكبر منها مما تقترفه سماسرة العمالة تندرج في قائمة الجريمة، بل هي في نظري أشد خسارة مادية ومعنوية، وأثقل غبناً بطرقها الملتوية الخبيثة من كثير من الجرائم. لقد تقدمت بلادنا -ولله الحمد- وازدهرت فيها المشاريع الخاصة والعامة، ولا سيما في هذا العهد الميمون عهد خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- وملأت أجواءها سحب الخير والنماء والعطاء، فأمطرت -بفضل الله- على أرض خصبة اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فاحتجنا لعمارتها وإصلاحها إلى الأيدي العاملة، لتساعدنا في حركة التنمية المزدهرة في كل شبر من أرضنا، ولتستظل معنا تحت تلك السحب، وتشاركنا في ثمرتها اليانعة، ولم نبخل بما أعطانا الله، بل بسطنا أكفنا إلى الإنسانية كلها، فاستقدمنا حوالي ثمانية ملايين من مختلف الجنسيات، وفتحنا لهم أبواب رزق الله الذي منَّ به علينا وبذلنا لهم عطاءه ونحن نردد قول شاعرنا: فلا هَطَلَتْ عليّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلاد ونتغنَّى ونطرب لقول الآخر: نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الأدب فينا ينتقر لست مبالغاً في هذا الكلام، ولم أترك لقلمي الحبل على الغارب ليكتب بمداد من دم قلبي ما أسمعه من شكاوى الناس بعضهم لبعض حتى لم يجدوا من يواسيهم أو يسليهم أو يتوجع. ولا أحد ينكر أن السوق مليئة بسماسرة العمالة والخدم الهاربين، والعاملين عند غير كفلائهم، وأن المواطن إذا كان ضحية لهؤلاء السماسرة أو للعمالة نفسها فسيقف على مفترق طرق صعبة المسالك متشعبة النهايات، وخيارات أحلاها وأقربها علقم وبعيد بُعد أحد المشرقين عن الآخر، وأنه لن يجد منها السهل حتى يركبه ولن يدرك مُناه، مما يضطره إلى ركوب أصعبها، ليعود صِفْر اليدين حتى من خُفّي حنين، وقد خسر خسارة مالية فادحة، وأقضَّ عليه الغبن مضجعة من عامل هو أضعف منه وأخف في ميزان الحق والعدل والنظام القوي الصارم، وإن كان أقوى منه وأشجع في ميدان فوضى الواقع المؤلم الذي يعيشه المواطن مع هذه العمالة الوافدة، لذا سيضطرّ إلى أصعب هذه الطرق ليسير عليها حافياً تعاني قدماه من شوك السعدان، مرغماً على صعود مرتفعات هذا الطريق ومخاوفه ليذعن صاغراً لنقل كفالة هذا العامل إلى الجهة التي يريدها، ليُتّهم بعد ذلك من مكتب الاستقدام بأنه من تجار بيع (الفيز)، أو إلى ترحيله بعد الخسارة المالية الفادحة والنفسية التي أغرقته في بحر لُجّي من الغبن والهزيمة. هذه الجرائم تتكرر مع بعض المواطنين في كثير من محافظاتنا، ولعل في قصتي مع سائق هندي ما يسلي أخي الدكتور محمد الصالح ويواسيه. فقد استقدمته بمبالغ طائلة، وفتحت له باب قلبي الطيب قبل أن افتح له باب غرفته الخاصة التي زوّدتها بجميع احتياجاته قبل مجيئه. في الصباح الباكر طرقت عليه الباب لأطمئن عليه وحييته بتحية طيبة رقيقة ظاناً أنها ستفتح لي باب قلبه على مصراعيه، هزّ رأسه وابتسم ابتسامة صفراء وقال: (بابا شكراً، الحمد لله أنتا مائة في المائة كل شيء موجود ومسجد قريب لبيت أنا). كلمات معسولة يبدو لي أنه قد حفظها وأتقنها أو لُقّن إياها، وقد استطاع بها أن يغرس الثقة وحسن الظن في نفسي، طلبت منه رخصة القيادة فتبين أنه لم يحصل عليها مع أنه قدم سائقاً، والأدهى والأمر أنه لا يتقن القيادة، وفي مدرسة القيادة بالرياض التي حفيت قدماي من التردد عليها لم يجتز الاختبار، ومع الصبر والتكرار تعلم، ثم جاء دور الإقامة والكشف الصحي وتأمين احتياجاته الخاصة وغيرها مما يثقل كاهل المواطن بالخسارة المادية، وبعد أن انتهى كل شيء أسقاني به الأمرّين واستنفد صبري كله، بدأ بستفزني ويضايقني بحركات وتصرفات هوجاء، فمرة يقطع الإشارة ومرة يسرع سرعة جنونية ثم يضغط الكابح بقوة، ومرات ومرات يكرر أخطاءه ليضعني بل يرغمني على خيار واحد فقط هو ترحيله لبلده، مختلقاً قصة طويلة عريضة في دور تمثيلي محكم تغني إطالتي عليكم عن ذكرها. بعد أن اجتاز باب صالة المغادرة كنت أظنه سيحاسب نفسه ويندم على جريمته لاسيما بعد أن سمع مني بعض كلمات اللوم والتأنيب، لكنه بعبارة ملأ بها فمه: «بابا خلاص أنا فيه رخصة سعودية، أنا يروح لمكتب شركة (....) «اسم الشركة معروفة» بألف وخمسمائة ريال». أخي الفاضل الدكتور محمد الصالح، هل واستك قصتي مع السائق؟! إن لم تواسك وتخفف عليك وطأة مشكلتك فاعلم أن لدى المئات وربما الآلاف من المواطنين من هذه المشكلات ما لو سطرت به المجلدات لامتلأت وفاضت حسرة وندامة، ولكن مع هذا لن تحرّك ساكناً ولن توقظ ضميراً وستبقى الأمور كما ذكرت في آخر مقالك. نعم المشكلة ظاهرة تتكرر، والضحية فيها أحد المواطنين، والمسؤولية فيها مثل كرة في ملعب واسع عريض طويل، فمن الذي سَيُسدّد الهدف؟!! لابد - في نظري - من لجان متعددة في مدن ومحافظات المملكة، تتألف من مندوبين من وزارة العدل والشرطة ووزارة العمل ومندوب من سفارة بلد العامل، تمنح هذه اللجان الصلاحيات التي تستطيع بها أن تعيد الحق إلى نصابه في جلسة واحدة، لا يستطيع أحد طرفي العقد أن يماطل أمامها. ولمَّا كان الغالب على أي حكم يصدر من هذه اللجنة أن يشتمل على تعويض مالي كان لابد من وجود عائد مالي لدى الطرفين، كالضمان البنكي أو التأمين أو غيرهما من البدائل التي في مقدور الطرفين. وإن كان الأجدى والأجدر والأنجع من هذا كله أن يتعاون المواطنون، وأن يقفوا وقفة مواطن مخلص في وجوه هؤلاء السماسرة والعمالة السائبة التي تجاوزت وتمادت بالعناد والإصرار أنظمة الدولة وتعليماتها، لكن بعضنا - وبكل أسف وحسرة - ينظر بمنظار الأنانية والمصلحة الذاتية، مغمضاً عينية عن المصلحة العامة، متخطياً نظام الدولة وتوجيهات ولي الأمر، وهو ينشد ولربما يتغنى بقول جده الشاعر الأناني: مُعللتي بالوصل والموت دونه إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر ومهما كانت حاجته الماسة وضرورته الملحة فإنهما لا يشفعان له بشيء من ذلك. والحديث عن هذه القضية طويل ومتشعب، وقد بلغ سيله الزبى وجاوز حزامه الطّبيين، وإن لم تلتفت إليه المؤسسات الخاصة والعامة ذات العلاقة بجدية وإخلاص وشعور بالمسؤولية من جميع أطرافها فإن هذا السيل سيغرقنا، وهذا الحزام سينقطع في يوم من الأيام فنندم على تفريطنا مع العمالة من جانب وإفراطنا في استقدامهم من جانب آخر، ولا الساعة ساعة مندم. د. حمد بن عبدالله المنصور