أخيراً وضعت يا أخي عصا الترحال بعد أن أنهكت قلبك بهموم الناس وقضاياهم وأرهقت جسدك بسعيك الجاد في مصالحهم، رحمك الله يا أبا عبد العزيز... بذلت جهدك ووقتك وعلاقاتك في شتى مجالات الخير، فحصدت الثناء العطر والدعاء الصادق والحب النقي. لم نرك إلاّ هاشاً باشاً صاحب نخوة وهمّة عالية سخّرتها لقضاء حوائج الخلق من أرامل ويتامى ومعسرين، فلك منهم دعوة بالقبول والرحمة. أبا عبد العزيز... ألم تكن عضواً مؤثراً في أسرتك الكبيرة حتى أصبحت علماً فيها؟! ألم تكن عضواً فاعلاً في جمعية أصدقاء المرضى تواسي جراحهم، وعضواً متطوّعاً متميّزاً في جمعية أواصر والتي تهدف للم شمل أبناء السعوديين من غير السعوديات بأسرهم، وتكبّدت عناء السفر مراراً لهذا الهدف؟! ألم تجمع الأموال من الموسرين لدعم أهداف الجمعية ؟! ولم يكن الموسرون ليبذلوا أموالهم إلاّ لثقتهم بشخصك. كنت تعمل بصمت وشعارك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله) حشرك الله مع الصديقين والشهداء. كم من أرملة كنت لها سنداً بعد الله، تلمّست حوائجها وتحدثت مع أهل الخير فسددوا ديونها أو تكفّلوا بدفع إيجار منزلها وكان آخرها امرأة ترمّلت حديثاً لها أطفال وبعضهم يعاني من الإعاقة، فعملت على أكثر من صعيد لجمع المال لتهيئة سكن لها وتابعت مع مسئولي الضمان الاجتماعي حتى تضاف وأبناؤها لقائمة المستفيدين. كم من عاطل عن العمل أسرعت لنجدته فتسببت في إلحاقه بالعمل في القطاع الخاص ؟ كم من شاب احتويته وشجعته على إكمال تعليمه أو تدريبه على متطلّبات سوق العمل ؟ جعل الله ذلك في موازين حسناتك. أخي... لقد أتعبت من جاء بعدك... نتساءل كيف ستصل صدقات المحسنين وتبرعاتهم لمحتاجيها المتعففين، حيث كنت تحرص على أداء هذه المهمات بسرية تامة، ولعلها بشرى خير أن وجد في جيبك لحظة وصولك للمشفى شيك لأسرة محتاجة أثابك الله. أخي... كم من أسرة عوّدتها على زيارتك فهي تنتظر موعدك بفارغ الصبر للأنس بحديثك ويصدق فيك قول الشاعر: تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله ولو لم تكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله أبا عبد العزيز... أجزم أنّ الله قد بارك في وقتك، فبعد صلاة الجمعة كنت تزور والدة الجميع (الوالدة أم خالد) ثم بيت والد أحد أصدقائك ثم تجعل آخر المطاف احتساء القهوة معي ومع أبنائي، وكنت تطالبني أن أغلق الجوال عند زيارتك لي مغرب كل يوم لنسعد بدقائق سوياً، ولكن هيهات أن يصمت هاتفاك فمن سيسد الفراغ الذي تركته والله كفيل أن يربط على قلوبنا. جمعنا الله وإياك ووالدينا وأحبابنا والمسلمين في الجنة على سرر متقابلين حيث لا يزول نعيمها ولا يتفرق أحباؤها. أبا عبد العزيز... أجزم أنّ من عرفك بكى بحرقة لفراقك من مسئولين كبار ومن صغار السن ومن طالته يدك الخيّرة، فكنت كالنحلة لا تقع إلاّ على طيب ولا تعطي إلاّ طيباً. فقيدنا الغالي : جاء المعزّون من مختلف المناطق ومن مختلف الأعمار والمستويات، كنت تعطي كل ذي حق حقه وتعامل الجميع دون تمييز لصاحب المنزلة وصاحب المال. أليس أدل على ذلك من تكبّد شيخ جاوز المائة من عمره عناء السفر من القصيم إلى الرياض لأداء واجب العزاء حباً فيك حيث كنت قد عوّدته الزيارة. ليتك رأيت الحشود في المستشفى لعيادتك وأنت غائب عن الوعي، لم يحضروا رياء ولا سمعة، وإنما كان دافعهم في ذلك حبهم لشخصك، وبعضهم حضر من خارج منطقة الرياض مرابطاً، أملاً أن تخرج إليهم سليماً معافى. أخي الحبيب... سيبقى مكانك فارغاً لا يسده أحد فأنت حسن المعشر، نقي السريرة، حلو الحديث، تضفي البشر على جلسائك بما في جعبتك من طرائف وعبر فلا يمل مجلسك. كنت حثيث الخطى بدنياك كأنك كنت تعلم أن عمرك قصير، ولكن العمر لا يقاس بعدد الأيام والسنين، وإنما بما أنجز وما بقي لك من ذكر. فقيدنا الغالي... كنت حكيماً حين هيأت عبد العزيز «أبو أحمد كما تسميه» لهذا اليوم، فدرّبته على تحمّل مسئوليات جسام كنت ألومك حينها لحداثة سنه، فابشر فهو رجل جلد - بإذن الله - لازمك في العناية المركزة، وشارك في تغسيلك وتكفينك، فلم يستسلم للحزن وأدى حقك، فكما غسلت والدك كان عبد العزيز فاعلاً في تغسيلك. أخي الحبيب... أليس الناس شهود الله في الأرض ؟؟ أليست هذه الجموع في جنازتك قلّ أن يشهد لها مثيل، برهاناً على أنّ من أحبّ الناس أحبه الله وحبّب به خلقه ؟؟ لم تعش يوماً في الظلام، فكل قضية في أسرتنا كنت أنت السبّاق، تتدخّل وتتبنّاها وكأنها قضيتك الشخصية، فكنت محط تقدير الكثير. أبا عبد العزيز... أننسى بقاءك ونومك ليال على مقعد قرب غرفة العناية المركزة حيث ترقد والدتنا - رحمها الله - وتكرر ذلك عدة مرات ولا تهدأ حتى تخرج لإحدى غرف التنويم ؟؟ كما أننا لن ننسى استقدامك ممرضة متخصصة لرعايتها، وقد أشرت عليّ باستقدام أخرى معها حتى تتناوبان على خدمتها. تقاعدت مبكراً وكثر تردّدك على مدينتنا الحالمة (عنيزة) وفتح لك سجل من الصداقات والصلات، ووضعت مسكنك واستراحتك هناك تحت تصرّف أسرتنا الكبيرة، وكنت تسرّ عندما يطلبها منك عزيز أو قريب غاية السرور. عوّضك الله عنها قصراً في الجنة. فقيدنا الغالي... خدمت الناس دون أن تعرفهم من غير إخلال بأمانة عملك. أتذكر حين استوقفك المرور لتجاوزك السرعة المقررة في طريق سفر وطلب منك إبراز هويتك وتساءل عن مقر عملك، حينها قال لك (توكل على الله، سهّل الله دربك)، وعند إلحاحك لمعرفة السبب أجابك (خدمتني دون أن تعرفني قبل سنوات وهاأنذا أرد لك الجميل). فقيدنا... سرعة جنازتك تبشر بخير، وابتسامتك بل ضحكتك كما رواها الثقاة مؤشر آخر، وكثرة المشيعين دليل على أنك إن شاء الله من أهل الخير فهم شهداء الله في الأرض. ليتك اطلعت على كثرة المشيعين والمعزين لتحمد الله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً وكنت سعيداً بكثرة مشيعي جنازة والدنا - رحمه الله - فكانت جنازتك مماثلة، وقلت لي إن رصيد أبي هو حب الناس وكذلك كان رصيدك. كنت سفيراً لأسرتك، وسفيراً لوطنك في سفرك، وأنموذجاً طيباً لشبابنا، وسفيراً لأهالي عنيزة، حقاً كنت سفيراً فوق العادة كما أشار بذلك أحد محبيك. لم تسع في حياتك لتخليد اسمك فخلّدتك أعمالك بعد وفاتك. أبا عبد العزيز... اسمح لي بطرح آخر سؤال وأعرف الإجابة، لم كنت رجلاً استثنائيا متميزاً يصعب علينا نسيانه؟. أسأل الله الذي حال بينك وبين إتمام تزويج ابنتك، أن لا يحرمك برّهم وصلاحهم. لولا إيماننا بربنا لقلنا ( لقد أصابنا موتك بمقتل ). أخي... سنفتقدك... ولكنك جاورت رباً كريماً... أبناؤك وزوجتك في قلوبنا... وسنبذل لهم ما استطعنا. وقبل الختام أقول: خناس تبكي من حزن ألمّ بها وقد ملأت بالشعر سهلاً وواديا ولو وجدت خنساء بعض الذي أجد تناست أخاها بعده لن تباليا وفي الختام أعزّي نفسي وزوجته الصابرة وأبناءه وبناته وإخوتي وأخواتي وكل محبيه. اللهم لو كان أخي عادل ضيفي لأكرمته واليوم هو ضيفك فأكرمه وأنت أكرم الأكرمين... اللهم أنزل على قبره الضياء والنور والفسحة والسرور وأغثه بعفوك ورضوانك وأنزل على قبره شآبيب رحمتك. (*) والدة رياض أبا الخيل