من حديث طويل مع جاري في مقعد الطائرة، قال لي عندما توفيت أمي لم يحضر خالي للعزاء، على الرغم من أنه كان على علم بمرضها ووفاتها، ومع أنه خالي الأصغر لأمي وهي من تولى تربيته ورعايته بعد وفاة جدتي، لم أر خالي منذ أن ترك العمل في شركة أرامكو منذ أكثر من عشر سنوات، حيث أنشأ مزرعة صغيرة له في قرية جدي في القصيم، لذا قررت أن أسافر للاطمئنان على صحته وأعزيه في وفاة أمي، فهو كان لها بمثابة الابن، وعندما وصلت القرية سألت صاحب محطة الوقود التي عند مدخل القرية عن طريق مزرعته، فنظر لي باستغراب وهو يتساءل: «ماذا تريد من ذلك المخبول؟» فقلت مستجدياً لطف الرجل: «إنه خالي» عندها تبسم وهو يحاول الاعتذار عما سببه من إحراج لي: «خالك رجل غريب الأطوار، لا يحب أهل القرية ولا هم يحبونه، ولا أحد يجرؤ على الحديث معه، ينعت الناس بالغباء والحماقة ويتكلم بكلام يغضب الله». كان حديث الرجل مقلقاً لي فلم أعهد خالي كذلك، نعم هو حاد بطبعه وهو سبب عدم زواجه، حيث كان يقول لأمي: «إن أي امرأة تحترم نفسها لا تستطيع العيش معي وأنا لا أريد امرأة لا تحترم نفسها» وما عدا ذلك فهو رجل كريم وشهم وصاحب نكتة، لذا لم أتقبل كلام الرجل وقلت في نفسي لربما كان على خصام مع خالي، فتصنعت ابتسامة مجاملة للرجل وطلبت أن يدلني على طريق مزرعته فمهما يكن فهو خالي. كان باب المزرعة مفتوحاً على مصراعيه فولجت بسيارتي، وسرت في الطريق للمنزل الذي كان في أقصى المزرعة، وعندما هممت بالترجل من السيارة وإذا بصوت منفعل يأتي من بعيد «هيه من أنت وماذا تريد، وكيف تدخل من غير أن يؤذن لك» فترجلت من السيارة وسرت باتجاه مصدر الصوت فأطل خالي من بين الأشجار مرتدياً قميصاً وبنطالاً قصيراً وأنا أبتسم مرحباً به، فتوقف غير بعيد مني وقال: «ماذا تريد؟» فوقفت مستغرباً تصرفه، ومستدركاً أنه ربما لم يعرفني فقلت: «أنا خالد يا خالي!» فرد على متجهمًا: «أعلم أنك خالد وأعلم أن أمك قد ماتت، فلماذا أنت هنا» لم أتمالك نفسي من هذا الجفاء فأجهشت بالبكاء وأنا أقول له: «ألا تشعر ببعض الحزن على من كانت أماً لك، أليس لديك مشاعر تجاه من فقد أمه وأتى ليعزيك أنت عوضاً عن تقبل العزاء منك، ألا تقدر تجشمي مشقة السفر للاطمئنان عليك» ظل واقفاً يستمع لنحيبي دون أن يبدي ما يعبر عن تعاطف أو تقدير لمشاعري وعندما شعر أني جاهز لتقبل حديثه قال: «أنا لا أحب الزيارات المفاجئة، ولا أحب الحزن والبكاء، ولا أحب تذكر الناس الذين تركتهم خلفي، ولا أحب أن يسأل أحد عني، أو يفتقدني فأنا لست مسلياً، ولا أحب أن أكون كذلك، لذا لا تحملني جميلاً كونك تجشمت مشقة السفر، فزيارتك لا تهمني، وأمك ماتت فلم تعد بحاجة لي ولا أنا بحاجة لها، وكونك ابن أختي لا يعني أني ملزم بمجاملتك، لذا إن لم يكن لديك ما يفيد فعد من حيث أتيت». لم أتمالك نفسي من الغيض فقلت له: «تباً لك من أخ أو خال، لقد كان صاحب محطة الوقود صادقاً فيما قال، فأنت أحمق ومتغطرس، ومع ذلك لن أعود أدراجي حتى أعرف لماذا بت هكذا بعد أن كنت شخصاً آخر؟» تبسم متحدياً وكأني قد وقعت في مصيدته: «امهه، قابلت صاحب المحطة وقال: إن خالك مجنون، وجئت تستطلع ذلك، وها أنت تأكدت أن خالك مجنون، فارحل ودع خالك المجنون لجنونه». فقلت له: «لا.. لن أرحل حتى أعرف الحقيقة، حقيقتك وحقيقة جنونك». فقال متحدياً مرة أخرى: «وهل تعرف ما معنى الحقيقة حتى تستفهمها؟». قلت: «نعم». فقال مسترسلاً في تحديه: «قل لي ما هي الحقيقة وما ذا تعني لك». فقلت وقد باغتني السؤال: «الحقيقة هي الثابت من العلم». فضحك ضحكة مصطنعة، وقال: «أرأيت أنت لا تختلف عن البقية، تنظر للمعاني من منطلق أناني فتقرر أن الحقيقة هي الثابت بالنسبة لك، فأنت من يقرر حقيقة الأشياء حولك لأن نظرك لها سطحي وكذلك معظم الناس وهو مايجعلهم في صراع لأن كلاً يرى الحق بجانبه، وما هو حق في نظرك اليوم لا يكون كذلك عندما تتغير مصالحك وحاجاتك، لذا لا تتكلم عن الحقيقة وأنت لا تعي ما هي». فسارعته برد يناسب غروره: «منك نستنير أنا اليوم بين يديك أرشدني. ما هي الحقيقة؟». عندها رمقني بعين حادة وهو يقول: «أعلم أنك تستهزئ بي، ولكن اعلم أنني ما تركت الناس إلا اتقاء حماقاتهم واستخفافهم، لأن ما أقوله يستلزم ذهنًا متقدًا وعقلاً ناقدًا وروحًا قلقة لتقبله، ولا أعلم إن كنت أنت كذلك». شعرت بحرج حقيقي فما كان قصدي إلا استدراجه حتى يلج في خرافاته كما قال لي صاحب المحطة، لذا قلت له معتذراً: «أرجوك ألا تؤاخذني بزلتي وأعدك أن أستمع لك بعقل واعٍ وذهن صافٍ». أطرق قليلاً ثم قال: «حسناً، انظر لهذه النخلة مما هي مكونة منه؟». فقلت: «جريد وجذع». فضحك وقال: «لا لا.. أقصد مكوناتها الأدق». قلت: «ماء ومركبات عضوية متعددة». قال: «نعم هي كذلك، ولكن ما هي المكونات الأدق من ذلك». فقلت: «أتقصد العناصر الأولية كالكربون والأكسجين؟». قال: «بل الأدق من ذلك». قلت: «ليس هناك أدق من مكونات الذرات كالبروتون والنيوترون والإلكترون». ابتسم ابتسامة المنتصر، وقال: «بل هناك ما هو أدق، ولكن لنكتفي بما قلت، لو نظرت لهذه النخلة من حيث مكوناتها الدقيقة، مالذي يفرقها عن محيطها من الهواء والماء والتراب؟». لم أفهم ما كان يرمي له لذا قلت: «لم أفهم ماذا تقصد». فقال: «سأجيبك، الواقع أن لا شيء يفرقها عن محيطها من حيث المكونات الأساسية، وما ميزها بالصورة التي تراها إلا انتظام تلك المكونات بصورة مختلفة عما هو في محيطها، لذا فالحقيقة التي ميزت النخلة عن محيطها تكمن في النظام الذي رتب المكونات بالصورة التي بدت لك فيها النخلة، إذًا الحقيقة هي النظام، أما المكونات فهي متماثلة ولو تبعثرت بصورة عشوائية لما بات هناك شيء مميز، فلو نزعنا النظام من المادة لنزعنا الوجود برمته وباتت المادة هباءً منتشرًا». وقبل أن ينهي كلامه نظر لي بعينين متسعتين، وقال: «ستقول ما هو النظام؟ وأنا أقول لك إن للنظام مكونات دقيقة تتكون من مكونات أدق حتى تصل لوحدة النظام الأدق والمتمثلة في الدائرة، الآن إذا كنت كما قلت متقد الذهن واعي العقل فلن تسألني عن أي أمر بعد هذا». ثم تركني واقفًا وهو يقول: «عد من حيث أتيت، ولا تعدني مرة أخرى فلا يروقك حديثي ولا يروقني جهلك». كنت مصدوماً بحديث خالي وتجريديتهلجافة، ومستاء من تعاليه وتعجرفه، ولكن في ذات الوقت كنت متشوقاً لسماع المزيد من تحليلاته، فهو يرى العالم حوله بصورة مختلفة، وبغض النظر إن كنت أتفق أو أختلف معه كان صاحب ذهن وقاد وروح قلقلة، تركته وأنا عازم على زيارته في العام القادم.