تلاحظون كما ألاحظ على الساحة اليوم كثرة المعبرين للرؤى وكثرة المتسابقين إلى ذلك في كل مجال متاح سواء كان مسموعاً أو مرئياً أو مقروءاً كمجلة لها زاوية مخصصة للتعبير ونحو ذلك من هذا التزاحم العجيب، وبلاشك فإن علم تعبير الرؤى علم عظيم يمن الله به على من يشاء من عباده قال تعالى عن نبينا يوسف عليه السلام: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} قال مجاهد وغير واحد، «يعني تعبير الرؤيا» وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يعبر الرؤى وكثيراً ما سأل صلى الله عليه وسلم الصحابة كما في حديث سمرة بن جندب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه فقال: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقالك (أيها الناس إنه لم يبقَ من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له) صحيح مسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة والرؤيا ثلاثة فرؤيا الصالحة بشرى من الله ورؤيا تحزينٌ من الشيطان ورؤيا مما يُحَدِّثُ المرء نفسه فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فيصلِّ ولا يُحَدِّثُ بها الناس) صحيح مسلم. وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله كما في مجموع مؤلفاته: (علم التعبير علم صحيح يمن الله به على من يشاء من عباده)، وقال في موضع آخر: وعبارة (الرؤيا علم صحيح) ذكره الله في القرآن ولأجل ذلك قيل: لا يعبر الرؤيا إلا من هو من أهل العلم بتأويلها، لأنها من أقسام الوحي. وقد نبّه الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات أنه مامن مزية ومنقبة أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم سوى ما استثني، إلا وقد أعطيت أمته نموذجاً، وهذا يعلم بالاستقراء، ومن ذلك أنه أعطي الوحي له، ولأمته أعطيت الرؤيا الصالحة، وما نحن بصدده هنا هو ملاحظة كثرة المعبرين للرؤى وإن شئت فقل كثرة المحللين للرؤى تحليلا نفسيا يتضح ذلك من كثرة الأسئلة الملقاة على الرائي بدون فائدة ولذلك انقسم المعبرون للرؤى إلى ثلاثة أقسام قسم أسرف بالسؤال حتى كأن المعبر في مثل هذه الحالة يبحث عن جزئية موجودة يحتاجها الرائي فيلقي عليها تعبيره مع زيادة في الكلام الإنشائي المطول فبهذا يوافق المعبر حاجة الرائي مما يقدح في ذهن الرائي أن هذا المعبر من المجيدين للتعبير وهو ليس كذلك، والقسم الآخر معبر يلقي عبارة الرؤيا على الرائي بمجرد الاستماع إليه دون معرفة حالته وكأنه يرجم بالغيب ولا يعلم الغيب إلا الله والقسم الثالث هو التوسط بين هذا وذاك فيقوم المعبر بسؤال الرائي سؤالا واحداً أو سؤالين من جهة العموم وتكون الأسئلة عن صلاح الرائي والتزامه بدينه وتقواه ونحو هذا لأن رؤيا العبد الصالح غير رؤيا العبد الفاسق بكل تأكيد ومن ثم يعبر مبتدئاً بقوله (خيراً لنا وشراً لأعدائنا) كما في وصايا عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما ثم يفكر ويتفرس به ثم يقول إن صحت رؤياك فهي كذا وكذا والعلم عند الله. وهذا هو المعبر الحقيقي الذي يستن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبسنة صحابته الكرام حيث يدل على ذلك الشواهد الكثيرة من تعبير الرسول صلى الله عليه وسلم تعبير الصحابة الكرام وبهذا ينتفع المعبر بدعاء الناس وينتفع الرائي بحصول المبشرات التي تثبتهم على الحق وبحصول النذارات التي تنبههم وتحذرهم فالناس في العموم ينتفعون من المعبر الصادق عند تعبيره للرؤيا بالبشارة أو النذارة لأن علم تعبير الرؤى علم ظني وليس قطعي الدلالة والثبوت بمعنى أن هذا التعبير لا يعول عليه إثبات حكم شرعي أو نفيه ولا أن يتهم إنسان بعرضه أو دينه بمجرد تعبير معبر حاذق صادق فكيف بمعبر متخبط متلاعب كذاب أقرب إلى علم الشعوذة وأكل أموال الناس بالباطل من علم التعبير المعتبر. أيها القراء الأعزاء: لعلك لاحظت بعضا من المآسي المحزنة والإشكالات الكثيرة لبعض الناس من مثل هؤلاء الذين يعبرون فيتخبطون ويخطئون ولا يرعوون بل ويصرون ولا يترددون باتهام الناس عن التسبب في السحر مثلا أو بالعين والحقد والحسد ونحو ذلك بل من العجب أن يتهم إنسان بالخيانة والعياذ بالله بمجرد رؤيا لا يؤخذ منها حكم قطعي كما تقدم سبحان الله ولم يعلم هذا الجاهل أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو أعبر هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب بعضاً وأخطأ بعضاً في تعبيره بين يدي رسول الله كما في الحديث الذي رواه ابن عباس قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله إني رأيت في المنام ظلة تنطف سمنا وعسلا ورأيت الناس يتكففون منها فالمستكثر والمستقل ورأيت سببا واصلا إلى السماء رأيتك أخذت به فعلوت به ثم أخذ به رجل بعدك فَعَلا به...) الحديث. وكذلك تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة عندما عبرت الرؤيا للمرأة التي يكثر زوجها السفر بقولها لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك وتلدين غلاما فاجراً، فقال رسولنا صلى الله عليه وسلم: مه يا عائشة إذا عبرتم الرؤيا للمؤمن فاعبروها له على الخير. فهل فكر هذا المعبر بالعواقب المترتبة على تعبيره أم هي الشهرة والمال الذي غطى على تفكيره حتى أصبح لا يهتم بأمر المسلمين. فمما يجب أن نتنبه له أن المعبر له ضوابط وآداب يعرف بها على دقة إجادته للتعبير منها على سبيل المثال أن يكون لديه العلم والمعرفة والاطلاع بشكل عام بالبشارات والنذارات لأنها اصل تعبير الرؤيا. وبشكل خاص يكون لديه العلم بتفسير القرآن وأمثاله ومعانيه وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبما ضرب لنا من أمثال وكذلك معرفة المعبر بمشتقات اللغة العربية ومعاني أسمائها وأن يميز بين الرائين، فرؤيا العبد الصالح غير رؤيا العبد الفاسق وأن يفرق بين الرؤيا الصادقة بشروطها المعروفة والتي من أهمها الوضوح والقصر وبين ما كان من مخزون الذاكرة كأن يكون الرائي مهتما بشيء فيراه في المنام وأن يعبرها على أحسن وجه، وأن لا يدعي المعبر الإلهام مجرداً عن العلم الشرعي لأن من ادعى الإلهام وحده صار خطؤه أقرب من صوابه من جهتين أولاهما تزكيته لنفسه دون مستند شرعي يشهد له بذلك وثانيهما أن كلمة الإلهام يمكن لكل بر وفاجر أن يدعيها ويتصدر بها للتعبير وربما ادعى الإلهام للتلاعب بعقول الناس وخاصة النساء فيصل إلى مآربه المشينة بهذه الدعوى وما نشاهده اليوم من الجرائم الخلقية شاهد على هذا ولو علم كل معبر أن التعبير فتوى وأن الصحابة الكرام كانوا يتدافعون الفتيا، لعلمهم بخطر القول على الله بغير علم فهم يتورعون عنها، إيثاراً للسلامة، وخوفاً من القول على الله بغير علم أقول: لو علم كل معبر هذا الأمر لما تساهل في التعبير جزافاً ولتورع عن ذلك وقد سئل الإمام مالك رحمه الله أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبِالنبوة يلعب، ثم قال لا يعبر الرؤيا إلا من أحسنها، فإن رأى خيراً أخبره، وإن رأى مكروها فليقل خيراً أو ليصمت ولهذا ينبغي على المعبر والسائل معا عدم التشاغل بتعبير الرؤيا والإلحاح بالسؤال عنها حتى كأنها شغلنا الشاغل وأن الحياة لا تسير إلا بتعبيرها وبناء الأحكام عليها سبحان الله ألا يلاحظ القارئ الكريم أن هذا الأمر أشغل المجتمع المسلم عن كثير من المهمات الأخرى المنوطة به ومن ذلك قراءة القرآن والتأدب والالتزام بتعاليمه وتوظيفها في حيلتنا المعاصرة مع التأمل والتفكر والتدبر بعظمة الله سبحانه وتعالى. أيها القراء الأعزاء: من خلال ما سمعت من الضوابط والتنبيهات السابقة هل تعتقد أن كل الذين يتصدرون للتعبير عبر القنوات الفضائية والإنترنت والصحف ملتزمون بذلك؟ أم هم محللون نفسانيون ساعد على ظهورهم قلة الوعي عند بعض الناس؟