بعد أن تضاءل الاهتمام بزلزال اليابان، يقف العالم بأسره اليوم أمام شاشات التلفزيون وهو يتساءل ماذا حدث للعرب وما دهاهم؟ فمعظم الدول العربية تعج مدنها بالمتظاهرين المطالبين بسقوط النظام، وسادة النظام متشبثون بسلطة النظام رغم زخم الطاقة المطالبة بالتغيير، وترك الناس منازلهم وأعمالهم وأقاموا في الشوارع والميادين لعل ذوي النظام يستجيبون لمطالبهم ويرحلون بنظامهم. هذا الحراك النشط والمفعم، أين كان قبل اليوم ؟ وهل سيستمر هذا في ديناميكية متجددة لتغيير حال تلك البلدان لحال أفضل؟ أم أن هذه الزوبعة ما تلبث أن تستكين ويتغير النظام ويولد نظام جديد ما يلبث أن يلبس العباءة القديمة ويسود سلطان جديد، وبأدوات قمع وقهر جديدة تحكم السيطرة فلا يجد الناس بعد ذاك مخرجاً للشارع ليطالبوا بسقوط النظام من جديد. معظم هؤلاء الزعماء، هتف لهم حتى انبحت الحناجر عند مقدمهم، وكتبت في مدحهم قوافي الشعر وأسبغت عليهم الألقاب وتبادلت عليهم وفود الولاء، كانوا إذ ذاك قريبين من الناس، يحسون حاجتهم ويلتمسون رضاهم ويقسمون بسرهم وجهرهم أن لا يكون لهم همٌ غير همّ حماية الوطن ولا شاغل إلاّ الجهد في سبيل بناء مجده وعزته، ثم تمر السنون واحدة تلو الأخرى، ويصبح للزعيم جبروت وسطوة، فيكون همّه الأول تخليد ذكره وتوريث عقبه وبناء أسطورته، وشغله الشاغل قمع من تسوّل له نفسه التساؤل عما حل بالبلاد من تخلّف وذل، هذا الزعيم لا يسمع من حوله سوى الإطراء والتمجيد ولا يستسيغ منهم سوى التزلف والتملق والنفاق، ولا يمنح شعبه إلاّ الذل والخوف والفقر. فلماذا يتغيّر الزعيم العربي من إنسان واعد صادق إلى إنسان مستأثر كاذب؟ هذا السؤال شغل فكري وتدبّرت في أدبيات قديمة تصاريح وكلمات لأولئك القادة وقارنتها بمقالتهم اليوم وتصرفاتهم ومآلاتهم، فوجدت تناقضاً عظيماً وتغيراً كبيراً في المفاهيم والسلوكيات لم يكن يحدث لدى الزعيم دون مؤثر دافع لذلك التغير، هذا المؤثر الدافع فيما اعتقد هو محصلة الفكر السياسي العربي التاريخي، فعلى مر العصور تكون لدى العرب مفهوم مركب لدور القائد، تمثل في تفويض مطلق للتصرف بكل الشؤون وقبول خاضع لكل ما يمليه القائد دون مساءلة أو مراجعة، ومفهوم مركب لعلاقة القائد بشعبه تمثل في حتمية السمع والطاعة والانقياد كرعية لراعيها دون أن تسأل، ومفهوم مركب لحصانة القائد من النقد والتشكيك وفقدان الأهلية يبلغ في مراحل متقدمة حدود التقديس، هذه المفاهيم انغرست في قعر الذهنية العربية فتأسست عليها مفاهيم السياسة العربية، فدولة العرب هي دولة القائد وليست دولة قيم ونظام ومؤسسات، القائد يضع الدستور ويعدله ويلغيه متى أراد، والقائد يدعي القيم ويناقضها في نفس الوقت، والقائد هو الدولة التي تعمل مؤسساتها بوحي من رغباته، العرب فهموا النظم السياسية الحديثة بمنظارهم الخاص فاشتراكيتهم ليست كاشتراكيات بقية العالم، وديمقراطيتهم ليست كديمقراطيات بقية العالم، والحرية لديهم لها معنى آخر اسمه « الحرية المقيدة « والرأي عندهم اسمه «الرأي المسؤول» والنقد اسمه عندهم «الهجاء والتقريع». العرب بفكرهم السياسي الموروث، هم من يصنع من الزعيم صنماً يقدسونه وعندما يموت يقومون بصناعة صنم آخر من جديد، فزعيم العرب دائماً فذ زمانه وحكيم أيامه، قراراته رشيدة وأقواله عبر، يستولي على موارد البلاد فتصبح موازنة الدولة سلسلة من العطايا والهبات والمشاريع تدفع وكأنها من جيبه الخاص. وتصبح البلاد برمّتها تدور في فلكه ومن أجل إسعاده، فالجيش هم حرسه الخاص والصحة هي مستشفاه الخاص والمناصب من حظ الأهل والمقربين وهكذا يتسرب لعقل الزعيم رويداً رويداً شعور بالقداسة فيسلط شهواته ونزعاته ويستخف بالناس وحقوقهم. الزعيم العربي هو صناعة عربية أصلية وبمفاهيم عربية وموارد عربية، الزعيم العربي لا يحتاج أن يكون عميلاً للقوى الكبرى ليظفر بالحماية، الزعيم العربي تحميه الشعوب بالروح والدم وتبيح له سحق وسحل من لا يهتف للزعيم، الزعيم العربي محصن ضد عوامل التغيير بموروث مقدس من مفاهيم دينية مغلوطة وعادات قبلية بالية وتاريخ مشوه وأدبيات منحولة ومزورة، الزعيم العربي محاط بمفكرين ومفتين ومطبلين هم نخبة الشعب وممثلوه يصورون له واقع البلاد كما يحب ويتخيل، ولكن ماذا حصل للشعوب العربية في هذا الزمن، حتى تنتفض على واقعها وتسعى لتحطيم الصنم ؟، هل هذه بداية تغيير حقيقي في المحصلة الفكرية السياسية التاريخية للعرب وانقلاب على نتاجها؟. كثيرون يتحدثون عن تأثير الفيس بوك والإنترنت والبريد الإلكتروني في تكوين قدرة تنظيمية ساهمت في بناء ثقة غير مسبوقة لدى الجماهير في القدرة على التجمع ومقارعة قوى الزعيم بشعارات وأهازيج سلمية، هذا الكلام صحيح في مجمله، ولكن التغيير الحقيقي حدث قبل ذلك، التغيير الحقيقي حدث في الأذهان وتكوّن تبعاً لذلك مفاهيم باتت تقود التحرك للتغيير، والمحرك الحقيقي لتلك المفاهيم هو العولمة بكل صورها، فلم يعد العربي رهينة لواقعه المغلق بحكم قوى المخابرات وآلة الدعاية الحكومية، لقد بات العربي جزاءً من العالم يتوق ليحتل مكاناً مرموقاً بين أممه، يدعمه إرث تاريخي عظيم وطموح جامح تغذية طاقة الشباب وأمله، فهل يدرك الزعماء العرب والذين لازالوا زعماء أن الزمن قد تغير وأن الفكر العربي السياسي قد تغير إلى الأبد، وبات عليهم التعامل مع هذا التغير بمسؤولية وجدية وتغيير أجندتهم لتتفق معه، وإلا فإن التغيير الحتمي سيأتي بصورة تسونامي جارف لا يبقي ولا يذر.