هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    خطيب المسجد الحرام: ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي مِمَّا يُفسد العلاقات ويقطع حِبَال الوُدِّ    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    إطلالة على الزمن القديم    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    ندوة "حماية حقوق الطفل" تحت رعاية أمير الجوف    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نفحات ثقافية من ثورة تونس ومصر
نشر في أنباؤكم يوم 13 - 02 - 2011


عبدالله بن ناصر الصبيح - نقل عن مجلة العصر
وعظمة ثورتي تونس ومصر، أنهما فقدتا القائد الرمز الذي يفكر نيابة عن الأمة ويخطط نيابة عنها، وأصبحت الأمة بمجموعها واعية بما تريد تدرك أهدافها وتعي مستقبلها. إن أمة هذا شأنها لن تسرق ثورتها ولن تحرف مسيرتها. نعم، ربما تواجه بعض العقبات لأن الخصم الجاثم عليها يملك قوة وعتادا ولكنه لن ينتصر عليها، والمسالة الآن مسألة زمن لن يطول بإذن الله..
بقلم د. عبدالله بن ناصر الصبيح
(1)
لكل ثورة – أي ثورة - مفاهيمها ومفرداتها وموضوعاتها، فهي تستهدف تغيير العقول بتغيير الثقافة فهي ليست تغييرا في الصورة والشكل فقط بل تغيير عميق في وجدان المجتمع. الثورة الأمريكية وبعدها الثورة الفرنسية كلتاهما تركتا أثرا كبيرا على الشعبين ولازال صداه إلى اليوم، وهذا الأثر انتقل إلى سائر أوربا.
وثقافة الثورة ومفاهيمها تؤخذ من شعاراتها والأدبيات الموجهة لسلوك الثوار ومن بياناتها اليومية وتصريحات قادتها والناطقين باسمها ومن سلوك الثوار. وتزداد هذه الثقافة رسوخا إذا صدرت في صورة دساتير وبيان يلخص أهداف الثورة كما فعلت الثورة الفرنسية حينما أصدرت بيان حقوق الإنسان وكما فعلت الثورة الأمريكية حينما أصدرت إعلان الاستقلال.
ووثائق هاتين الثورتين أصبحت مرجعا للدساتير ومواثيق حقوق الإنسان فيما بعد. أما أبرز المفاهيم التي صدرت عن هاتين الثورتين فمنها فصل الدين عن الدولة وحق حرية التعبير وحق المساواة. ولست بصدد مناقشة ما أنتجته هاتان الثورتان فمنه حق ومنه باطل ولكن غايتي التنبيه إلى أن لكل ثورة ثقافتها الخاصة بها والواجب على العقلاء فحص هذه الثقافة لإقرار ما يصلح والتنبيه على بطلان الباطل مها.
إن للثورة سلطانا على القائمين بها، وهي تمثل لهم مرجعية في الفكر والتصورات. والثورة يمكن أن توصف بأنها فاشلة أو مسروقة أو في أحسن حالاتها استهلكت أغراضها إذا اضمحلت ثقافتها وغاب تأثيرها عن المجتمع.
وفي عصرنا الحاضر، كان للثورة الإيرانية وهج عال عند الشعب الإيراني خاصة وعند الشيعة عامة ورسخت مجموعة من المبادئ والمفاهيم لعل من أهمها عدم انتظار الإمام الغائب والمشاركة في الشأن السياسي العام. ومع ذلك فنحن نشاهد حركة احتجاج داخل المجتمع الإيراني على مبادئ الثورة ولعل هذا يشير إلى أن الثورة بدأت في استهلاك أغراضها.
وهذه الثورة التي انطلقت في مصر وقبلها تونس يتوقع أن تحدث تغييرا ليس فقط في هذين القطرين بل في العالم العربي قاطبة. ومن يشاهد التغيرات التي تحدث الآن في العالم العربي يدرك أن الشعوب العربية مهيأة لما تبثه هذه الثورة من مفاهيم وقيم وأساليب في التغيير الاجتماعي. إننا نشاهد الآن نفس الشعارات وأساليب التغيير ومظاهر الاحتجاج التي رفعت في هاذين البلدين ترفع في أقطار عربية أخرى.
(2)
والثورة حينما تفاجأ من هم خارجها بمطالبها ومفاهيمها وثقافتها يعسر على بعض الناس استيعابها وربما رفضوها وشككوا في جدواها، أو في مشروعيتها. وحينما أقول بعض الناس فأعني به ذوي الرأي من المفكرين والعلماء وأصحاب الثقافة. أما لماذا موقفهم الرافض أو المتردد، فله أسباب لعل أهمها اثنان:
1. أن بعض ما أنتجته الثورة من ثقافة مما لم يألفوه، وكثير من الناس يستنكر ما لم يألفه.
2. أن بعض مطالب الثورة مما يحتاج إلى مغامرة وتضحية، وهم يرون أن المغامرة ربما أفقدت أصحابها بعض ما نالوه من حقوق. ويرون أن الأولى المحافظة على القليل من الحقوق مهما كان حقيرا خير من مغامرة يفقد بها المغامر ما عنده، ولاسيما أن وعود الثورة ليست مضمونة ومكاسبها لا يعول عليها.
وهؤلاء الرافضون ينسون فساد الوضع القائم والمفاسد العظيمة الناتجة عنه.
ولابن خلدون رحمه الله تعليل جيد لمثل هذه المواقف ذكره في مقدمته يحسن إيراده هنا. فهو يرى أن من استسلم للذل والاستعباد يكون عاجزا عن المدافعة ومن باب أولى يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة.
والثورة تقتضي من أصحابها رفض الوضع المهيمن والتمرد عليه، وهم يرون أنفسهم أعجز من أن يقوموا بذلك، يقول ابن خلدون:" المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها، فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة، فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة.
واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام وأخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكها كيف عجزوا عن ذلك، وقالوا إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، أي يخرجهم الله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا وتكون من معجزاتك يا موسى.
ولما عزم عليهم لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا له "اذهب أنت وربك فقاتلا"، وما ذلك إلا لما أنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها، وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد وما رئموا من الذل للقبط أحقابا حتى ذهبت العصبية منهم جملة، مع أنهم لم يؤمنوا حق الإيمان بما اخبرهم به موسى من أن الشام لهم وأن العمالقة الذين كانوا بأريحا فريستهم بحكم من الله قدره لهم، فقصروا عن ذلك وعجزوا، تعويلا على ما في أنفسهم من العجز عن المطالبة لما حصل لهم من خلق المذلة وطعنوا فيما أخبرهم به نبيهم من ذلك وما أمرهم به، فعاقبهم الله بالتيه وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة لم يأووا فيها العمران ولا نزلوا مصرا ولا خالطوا بشرا كما قصه القرآن لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه، ويظهر من مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الإحكام والقهر، ولا يسام بالمذلة، فنشأت بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب. ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر، سبحان الحكيم العليم"
ولا يخفى أن الفكر مقدمة للسلوك والعمل ولهذا جاز لنا أن ننقل ما ذكره ابن خلدون عن العمل والسلوك إلى الفكر والرأي ونطبقه عليه. ومن قام بعمل فإنه يحدث نفسه ويتصوره في ذهنه قبل أن ينفذه في الواقع.
(3)
الثورة المصرية التونسية مقدمة لتحولات ثقافية ضخمة في المنطقة ومؤذنة بمسار تاريخي جديد سوف تشهده شعوبها وسوف يتغير به وجه التاريخ في المنطقة.
إن ما حصل في تونس وفي مصر هو تغير في حالة الوعي الجمعي والإرادة الجمعية، وهذا هو أعلى درجات التغير. وكان التغير في السابق تغيرا في النخب، فالنخبة هي من يعي وهي من يريد ولذلك يسهل تجاوزها وتهميشها أو اصطلامها أو تهجيرها إن لم تسندها قوة سياسية أو عسكرية، أما في الحدث الراهن فإننا نشهد تغيرا في وعي عموم الشعب ، ونشهد أيضا أن الشعب خرج ليعبر عن وعيه، وقدم التضحيات من أجل هذا الوعي.
إنها حالة غير مسبوقة في العالم العربي في العصر الحديث. في الماضي شهدنا مظاهرات يدعو إليها زعماء أو أحزاب فيستجيب لها قطاع عريض من الشعب وربما ضحى استجابة لتوجيهات القيادة، وهذه حالة مختلفة لأن إرادة الجماهير مرهونة بإرادة القائد ووعيها تبع لوعيه، فالقائد هو من يرسم لها أهدافها وخطواتها المستقبلية أما هي فتنفذ.
ويمكن القول إن وعيها متخلف عن فعلها، ووعيها بشخصية القائد أكثر من وعيها بما تريده هي. ولهذا تجدها بعد فترة ربما جعلت من القائد صنما أو شبيها بالصنم، وأصبحت مستعبدة له، ويصدق عليها قول الله عز وجل عن فرعون وقومه:"فاستخف قومه فأطاعوه".
إن عظمة ثورتي تونس ومصر، أنهما فقدتا القائد الرمز الذي يفكر نيابة عن الأمة ويخطط نيابة عنها، وأصبحت الأمة بمجموعها واعية بما تريد تدرك أهدافها وتعي مستقبلها. إن أمة هذا شأنها لن تسرق ثورتها ولن تحرف مسيرتها. نعم، ربما تواجه بعض العقبات، لأن الخصم الجاثم عليها يملك قوة وعتادا ولكنه لن ينتصر عليها، والمسالة الآن مسألة زمن لن يطول بإذن الله.
هذه الثورة أطلقت عددا من المفهومات الثقافية وهي الآن تنداح في الوعي الجمعي العربي من المحيط إلى الخليج، تماما كدوائر الماء التي تنداح في البحر الخضم متصلة متعاقبة حتى تبلغ الشاطئ.
مفاهيم الثورة يمكن إدراكها من شعاراتها ووسائلها التي استخدمتها في تحقيق أهدافها وسوف أعرض فيما يلي عددا منها.
(4)
لعل أكثر شعار ردده المتظاهرون في مصر هو شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، وهذا الشعار متوقع لأن هذا هو شأن الثورات جميعا فهي تريد إسقاط النظام. والتحدي الذي يواجه الثورة في مصر وتونس هو إعادة بناء النظام. وبعض الثورات تنجح في إسقاط النظام، ولكنها لا تنجح في بناء النظام الذي تريد، وبعض الثورات عند أصحابها قصور في الفهم فتسقط طاغية ظالما وتضع بدله ظالما آخر، أو تؤسس لنظام حكم مستبد يسومها فيما بعد سوء العذاب.
إن الأنظمة التي تفتقد المحاسبة هي مشاريع لأنظمة مستبدة ظالمة مهما كان أصحابها صالحين فضلاء. ولهذا وجدنا الخلفاء الراشدين جميعا يؤكدون على حق الشعب في محاسبتهم لأن المحاسبة هي ضمانة منع استبداد الحاكم، مثلا، أبوبكر رضي الله عنه قال في خطبة البيعة: "إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أصبت فأعينوني وإن أخطأت فقوموني".
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في خطبته:" ولكم علي أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها: لكم علي ألا أجتبي شيئا من خراجكم ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه ولكم علي إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى، وأسد ثغوركم.. فاتقوا لله عباد الله وأعينوني على أنفسكم بكفها عني وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي علن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم".
ومن مفاهيم بناء النظام التي جلبتها الثورة، فأصبحت حاضرة في وعي الشعب أن الشعب له حق اختيار من يمثله واختيار من يحكمه. وإذا كان هذا حقا من حقوقه فله حق حجبه عمن يشاء ممن يسيء استخدام هذا الحق.
إننا نلاحظ أنه في الأنظمة المتسلطة المستبدة استقر في وجدان شعوبها، أن الحكم أمر يخص الحاكم وليس للشعب منه شيء، ولهذا تجد بعض الشعوب لا تبالي بمن حكمها لأنها تعلم أنه ليس من شأنها اختياره ولا رأي لها فيه معتبر.
أما في الإسلام، فالأمر بخلاف ذلك، الناس هم من يختار من يحكمهم فيولونه ويعزلونه إذا أساء. روى البخاري في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ لَكَ فِي فُلَانٍ يَقُولُ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا فَوَاللهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ إِنِّي إِنْ شَاءَ اللهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ وَأَنْ لَا يَعُوهَا وَأَنْ لَا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا.
فَقَالَ عُمَرُ أَمَا وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لَأَقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِي عُقْبِ ذِي الْحَجَّةِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَجَّلْنَا الرَّوَاحَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ حَتَّى أَجِدَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ جَالِسًا إِلَى رُكْنِ الْمِنْبَرِ فَجَلَسْتُ حَوْلَهُ تَمَسُّ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ مُقْبِلًا قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ لَيَقُولَنَّ الْعَشِيَّةَ مَقَالَةً لَمْ يَقُلْهَا مُنْذُ اسْتُخْلِفَ فَأَنْكَرَ عَلَيَّ وَقَالَ مَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ فَجَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَعْقِلَهَا فَلَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ وَاللهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلَانًا فَلَا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ أَلَا وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ اللهَ وَقَى شَرَّهَا وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الْأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْر،ٍ مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا.. وَإِنَّا وَاللهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ بَعْدَنَا فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لَا نَرْضَى وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ فَيَكُونُ فَسَادٌ فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُتَابَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا. (صحيح البخاري (الطبعة الهندية) (ص: 3402). وقوله ( تغرة أن يقتلا): تغرة مصدر غرر بنفسه تغريرا وتغرة إذا عرضها للهلاك، أي خوفا من أن يقتل المبايع والمتابع.
(5)
مما جرت به عادة عدد من الباحثين والواعظين والمفتين أن الفتنة إنما تقع إذا انتقد أحد أمرا من الشأن العام فقدم نصيحة عامة أو انتقد سياسة للحكومة أو نظاما من نظمها أو قانونا من قوانينها أو تحدث عن فساد في مشروع من مشاريعها. بل إن البعض عد هذا النوع من الحديث خروجا وشبهه بالخروج بالسلاح فقال إن الخارج بلسانه كالخارج بسيفه. ولهذا هم يحذرون من هذا النوع من الحديث لأنه كما يقولون يفتح باب الفتنة. وفي مقابل ذلك لا يتحدث هؤلاء عن حقوق الرعية أو الشعب ولا يحذرون من التعدي عليها وربما رأى بعضهم أن إيصال بعض حقوق الناس إليهم مكرمة يجود بها ولي الأمر على الناس ومنة له عليهم, وهم في ذلك لا يفتأون معظمين لحق ولي الأمر مهملين لحق الشعب.
ثورة تونس ومصر قلبت المسالة فتداعيات الأحداث أثبتت أن الفتنة تقع حينما يتعدى الحاكم على حقوق الشعب وكرامته وماله. وأظهرت الأحداث أن للشعب حقوقا يجب أن تصان وأن التعدي عليها ثمنه باهظ ويفتح باب فتنة. وأثبتت أن ما كان يظن أنه يفتح باب فتنة وهو الحديث في الشأن العام إنما هو حق للشعب ومن النصيحة لولي الأمر ويأثم الشعب بالتخلي عنه، والقيام به فرض كفاية. ويجب على ولي الأمر تشجيعه وحماية من يقوم به حتى يؤديه من غير خوف.
روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ".
وروى أيضا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى مُغَيْرِبَانِ الشَّمْسِ، حَفِظَهَا مِنَّا مَنْ حَفِظَهَا، وَنَسِيَهَا مَنْ نَسِيَ ..(وكان مما قاله) أَلَا إِنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، أَلَا وَأَكْبَرُ الْغَدْرِ غَدْرُ أَمِيرِ عَامَّةٍ، أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا مَهَابَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا عَلِمَهُ، أَلَا إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ".
(6)
من المفاهيم التي جلبتها الثورة في وجدان الشعب، مفهوم المطالبة بالحق، ففي يوم 25 من يناير وقبله وفي النشرات التي وزعتها حركة 6 إبريل كان التأكيد على الخروج في المظاهرة للمطالبة بالحق.
إن مسألة الحقوق مهمة جدا للاستقرار الاجتماعي فالحقوق المهملة تجرئ على الظلم والتعدي، ومن الناس من لا يرتدع عن الظلم بوازع ذاتي ولابد له من رادع خارجي، وهو وازع السلطان الذي يمنع الظالم من ظلمه وينصف المظلوم ممن ظلمه، فإذا غاب وازع السلطان أو ضعف أو فسد فأصبح ظالما متعديا فلابد لأصحاب الحقوق أن يدافعوا عن حقوقهم ويطالبوا بها.
والتسامح بين الناس في الحقوق يكون مشروعا حينما تكون الحقوق مصانة والتعدي عليها ليس سنة في المجتمع، وإنما تقع أخطاء من آحاد الناس على البعض أو من الحاكم على أفراد من الشعب ولكنها ليست سياسة عامة للحاكم أو أمرا شائعا في المجتمع، في هذه الحالة يحمد لمن ظلم أن يعفو وان يصبر على ظالمه، وعليه يحمل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي فيه الأمر بالصبر على جور الحاكم حتى وإن أخذ المال وضرب الظهر.
أما حين يكون ديدن الحاكم الظلم والتعدي على حقوق الشعب وسرقة قوتهم وخيانة الأمانة كما هو في تونس وفي مصر، فلابد من الإنكار عليه لأن الغاية من الإمامة غير متحققة فهي أصبحت معدومة أو شبه معدومة.
الأمر بالصبر على ظلم الحاكم إذا كان الإنكار عليه يفضى إلى مفسدة أكبر من الظلم الواقع على آحاد الناس ولكن إذا كانت الغاية من الإمامة التي من أجلها نصب الحاكم غير متحققة فمفسدة الإنكار أقل من بقاء الحاكم الظالم المستبد الذي ألغى الشريعة ونشر الظلم وشرع للفساد.
وقيمة المطالبة بالحق الخاص ودفع الظلم جاءت بها الشريعة بحمد الله، ومما يذكر هنا ما ورد عن عمر رضي الله عنه، "قال جرير بن عبدالله البجلي إن رجلا كان مع أبي موسى الأشعري وكان ذا صوت ونكاية في العدو فغنموا مغنما فأعطاه أبوموسى بعض سهمه فأبى أن يقبله إلا جميعا فجلده أبو موسى عشرين سوطا وحلقه. فجمع الرجل شعره ثم ترجل إلى عمر بن الخطاب حتى دخل عليه.
قال جرير (راوي الخبر): وكنت أقرب الناس من عمر حين أدخل عليه فأخذ شعره ثم ضرب به صدر عمر بن الخطاب، ثم قال: أما والله لولا النار.. فقال عمر: صدق والله لولا النار. فقال يا أمير المؤمنين إني كنت ذا صوت ونكاية.. فأخبره بأمره وقال: ضربني أبو موسى عشرين سوطا وحلق راسي. فقال عمر: لأن يكون الناس كلهم على صرامة هذا أحب إلي من جميع ما أفاء الله علينا. وكتب عمر إلى أبي موسى: سلام عليك أما بعد فإن فلانا أخبرني بكذا وكذا فإن كنت فعلت ذاك في ملأ من الناس فعزمت عليك لما قعدت له في ملأ من الناس حتى يقتص منك، وإن كنت فعلت في خلاء من الناس فاقعد له في خلاء من الناس حتى يقتص منك. فقدم الرجل، فقال له الناس: اعف عنه. فقال لا والله، لا أدعه لأحد من الناس. فلما قعد أبو موسى ليقتص منه رفع الرجل رأسه إلى السماء ثم قال اللهم إني قد عفوت عنه" (أخبار عمر للطنطاوي، ص 142-143).
(7)
من الوسائل التي قدمتها الثورة، أسلوب المظاهرة احتجاجا على الحاكم. وهذا المفهوم ليس جديدا في المنطقة العربية ولكن الجديد فيه إجماع الشعب عليه وفعاليته حيث استطاع أن يسقط حاكم تونس فيهرب في ليل، وهو في طريقه لإسقاط حاكم مصر إن شاء الله. وهذا الأسلوب يستنسخ الآن في الأردن وفي اليمن والجزائر وربما سوريا وغيرها. وهذا الأسلوب أثار جدلا واسعا، فمن العلماء من يبيحه ومنهم من يمنعه ومنهم من يرى أنه خروج على الحاكم ومنهم من يرى أنه ليس كذلك.
تحدثت مع أحد الأصدقاء ممن لا يؤيد هذا الأسلوب ويجادل في مشروعية المظاهرات لمن حرم حقوقه وضاق ذرعا بمن ظلمه:وقلت له هل يمكن أن تدلني على أسلوب بديل؟ إن هؤلاء الذين تظاهروا في مصر وتونس والبلدان المماثلة سلكوا كل سبيل لإيصال صوتهم إلى السلطة وطالبوا برفع الظلم عنهم وهم بدأوا بالاسترحام والشفاعات والحديث مع رموز النظام والتقاضي إلى الأنظمة العدلية التي وضعها النظام نفسه ولم يجدوا صدى لذلك كله فلا حقوقهم بلغتهم ولا الظالم كف عن ظلمه فما تريدهم أن يفعلوا بعد ذلك.
إن المظلوم الذي حرم حق العيش الكريم وأجبر على أن يتسول لقمة عيشه، والمظلوم الذي صادر النظام حريته، والمظلوم الذي منع من ممارسة عبادته بحرية وفرضت على مجتمعه صور من المنكر.. إن هؤلاء وغيرهم لصبرهم حدود فإذا بلغ الصبر منتهاه وطفح الكيل فلا تسل عما سوف يعملون ولا تطالبهم بما تطالب به الآمن في سربه المصونة كرامته الموفور طعامه من تصرف يحكمه العقل ورجوع إلى ذوي الحجا يسترشد برأيهم.
إن العقل يعمل بفعالية عالية في البيئة العاقلة، فالعقل كي يحكم الموقف لابد أن يكون القاسم المشترك بين الطرفين السلطة والشعب أما إذا أصمت السلطة أذنها فلا نتوقع أن يتصرف المعترضون بعقل في بيئة يسودها التهميش والخوف وانتهاك الحقوق وإنما نتوقع أن يتصرفوا وفق منطق الغريزة حيث يكون الدافع حماية الذات وهزيمة الخصم.
ومما يطرحه البعض إنه ينبغي لهؤلاء المظلومين أن يرجعوا إلى العلماء الربانيين ويستفتوهم في أمرهم وغاب عن هؤلاء أن العلماء الربانيين همشوا وامتهنت السلطات ما بقي لهم من هيبة في صدور الناس بل سلطت عليهم من سفلة الكتاب من يسخر منهم وينبزهم برديء الألقاب وسيء الصفات. وبسبب إغراء السلطة وقمعها انقسم العلماء إلى قسمين: قسم شارك الظلمة في ظلمهم فلم يعد جديرا بثقة الناس وقسم أنكر فهمش ولم يعد له تأثير في رد مظلمة عن مستجير أو جلب منفعة لمستغيث، والعامة يئسوا من الإنصاف.
أثناء ما سمي بجمعة الرحيل في ثورة مصر، استمعت لخطبة بثها التلفزيون المصري ونقلتها بعض الفضائيات، وإذا هي لرجل مشهور من المحسوبين على الأزهر وفي الخطبة حمل على من يتسببون في الفوضى ويخلون بالأمن ودعا الشباب إلى الهدوء فقلت في نفسي ترى من يستمع إلى هذا؟ بل هل يظن أنه بهذا الخطاب يقنع أحدا. ربما الوحيد الذي يستمع إليه هو من أمره بالخطبة، وربما كان الخطيب يسعى بهذه الخطبة إلى كسب رضا من أمره بها.
أما الشعب ومن يفترض أن الخطاب موجه إليهم فهم غير معنيين به. وكان الناس وقتها يسعون إلى ميدان التحرير زرافات.. زرافات حتى جاز عددهم المليون.
تصور المظاهرات تصورا صحيحا مما يعين في الحكم على هذه الوسيلة، وقبل ذلك لابد من التنبيه بأن من أفتى فيها بالمنع إنما يفتي للبيئة التي تصورها وللمجتمع الذي يعرفه، وإلا فمن المجتمعات ما لا يحتاج إلى فتوى الفقيه في المظاهرات لأن حق التظاهر مكفول لكل مواطن ولا يترتب عليه فتنة بأي حال.
المظاهرات أحد الأساليب السلمية المدنية التي يستخدمها الشعب في التعبير عن رأيه، والأساليب المدنية متعددة منها:
المظاهرة وهي للتعبير عن رأي مخالف أو المطالبة بحق حيث يجتمع المعنيون في مكان أو يقومون بمسيرة وربما هتفوا بهتافات تعبر عن رأيهم، وتطالب بحقهم وتنتهي المسيرة بإعلان مطالب من خلال خطب أو خطاب مكتوب يقدم لصاحب الصلاحية أو بيان للإعلام.
الاعتصام، وهو شبيه بالمظاهرة والفرق بينهما أن المعتصمين يقيمون في مكان واحد لا يبرحونه حتى تتحقق مطالبهم أو يتفاوض معهم صاحب الصلاحية، وهو ربما كان الحكومة أو مؤسسة من مؤسسات القطاع الخاص.
الإضراب وهو الامتناع عن العمل بحيث تتعطل مصالح صاحب الصلاحية فيخسر إذا كان مؤسسة من مؤسسات القطاع الخاص أو تتعطل مصالح الجمهور فيضغطون على صاحب الصلاحية فيتفاوض مع المضربين في إزالة مظلمتهم. ومن الأمثلة إضراب بعض موظفي خطوط الطيران أو السكك الحديدية لرفع أجورهم.
العصيان المدني، وهذا هو عصيان شامل في البلد فلا يذهب الموظفون إلى أعمالهم فتصاب البلد بشلل تام ينتهي بإسقاط الحكومة والاستجابة لمطالب المحتجين.
وفي ميدان التحرير في مصر نشاهد المظاهرة والاعتصام معا حيث نلاحظ فئة من الناس معتصمة في ميدان التحرير لا تبرحه خشية من إغلاقه ومنع المتظاهرين من التجمهر فيه مرة أخرى.
هذه الوسائل وغيرها من وسائل الاحتجاج المدني السلمية كتوقيع الخطابات الجماعية ثم إعلانها للجمهور أو تقديمها لصاحب الصلاحية إبداء لوجهة نظر أو مطالبة بحق، وكذلك الاحتساب العام على بعض الجهات بتقديم استدعاء ضدها إلى القضاء، كل هذه من الوسائل السلمية التي يحتاجها المجتمع لإزالة الاحتقانات منه ولإحلال السلام فيه. وثبت أن المجتمعات التي تتميز بوسائل سليمة للتعبير عن الرأي أكثر استقرارا وحكوماتها أطول عمرا من المجتمعات التي تمنع ذلك.
تونس مثلا منع فيها ابن علي كل وسيلة تعبير مخالفة لسياسته فكان أسرع من غيره سقوطا وجاءه عاصف لم يكن له به من طاقة فلم يكن أمامه إلا الهرب خفية.
إن بقاء النوافذ مفتوحة للتعبير السلمي عن الرأي المخالف وعن مطالب من لحقته مظلمة من الشعب يجعل المعارضة التي لا يكاد يخلو منها مجتمع سلمية، أما حين تغلق جميع المنافذ فهذا يساهم في عسكرة المعارضة ويفتح باب العنف.
وربما يقول البعض إننا شهدنا العنف يضرب في كل المجتمعات: تلك التي سمحت بالتعبير السلمي والتي منعته، وهذا صحيح، ولكن هذا العنف ليس حالة عامة، فهو ليس خيارا للشعب وإنما هو خيار لفئة محددة معزولة، أما لو كان خيارا للشعب فما لأحد به من طاقة. والتحدي الذي يواجه الحكومة – أي حكومة – هو إبقاء ظاهرة العنف ظاهرة معزولة ومنعها من التمدد في المجتمع، لأنها تستمد وقودها منه، فإذا عزلت عنه خمدت أو ماتت.
لما صدر الخطاب الذي ينظم الفتوى لمست منه تجريم الاحتساب العام والتوقيع الجماعي للمطالبة بحق أو التعبير عن رأي فعجبت من ذلك لأن التعبير الكتابي والاحتساب هما من أضعف صور التعبير المدني وإذا فقدها المجتمع فهو في أزمة ويخنق نفسه بنفسه، والآراء المخالفة لا تزول بمنع أصحابها من التعبير عنها وإنما تزول بالحوار. والحاكم بحاجة إلى أن يسمع رأي شعبه ويستطلع الآراء المخالفة فربما كان فيها شيء من الحق، ثم هو يطمئن النفوس ويدفع الشر عن المجتمع ويصحح التصورات الخاطئة عند المعترضين إن كان ثمة خطأ.
(8)
من المفاهيم المهمة التي قدمتها ثورة مصر وتونس، أن الجيش لحماية الشعب وليس النظام أو الحاكم، وهذا غير معهود في العالم العربي. فهذه ثقافة جديدة للمواطن ولأفراد القوات المسلحة ولعلها من أهم ما نتج عن هذه الثورة. وأرجو أن يكون ذلك من أهم سمات المرحلة التاريخية المقبلة: الجيش من الشعب ولحماية الشعب وليس لحماية شخص.
ربما كانت الثقافة السائدة في كثير من جيوش المجتمعات التي سيطرت عليها أنظمة دكتاتورية مستبدة هي أن الجيش في مقابل الشعب، ولهذا لا يتورع الجيش من البطش بالمعارضين مهما كانت معارضتهم سلمية. ولعل من الأمثلة الشهيرة في ذلك ما حصل في ميدان تيان من في الصين عام 1989م، حيث اقتحم الجيش الميدان على المعتصمين وحدث بسبب ذلك مجزرة يقدر عدد قتلاها بين 2000 إلى 3000 قتيل. وقبل ذلك ما يعرف بيوم الجمعة الأسود في إيران، حيث فتحت الطائرات نيرانها على المحتشدين في طهران في عام 1978م، فحصدت 4500 قتيلا.
إن مما ساعد في اتخاذ الجيشين المصري والتونسي موقف الحامي للشعب ورفضهما إطلاق النار على المتظاهرين أن المظاهرات في كلتا البلدين تونس ومصر كانت سلمية، فقد تجنب القائمون بها تخريب الممتلكات العامة والخاصة وتجنبوا حمل السلاح، وأحبطوا أي محاولة لاستخدام العنف ممن يندس بينهم فبطلت حجة من يريد الصدام بين الجيش والشعب.
(9)
قيمة هذه الثورة التي نتحدث عن أصدائها أو نفحاتها الثقافية أنها كانت في مصر، ومصر دولة ليست كغيرها فهي إذا صلح من يسوسها أثرت في من حولها وتبعها سواها وإذا فسد من يحكمها أفسدت سواها وسوقت ما عندها إلى غيرها. وشواهد هذا من التاريخ القديم والمعاصر مدونة معلومة.
وقد كتبت مقالا عنوانه "هموم قلب في لحظة أمل"، وذكرت فيه شيئا من ريادة مصر في الخير وأنقل منه: "إن مصر وإن تآمر عليها ظالم مستبد وعاث فيها طاغية أحمق، إلا أن فيها شعبا أبيا طالما كان سورا لبلاد الإسلام يرد عنها عدوان المعتدين. مصر هي التي كسرت التتار بعد أن اجتاحوا العالم الإسلامي في معركة عين جالوت عام 658 ه تحت قيادة المظفر قطز رحمه الله فرجع التتار مدحورين خائبين خائفين.
ومصر هي التي ردت المغول بعد أن اجتاحوا العالم الإسلامي عام 702ه بقيادة قازان، وكان السلطان قلاوون رحمه الله هو صاحب هذه المأثرة. وفي أواخر القرن الثامن الهجري كان لمصر دور في مقاومة تيمورلنك لما اجتاح العالم الإسلامي.
ومصر هي التي انطلقت منها قبل ذلك جحافل النصر التي هزمت الصليبيين بقيادة صلاح الدين رحمه الله في معركة حطين وتحرر بذلك المسجد الأقصى. ومصر هي التي ردت الحملة الصليبية السابعة التي قادها لويس التاسع عام 648 وسجنته في المنصورة في دار ابن لقمان.
وإننا نأمل أن هذا التاريخ المضيء يعود فتعود لمصر عظمتها بعد أن قزمها الأقزام، وما ذلك على الله بعزيز".
وأما قيادتها في الشر لما فسد من يحكمها، فيكفيك أنها في عهد جمال عبدالناصر أفسدت العالم العربي ولوثته في الفكر والسياسة والفن والأخلاق، فالاشتراكية والقومية العربية أصبحتا شعارا في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه لما تبناهما النظام الناصري. وفي عهد السادات وقع الرئيس المصري معاهدة سلام مع إسرائيل فتبعته الدول العربية، وفي عهد مبارك رغم تراجع مكانتها الإقليمية إلا أنه لما طبع العلاقات وتعهد بحماية إسرائيل وأغلق غزة على سكانها وحاربهم محاربة من لا يغفل ولا ينام، تبعته الدول العربية في ذلك وما استطاع أحد منهم أن يشذ عن موقفه أو يأتي بما يخالفه.
فمصر إذن رائدة، وما يحدث فيها من تغير لا يقف عندها بل يمتد إلى سواها. وهذه الثورة يتوقع أن تطبع المرحلة المقبلة بطابع خاص وتؤثر في المنطقة.
(10)
الثورة في مصر لها أهمية خاصة فمصر دولة مؤثرة في المنطقة كما أسلفت وهي من ناحية معقل العلمانية في العالم العربي وقيمة الثورة أنها تريد إعادة السلطة إلى الشعب والشعب ليست العلمانية خياره بل هو مسلم لا يرضى بغير الإسلام بديلا. وانظر إليه لما سقط حاجز الخوف كيف عبر عن نفسه في ساحات الثورة وميادينها، لقد كان عابدا يصلي لله عز وجل ويعلن علو كلمته.
العلمانية في مصر متمكنة في النظام السياسي ومؤسسات المجتمع المدني وفي قطاع المثقفين بما لا يكاد يوجد في بلد عربي آخر.
الدولة الحديثة في مصر بدأت مع محمد علي قبل أكثر من مائتي سنة (1805م) وقامت على أسس أكثرها علمانية وكان الذي يرعى الدولة الوليدة فرنسا ثم بريطانيا فيما بعد. ومع محمد علي بدأ يتشكل مجتمع نخبة جديد أو مجتمع الأفندية في حاضنة علمانية من خلال البعثات إلى فرنسا. وهذا المجتمع هو الذي تولى إدارة البلاد فيما بعد. فالعلمانية كانت جهدا متراكما خلال مائتي سنة، وحسبك بهذا تغييرا للمجتمع وفي الفئات المتنفذة فيه.
ومما ساعد في ترسيخ العلمانية وأعرافها عدد من الأعمال والمؤسسات منها أن الكتب التي أسست للعلمانية في أوربا ترجم كثير منها إلى العربية في مصر ككتاب أصل الأنواع لداروين الذي ترجمه إسماعيل مظهر عام 1918م. وأشهر المجلات التي دعت إلى التغريب والعلمانية كانت تصدر في مصر كالأهرام التي أنشأها سليم تقلا وبشارة تقلا عام 1876م والهلال التي أنشأها جرجي زيدان عام 1310ه="1892م،" ومنها دار الأوبرا التي افتتحها الخديوي إسماعيل عام 1869م. ومنها أن التشريعات الوضعية وإلغاء المحاكم الإسلامية بدأ في العالم العربي من مصر، وكان عبدالرزاق السنهوري هو واضع عدد من الدساتير والنظم العربية.
ومما يذكر لمصر أنها أسست أول مطبعة عرفها العالم العربي، وهي ما عرفت بمطبعة بولاق أو المطبعة الأميرية والذي أنشاها هو محمد علي عام 1235ه ="1820م." وقد نشرت ذخائر من التراث الإسلامي كما نشرت غيرها مما ترجم عن أوربا، وذكرها هنا دليل آخر على ريادة مصر في الخير والشر.
إن غلبة العلمانية سواء في العهد الملكي (محمد علي وأبناؤه) أو في العهد الجمهوري جعل الوجه الحقيقي لمصر يخفى على البعض، فمصر الأزهر ومصر العلماء ومصر الإسلام غيبت وقدم بدلا من ذلك صور تحمل نفس الرسوم ولكنها تفتقر إلى الحقائق.
ومصر يحكمها العسكر منذ عام 1952 أي منذ ستين سنة، وهو حكم مستبد أفقرها ومسخ هويتها وتعدى على كرامة شعبها وسقوط هذا النظام المشوه هو سقوط لكل الصور الزائفة وعودة لحقيقة مصر: مصر الإسلام والعربية والأزهر.
ولمكانة مصر من العالم الإسلامي في الخير والشر انشغل العالم الغربي بثورة أهلها ذلك أن نجاحها هو ضياع لمصالحه وفشل لمشروعه ليس في مصر وحدها بل في المنطقة العربية برمتها.
(11)
تونس هي رائدة مشروع تجفيف المنابع الإسلامية، ولهذا حاربت المسجد وقراءة القرآن والتعليم الإسلامي الأولي في التعليم العام وحاربت شعائر الإسلام ومظاهره كالحجاب واللحية، وأصبحت تنظر لذلك وتصدر تجربتها إلى سواها فلحق من الشعوب العربية التي اقتدت بها حكوماتها رهق عظيم واستنكروا ماعرفوا من الحق وتأزمت العلاقة بينهم وبين من يحكمهم.
وأصبحت دول الغرب تقدم تونس أنموذجا يقتدى لمحاربة ما سموه بالإرهاب، وما هو والله بالإرهاب ولكنه الإسلام وإلا فهل من محاربة الإرهاب منع الناس من الصلاة في المسجد أو منع المرأة من ارتداء حجابها أو التضييق على دراسة العلم الشرعي، أو منع مظاهر التعبد من أن تبث من التلفاز.
إن سقوط الأنموذج التونسي هو سقوط لمشروع استعباد الشعب ومسخ هويته والتعدي على كرامته. وصدق الله، حيث قال: "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون"، قال ابن كثير: "( وَاَللَّه غَالِب عَلَى أَمْره)، أي إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَلَا يُرَدّ وَلَا يُمَانَع وَلَا يُخَالَف بَلْ هُوَ الْغَالِب لِمَا سِوَاهُ". والنظام التونسي حارب دين الله فمكر الله به وأتاه من حيث لم يحتسب فلم تخرج الثورة عليه من المساجد ولا من حلقات علماء الشريعة ولا من التنظيمات الإسلامية وإنما من مقاهي الانترنت ومواقع الفيس بوك والتويتر وأمثالهما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.