لعمرك ما للناس في الموت حيلة ولا لقضاء الله في الخلق مدفع كثير من بني البشر ممن لهم دور إيجابي في الحياة سواء علميا وأدبيا، أو ماديا يستفيد منهم مجتمعهم فيما يقدمونه من أعمال إنسانية وصلة لإرحامهم، أو نشاطات تجارية تنفع الجميع، فإن ذكرهم يبقى طريا على تعاقب الأيام والليالي، بل ويعتبر العلماء بمنزلة المدرسة في إضاءة الصدور من معينهم العلمي الصافي، فهم قدوة حسنة لمعاصريهم ولاحقيهم من الأمم المتتابعة لما يفيضونه عليهم من علوم نافعة وتوجيهات سديدة، فمن أولئك العلماء الأجلاء شيخنا الفاضل عبدالرحمن بن محمد بن ناصر المبارك - رفيق درب والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف رحمهما الله - الذي ولد في حريملاء عام 1318ه ونشأ في كنف والده الشيخ العالم الجليل محمد بن ناصر المبارك رائد الحركة العلمية في حريملاء -آنذاك - المتوفى عام 1333ه تقريبا الذي تخرج على يديه عدد كبير من العلماء والقضاة والمرشدين في زمن يفتقر إلى العلماء والقضاة، وكان مسجده كخلية نحل من طلاب العلم الذين يفدون إلى حريملاء من البلدان المجاورة ومن سدير والزلفي والقصيم، وحتى من بعض بلاد فارس، وقد وجه جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -نخبة منهم إلى عدد من المدن والبلدان للقضاء ونشر العلم في أوساط البلاد وأطرافها، بل وأمد بلدان الخليج ببعض القضاة، وعمر الشيخ عبدالرحمن حينئذ ثلاثة عشرعاما، وقد حفظ القرآن الكريم على يديه قبل وفاته -يرحمهما الله -وقد تأثر به في علمه وحبه للقراءة وإجالة النظر في بطون الكتب، وحفظ بعض المتون مثل ثلاثة الأصول، وجزءا من كتاب التوحيد، ومتن العقيدة الواسطية ومبادئ في العربية -متن الأجرومية -رغم صغر سنه، وبعد وفاة والده الشيخ محمد رغب في التزود من فيض العلوم فرحل إلى مدينة الرياض ودرس على علمائها ومن أبرزهم الشيخ عبدالله بن عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، الشيخ محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ، والشيخ حمد بن فارس في العربية والنحو وغيرهم -حمهم الله جميعا -، وبعد ذلك تم اختياره من قبل الملك عبدالعزيز ليذهب مع شويش بن ضويحي المعرقب مدير جيش الحكومة ليكون كاتبا وإماما ومرشدا، ثم بعد ذلك اختير ليذهب إلى هجرة عرجاء ليكون قاضيا وإماما لهم، وبعد ذلك تم تعيينه من قبل الملك عبدالعزيز أميرا لحريملاء مسقط رأسه وموطنه الأصلي، ثم عين في عرجاء مرة أخرى بناء على إلحاح من الأهالي ومكث فيها إلى أن تم تعيينه أميرا وقاضيا للدرعية عام 1361ه، ومكث فيها قرابة عشر سنين حتى طلب الإقالة من الملك سعود -رحمه الله -وأثناء مكثه في الدرعية جلس للتعليم ونشر العلم، وقد قرأ عليه عدد من الطلبة من أشهرهم عبدالرحمن بن محمد الحصان، وسليمان بن عبدالله الطويل، وحمود الحمود، وعلي بن عبدالعزيز العليان، وعبدالله بن علي المقحم، وناصر بن عبدالله بن دخيل وأخيه فهد -رحم الله الجميع -والشيخ عبدالعزيز بن عبدالله السالم وغيرهم، ثم اختير من قبل الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ ليعمل في رئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مديرا للشئون الدينية بها ومكث بها إلى أن بلغ سن التقاعد، وقد توفي صباح يوم الأربعاء الموافق 15-6-1400ه، وقد كان طول حياته محبا للخير آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم -رحمه الله رحمة واسعة- وله من الأبناء ابن واحد هو الشيخ عبدالعزيز وعدد من البنات، وكان -رحمه الله- من خواص وأصفياء والدنا العالم الزاهد الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف، وقد ظلا أكثر من أربعة عقود من الزمن متاحبين ومتآلفين قلّ أن يفترقا سوى فترة من الزمن تخللها عملهما في السلك القضائي في بعض المواقع، حيث إن الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه - قد عين والدنا قاضيا في (قرية العليا) الواقعة في الجانب الشمالي الشرقي من المملكة عام 1347ه ثم نقله إلى (سنام) بمنطقة القويعية، وبعد ذلك طلب الإعفاء من الملك عبدالعزيز لظروفه العائلية فأعفاه بعد إلحاح وإقناع، أما الشيخ عبدالرحمن بن محمد المبارك فقد عينه قاضيا وإماما في هجرة (عرجاء) كما أسلفنا آنفا، واستمر بها وقتا من الزمن معززا ومكرما لدى أهلها لما يتمتع به من هيبة وسماحة خلق، فهو يرى والدنا مرجعا له ولبعض قضاة حريملاء وطلاب العلم بها وماجاورها من البلدان -آنذاك- لغزارة علمه وسعة أفقه، وطول باعه في المسائل الفقهية والعقيدة السمحة وعلوم الحديث بل وإلمامه بجميع العلوم عموما لغة وشرعا، ولقد استفاد الشخ (أبو عبدالعزيز) منه فوائد جمة لطول ملازمته له وإنصاته لما يتفوه به من حكم وأمثال، وسماعه له أثناء قراءته في بعض كتب المطولات والسير بالمسجد قبل صلاة العشاء من كل ليلة، والتعليق على بعض الموضوعات وإيضاحها للعامة والخاصة، المسترشدين، حيث إن المسجد يحفل بحضور كثيف من أصحاب الفلاحة وسائر العمال يأتون من نواحٍ عدة من أطراف البلاد للاستفاده وللمعرفة بأمور دينهم والاستئناس بسماع قصص الأوائل وماجرى بينهم في تلك العصور والحقب البعيدة، رغم متاعبهم الجسمانية في حقولهم ومزارعهم، وظل التواصل بينهما إلى أن فرقتهما الأيام والليالي، ولنا مع الشيخ (أبو عبدالعزيز) ذكريات جميلة راسخة ومقيمة في طوايا النفس مدى الأيام، وكنت أنا ونجله الشيخ عبدالعزيز في صغرنا نصحبهما -أي والدينا - إذا دعيا إلى القهوة ليلا أو لتناول الريوق وفك الريق -أي الفطور حاليا- بعد طلوع الشمس ونسعد بشرب الحليب والزنجبيل، أما الشاي فلم يتوفر في تلك العصور، بل إنه يندر، أو أكل ما تيسر من الأطعمة الشعبية في ذلك الزمن المتباعد، وقد يحصل علينا بعض الملاحظات والتوجيهات الأبوية للالتزام بالأدب إذا لاحظا علينا بعض التصرفات والحركات ورفع الصوت والقهقهة التي قد تخرج منا بأدنى سبب شأننا في ذلك شأن الأطفال، وقد تحمر العين علينا للكف عن الضحك فنتوقف مؤقتا أو نستمر فيه غير قادرين على كبحه ثم نضطر إلى مغادرة المجلس لإفراغ شحنات الضحك فيكون ذلك سببا في حرماننا من تناول ما تيسر من شراب أو طعام، وقد استفدنا من بعض الأحاديث، والقصص التي تجري بينهما في المجالس، وفي المسجد ولم نعِ معانيها وأهدافها، وظلت أصداء أصواتهما لاصقة في جدار الذاكرة حتى كبرنا فأدركنا بعضا منها، منها على سبيل المثال أن الشيخ -أبا عبدالعزيز- قد سأل شخصا عن شي مّا فقال لاطال عمرك فنهره قائلا: اسكت سكتة لطيفة ثم قل لا طال عمرك أو لا وأطال الله عمرك، وذلك يدل على رهافة حس الشيخ وإدراكه للأساليب البلاغية بفطرته قبل رؤيته مصنفات كتب البلاغة، وفي مجال آخر انتقد أحد الشباب في تسرعه وتعجله وعدم تدبره فيما أقدم عليه مجانبا الصواب، فما كان من الشيخ -يرحمه الله- الا أن هز رأسه متمثلا بقول الشاعر أبي يعقوب الخريمي: إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا إن الشباب لهم في الأمر معجلة وللشيوخ أناة تدفع الزللا وهذه العجالة القصيرة نبذة عن حياته وسيرته العطرة، فالذكريات الجميلة مع شيخنا الشيخ (أبو عبدالعزيز) يطول مداها، غفرالله له وأسكنه فسيح جناته. - حريملاء