أن يجمع العالم في واحد الله سبحانه وتعالى يهب البعض من عباده مواهب جمة، و قدرات على مزاولة الكثير من الأعمال الجليلة والفنون العلمية والأدبية, بل وبطول الباع في مجالات الشعر بنوعيه الفصيح والعامي جزل الألفاظ والمعاني في الأدب الجم الرفيع, وبالأساليب البلاغية وفنونها, رغم عدم وجود مدارس ومناهج نظامية في ذاك الحين من الدهر. وإنما هي الفطرة والاستعداد الفكري, وتسريح النظر في بطون الكتب النافعة، وكثرة الأسفار داخل البلاد وخارجها, فإن ذلك يكسب المرء الواعي ثقافات واسعة. سح في البلاد إذا أردت تعلما إن السياحة في البلاد تفيد لما يحصل من اختلاط ببعض أفراد الشعوب المتحضرة أو شبه المتحضرة -آنذاك- ففيه تلاقح للأفكار, وتبادل للمعلومات الثقافية والأدبية، قال عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- محبباً محادثة ذوي العقول والآداب: إن في المحادثة تلقيحاً للعقل, وترويحاً للقلب, وتسريحاً للهم, وتنقيحاً للأدب: انتهى, وقد صدق, وما أصدق ما قيل: وما بقيت من اللذات إلا محادثة الرجال ذوي العقول فكل هذه الصفات -آنفة الذكر- مجتمعة قد أكسبت الشيخ الأديب فيصل بن محمد المبارك حنكة وثقافة علمية وأدبية بعد ما كبر وجال في مناكب الأرض داخل البلاد وخارجها مثل مصر وبعض بلدان الخليج مثل إمارة الشارقة التي كان والده الشيخ محمد قاضياً بها, وكان من المقربين لدى حاكم الشارقة الشيخ صقر القاسمي, فلقد ولد -رحمه الله- في حريملاء عام 1319 وتوفي عام 1399م. وترعرع في بيت وعلم وأدب منذ فجر حياته، فحفظ القرآن الكريم كاملاً ومجوداً في إحدى الكتاب بحريملاء. وقرأ على علماء بلده وعلى والده العلامة الشيخ محمد بن فيصل مبادئ العلوم, ثم انتقل إلى الرياض فقرأ على علمائها ولازمهم, ومنهم الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن عبداللطيف, والشيخ حمد بن فارس, وقد نبغ في فنون عدة. أما مزاولته للأعمال والوظائف, فأول ما قام به في عام 1337م جولة مع عمه الأمير عبدالله بن ناصر المبارك في جباية الزكاة من الأحساء وما حولها..، ثم عينه الملك عبدالعزيز -رحمه الله- إماماً ومرشداً في بلدة (قرية الجنوبية) في المنطقة الشرقية, ثم عمل مساعداً لوالده في الشارقة عندما كان قاضياً هناك, وكان يتردد على الحجاز حتى استقر عام 1350ه حيث قرأ على علماء المسجد الحرام, ودرس وأرشد فيه، ثم عين في مدرسة الفلاح بجدة مدرساً لمادتي التوحيد والفقه. وفي عام 1357ه عين رئيساً لهيئة الحسبة في جدة إلى جانب تدريسه في مدرسة الفلاح, وكان يدرس في جامع عكاشة ويرشد فيه, ومشرفاً إدارياً على إمارات المنطقة الجنوبية كما عين عضواً بمجلس الشورى من عام 1372- 1374، ومن عام 1379 - 1388م، وكان قوي العارضة صائب الرأي مسموع الكلمة طيلة عمله بمجلس الشورى -آنذاك- وقد تخرج على يديه الكثير من الطلاب بينهم ثمانية وزراء للحج، والأوقاف، والتجارة، وقضاة، وأساتذة. وكان -رحمه الله- واسع الاطلاع في فنون عدة، فهو أديب بارع وشاعر مجيد، ويحسن بنا إيراد بعض الأبيات التي قالها في رثاء أخيه فضيلة الشيخ سعد بن محمد منها: بكيت أخي سعداً ولا مثله سعد ولا مثله ابن وليس له ند ستبكيه من بعد الممات محاكم صحائف عدل فصلها الجد والرشد أيا ربنا رفقا فضيفك مؤمن مقيم على التوحيد قد ضمه اللحد فلما طال مكثه في المنطقة الغربية بمدينة جدة استبد به الحنين إلى زيارة مهوى رأسه بحريملاء عام 1382ه للاستجمام والراحة: المرء يسرح في الآفاق مضطربا ونفسه أبدا تهفو إلى الوطن وللاستئناس بوجهاء وعلماء حريملاء، بل وبالضعفاء منهم فهو جم التواضع وافي العقل, لأن التواضع كله بركة ورفعة، ولأجل أن يرى من بقي من لداته وأقرانه, وليمتع ناظريه في أماكن مرحه في مدارج صباه مع نظرائه، والسير في أزقة أحياء ومحلات أجداده وآبائه. (حي الأمراء بالوسيطاء) -كما هو معلوم-. ولك أن تتصور ما يجول بخاطره من لوعات الحزن وهو يوزع نظراته بين هاتيك الدور والمساكن التي هجرها أهله وأسرته، فأمست خالية.. ولسان حاله يردد هذين البيتين: إذا زرت أرضا بعد طول اجتنابها فقدت صديقي والبلاد كما هيا فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معا كفى بالممات فرقة وتنائيا فاستقر في حريملاء شهورا وفتح باب منزله وعريش مزرعته ونخله المسمى (العضيبية) وذلك في مواسم جذاذ النخيل وجني ثمار الخوخ والعنب والرمان..، فهو سخي يجود بإهداء الرطب والرمان والأترج في وقته، فكله لطف وكرم يزور ويزار: ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر حبيبا ولم يطرق إليك حبيب وكان يزور بين وقت وآخر والدنا العالم الزاهد الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف -رحم الله الجميع-, فيتبادلان أطراف الحديث في بعض المسائل الفقهية والأحاديث النبوية وغير ذلك من الجوانب الأدبية. وإن أنسى شيئاً لا أنسى فرحة ابني الأكبر محمد الذي لم يتجاوز عمره الخامسة بهدية الشيخ فيصل الثمينة التي هي عبارة عن (بجلي صغير الحجم) أي كشاف يستضاء به، ولقد فرح به كل الفرح، وما زال محتفظا به إلى الآن رغم تقادم العهد الذي يقارب خمسين عاماً. كما لا يفوته -رحمه الله- حضور النادي الثقافي لطلبة معهد المعلمين والمدرسة الابتدائية الذي نقيمه في أواخر كل أسبوع في غالب الأيام, فينفح الطلبة بتوجيهاته الأبوية قائلا لهم: أنتم شباب اليوم وغداً رجال المستقبل, فعليكم التحلي بالأخلاق الفاضلة والجد في التحصيل العلمي والأدبي: فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا فذكرياتنا مع -أبي عبد الله- الحبيب إلى قلوبنا باقية في طوايا النفس مدى الأيام، وعندما هم بالسفر إلى مقره الدائم في جدة دعا مجموعة من أحبابه إلى منزله فأكرمهم وشكرهم على الحفاوة التامة به أثناء وجوده بينهم في حريملاء, وكانت تلك الجلسة لها بالغ الأثر في نفوس الجميع وبهذه المناسبة المباركة لا يفوتنا إلا أن نهنئ ونبارك لنجله الأكبر الدكتور عبدالعزيز بن فيصل على تشييد مسجد كبير مع بناء عمارتين للإمام والمؤذن بالحي الجديد في حريملاء على نفقته الخاصة باسم والده الشيخ فيصل، وذلك ضرب من الوفاء والبر به الذي تم افتتاحه في غرة شهر رمضان المبارك 1432ه فجزاه الله خيرا. وهذه الكلمة الوجيزة مقتضبة عن بعض سيرة الشيخ وتعتبر من سوانح الذكريات معه تغمده الله بواسع رحمته. حريملاء فاكس 015260802