إذا كان المشرِّع الوضعي الغربي لم يضع حماية للمستهلك في قوانينه الوضعية إلا بعد عام 1954م، فإن صياغة حقوق المستهلك في الإسلام تمت في عصر تكوين الرسالة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. لذا فإن تخلف أكثر النظم الإسلامية المعاصرة في مجال تأصيل حقوق المستهلك وتطبيقات حمايته لا يمثل الاهتمام الحقيقي للفكر الإسلامي. فقد حدد الإسلام الحقوق التي يتمتع بها الفرد في الدولة الإسلامية تحديداً واضحاً، إذ وجد أسسها في القرآن والسنة، ثم تولى الفقهاء بيانها وتحديد نطاقها. فهناك حق الله تعالى، وهناك حق العبد، وقيل: الحق ينقسم إلى حق عام وحق خاص، ومثلوا لما سبق: بحق الإيمان، وحق القذف وحق القصاص، وحق الملكية، وحق الشفعة وحق الخيار. وتبرز من هذه التقسيمات عناية الفكر الإسلامي بحقوق الفرد، ومن ضمنها حقوقه المتعلقة باستهلاكه. خاصة أن الفكر الإسلامي قد أفرد للمستهلك ضمن ما يسميه الفقهاء (حقوق العباد) حقوقاً تتدرج ضمن الحقوق العينية المالية. إن مدلول مصطلح المستهلك يتسع ليطلق على من يحصل على متطلباته الأساسية أو الكمالية لسد حاجاته الشخصية والأسرية، ذلك لأن عملية الاستهلاك تنصب على التناول الإنساني المباشر للسلع والخدمات لإشباع رغبات الإنسان وحاجاته. ولذا، اعتبر الاقتصاديون الاستهلاك الهدف النهائي من النشاط الاقتصادي. إن الاستهلاك في الإسلام ليس مجرد استهداف لإشباع الغرائز وسد الحاجات الإنسانية، إنه عبادة من العبادات وطاعة من الطاعات وقربة من القرب، وهو تعوّد فطري حياتي، وهو وسيلة مؤدية إلى رضا الله سبحانه، بشرط الإخلاص والنية الصالحة وتحري الكسب الحلال واستهلاك الطيبات والتقوي على عبادة الله ثم العمل المثمر لصالح المجتمع المسلم. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. وقد قيل إن النية في الاستهلاك تحوله من عبادة ومطلب غريزي إلى عبادة يثاب عليها الإنسان. إن أهم حقوق المستهلك في الإسلام حقه في الملكية الخاصة الفردية، وحريته المنضبطة، وتوفير حد الكفاية له، وحقه في الخيار، وحقه في الضمان، وتوفير نظام رقابة الأسواق، ودفع أسباب الضرر، وحقه في الحصول على معلومات كافية. فالتملك غريزة فطرية للإنسان، وحق للمستهلك من هذا الباب، بيْد أنه ليس حقاً مطلقاً، فالإسلام ينادي بمبدأ الإباحة للتملك، ويضع من القيود والحدود ما يضمن قيام الملكية من دون ظلم أو استغلال أو إضرار بالآخرين، فهي مقيدة بالطيبات والمباحات. والحرية الاستهلاكية حق للمستهلك بشرط أن تكون منضبطة، بالتزام الضوابط الشرعية في كسب المال واتفاقه، فحرية التعامل في الإسلام مقيدة، فلا يصح العقود إلا إذا خضعت للشروط المعتبرة شرعاً. وتوفير حق الكفاية حق للمستهلك، بحيث تصان هيئته باللباس والزينة، وأن يكون له سكن مناسب، ووسيلة مواصلات جيدة، وأن ينال من طيبات المطعم والمشرب، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}. وللمستهلك في عمليات البيع والشراء حق الخيار بأنواعه المختلفة: خيار الشرط، وخيار التعيين، وخيار الرؤية، وخيار العيب، وخيار المجلس، وخيار الغبن، وخيار التدليس، وتفصيلات هذه الأنواع يمكن الاطلاع عليها ضمن بحث معاصر موثق للدكتور: يوسف المرصفي، وبحثه «الخيارات في العقود في الفقه الإسلامي». إن من يسر الإسلام وسماحته إقراره حق الخيار، رفعاً للحرج وتيسيراً على الناس، وتجنباً لما قد يلحق بأحد المتعاقدين من ضرر وحرج في حالة لزوم العقد، وهذا هو سبب وحكمة تشريع الخيار في الإسلام. ومن أجل حفظ حقوق المستهلك وتوفيرها له، فقد أقر الإسلام ضوابط تحمي المستهلك والمشتري من صور التبادل والبيوع والممارسات التسويقية المحرمة، التي تستغله أو تجعله فريسة لعقد ضاع حقه فيه بسبب غبن أو تغرير أو غرر أو تطفيف أو خداع أو مكر أو احتكار من البائع أو المنتج. ومن ثم فقد دعا الإسلام إلى مجموعة من الضوابط والأحكام الضامنة لحقوق المستهلك في عملية البيع والشراء من مثل: تجنب الغش والخداع والبعد عن التغرير والتدليس، ومنع الاحتكار. إن من حق المستهلك أن يعرف أفضل ما يمكن أن يتاح له من معلومات متعلق بما ينفق عليه ماله؛ وذلك حتى يكون في إمكانه تحقيق أمثل درجات الإشباع الاقتصادية والنفسية براحة واطمئنان. ومن أهم الجوانب التي تدخل ضمن توفير المعلومات الكافية لاتخاذ قرار المستهلك بشكل سليم: 1- وضوح أسعار السلعة المعروضة. 2- تاريخ صلاحية السلعة. 3- مكونات السلعة. وقد توصلت دراسة فقهية خاصة بمجال حماية المستهلك في الفقه الإسلامي إلى أنه يجب على كل من يقدم سلعة للمستهلك أن تبين كيفية استعمالها وتاريخ صلاحيتها وإلا كان غشاً محرماً منعه الإسلام. ولأهمية حماية المستهلك في الإسلام، كان على المنتج أن يعلم المستهلك بالبيانات الخاصة بصفات وخصائص السلعة. إن الإسلام نظام كامل للحياة، يشمل النشاطات التي يقوم بها الإنسان، ويتضح شمول الفكر الإسلامي للاقتصاد خاصة بتجاوزه المنافع المادية أو الجانب المادي لحياة الإنسان، إلى الجوانب المعنوية، سواء جاء ذلك في شكل توجيهات خلقية لنمط حياة البشر، أو جاء في شكل خدمات يصل نفعها إلى الإنسان. لذا، فالإسلام لا يرى حرجاً في سعي الفرد المسلم إلى تكثير ما يحصل عليه من منافع في سلوكه الاقتصادي، بحيث لا إسراف ولا تبذير، ولا ضرر ولا ضرار، ولا ترف ومباهاة. وفي سبيل ذلك وفر الإسلام للمستهلك الضمانات الكافية والحقوق الضرورية والتنظيمات المناسبة ليستطيع توفير الحياة الكريمة له ولأسرته ولمجتمعه وأمته، وليتمكن من تحقيق رفاهيته وإشباع حاجاته الأساسية ويلبي رغباته وطموحاته. - المستشار وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية