شاعت في الناس عبارةٌ لا أدري عن صحتها، ولا مستندها وحدود دلالتها، وهي: «القانون لا يحمي المغفلين». ومهما قيل في هذه العبارة، فإن المعلوم بالاستقراء أن الشريعة الإسلامية تحمي المغفلين ما لم يترتب على ذلك جنايةٌ وظلمٌ للآخرين، وما لم يظهر في سلوك الغافلِ أو المتغافل ذريعةُ الاحتيال للخروج من تبعة المسؤولية والتزامات العقود. وحمايةً للمغفلين وحفظاً لحقوقهم شرعت الشريعة الإسلامية ما يعرف في العقود المالية بالخيارات الشرعية؛ كخيار المجلس، أي مجلس العقد، فكل من دخل في عقد معاوضة؛ كبيعٍ، أو إجارة، أو غير ذلك، فالشريعة تُثبت له حقاً مشروعاً لا يستطيع أحدٌ إسقاطه، وهو حق فسخ العقد، ما دام هو وصاحبه - الطرف الآخر في العقد - لم يتفرقا من مجلس العقد؛ لتكون له فرصةٌ للتروي والرجوع عن التزامات العقد، وليس هذا خاصاً بالمغفلين، بل هو عام لكل المتعاقِدِين. ثم تخطو الشريعة خطوة أوسع في حماية حقوق المغفلين، لتمنحهم خيارات أخرى تحفظ لهم حقوقهم وأموالهم، كخيار العيب، وخيار الغبن، وخيار التدليس. فمن اشترى سلعة لا يعلم أنها معيبة، فله حق ردها لصاحبها وأخذ ثمنها، أو أخذ فرق ما بين قيمتها سليمة وقيمتها معيبة، ولو بعد سنين ما دام لا يعلم بوجود العيب، وليس من مسؤوليته شرعاً عند شراء سلعة ما أن يقلبها ليستكشف عيوبها، وتهاونُه في هذا لا يسقط عنه حقه في فسخ البيع، أو أخذ قسطِ ما بين قيمتها سليمة وقيمتها معيبة، وإنما مسؤولية كشف العيب على البائع؛ ولذا قال - عليه الصلاة والسلام - عن المتبايعين: «فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما». أما خيار الغبن فهو حق تمنحه الشريعة لكل من غُبن في ثمن سلعة غبناً فاحشاً، بأن اشتراها بأكثر من قيمتها في السوق بكثير، وليس من مسؤولية المشتري أن يتحقق من قيمتها في السوق قبل أن يشتريها، وإنما على البائع ألا يبالغ في ثمنها مبالغة فاحشة. وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر أن رجلاً ذَكر للنبى - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع فى البيوع ، فقال: «إذا بايعت فقل لا خلابة» - أي لا خديعة -. ومثله خيار التدليس، والتدليس يكون إما بكتمان العيب عن المشتري وإظهار السلعة بما يوهم عدمه، وإما إظهار السلعة بما يزيد في ثمنها، والحيل في هذا الباب أوسع من أن تُحصر، فمن انخدع بصورة من صور التدليس فله حق فسخ العقد كذلك. كما أن نهْي الشريعة عن عقود الغرر والقمار هو نوع من حماية عامة المتعاقدين، وليس المغفلين وحدهم. غير أن ثمة صوراً لا تحمي فيها الشريعة المغفلين، على أنها استثناء للقاعدة وليست ناقضاً لها، ومما يحضرني في هذا تسرّع بعضهم بالإمضاء على وثائق العقود المالية من دون قراءة شروطها (المنصوصة) قراءةً متأنية فاحصةً تشكف له ما له من حقوق، وما عليه من مسؤوليات وشروط، فلا حجة له بعد هذا الإمضاء أن يدعي الغفلة، أو الخديعة، أو الجهل، مع أن الشريعة قد منحته خياراً في فسخ العقد ولو بعد إمضاء وثيقة العقد ما لم يتفرق هو والعاقد الآخر من المجلس؛ لأن إمضاءه دليلُ رضاه بذلك العقد وما تضمنه من شروط، وهو بمثابة الإقرار والعلم، ما لم تكن الشروط من حيث هي كذلك مخالفة للشريعة، فذلك شأن آخر، فتحكم الشريعة بإلغائها لا حماية للمغفلين؛ ولكن لكونها حراماً في نفسها. ولا أدري عن سنة القوانين الوضعية في ذلك، هل هي مقاربة للشريعة في ذلك أم لا؟ الجواب عند أهل القانون. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]