برزت في العصور الإسلامية الوسيطة السيرة، ممثلة لوناً من الأدب الشعبي، مثل سيرة بني هلال، وسيرة عنترة، وسيرة سيف بن ذي يزن، وسيرة الظاهر بيبرس، ويتزامن ظهور السيرة الشعبية في الأدب العربي مع ظهور الشعر الشعبي، الذي تزعمه أبو بكر بن قزمان، فالسيرة لون أدبي أكثر من كونها تاريخا، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم تاريخ موثق، ولا تدخل ضمن هذا اللون الأدبي، الذي استهوى القراء والمستمعين في القرون الاسلامية الوسيطة، وما بعدها، الى العصر الحديث . فسيرة بني هلال تعرف في البلاد العربية وسيرة عنترة كذلك، فهي سيرة تمثل البطولة والشجاعة، وقد سجلت السيرة نشأة عنترة، ومراحل فروسيته الأولى بتوسع يضفيه الأدب على نشأة عنترة، ونلحظ مزج الواقع بالخيال عندما تتحدث السيرة عن عنترة وعبلة، وكيف سخر عنترة حروبه لإظهار شجاعته أمام عبلة، وتتجاوز أحداث السيرة جزيرة العرب الى مصر والهند وبلاد فارس، فيلعب الخيال الأدبي بالقارئ والمستمع كيف شاء، من صنع الأحداث البعيدة عن الواقع، وتمعن السيرة في صنع أشخاص يخدمون البطل، وأولئك لهم الأثر الكبير في بناء سيرة عنترة، فإذا بحثنا عنهم في الواقع أعيانا البحث. والسيرة بناء أدبي مستقل، فاعتمادها على الواقع قريب من اعتماد الالياذة على الواقع في تصويرها للأحداث ، فمهارة هوميروس صنعت لنا شخصية «أخيل» صناعة أدبية، ومهارة كاتب سيرة عنترة أبرزت لنا شخصية أسطورية أساسها الواقع، ولكن الإعجاب الذي يغمر القارئ أو المجتمع إنما هو صناعة أدبية، فالأدب هو الذي حول الفارس الجاهلي الى ما نراه ونسمعه في سيرة عنترة. وعنترة من الناحية التاريخية فارس وشاعر جاهلي، فهو عنترة بن شداد بن معاوية العبسي، وأم عنترة أمه حبشية اسمها زبيبة، ولعنترة إخوة من أمة عبيد، وقد عاش عنترة طفولته وصباه، وأول شبابه عبداً، لأن أباه لم يعترف به إلا بعدما أثبت شجاعته في معركة بين بني عبس وأعدائهم فلما اشتدت المعركة قال له أبوه: كرّ يا عنترة، فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحِلاَبَ والصَّرّ ، فقال : كر وأنت حر، فكر عنترة وهو يقول: كُلُّ امْرِئٍ يَحْمِي حِرَهْ أَسْوَدَهُ وَأَحْمَرَهْ ومن المعروف ان سواد عنترة قد سرى اليه من أمه الحبشية، فهو معدود في أغربة العرب، وهم: عنترة، وخُفاف بن عُمَيرة الشريدي السلمي، وأمه ندبة أمة سوداء وقد نسب اليها، والسليك بن عمير السعدي، وأمه سوداء اسمها سُلَكَة، ونسب اليها، وهؤلاء الثلاثة عرفوا بالشجاعة ، فما ذكره عنترة في شعره من الشجاعة والانتصار على العدو ليس ادعاء وإنما هو حقيقة، لأن الأخبار متواترة عن شجاعته، وقد نقلتها الينا كتب التراث المختلفة، مثل الشعر والشعراء، وطبقات فحول الشعراء، والأغاني، وشروح المعلقات، وغيرها، وما ذكره في معلقته من قوله: يَدْعُون عَنْتَر والرِّمَاحُ كأَنَّهَا أَشْطَانُ بِئرٍ في لَبَانِ الأَدْهَمِ مطابق للواقع ، فعندما تم الصلح بين عبس وذيبان في أعقاب حرب داحس والغبراء ، كان ممن قتلهم عنترة ضمضم المري، ولم يستطع ابناه الأخذ بثأره من عنترة، فأفسد الصلح حصين بن ضمضم، بأن قتل رجلا من عبس، فبطولة عنترة ثابتة تاريخياً، وأما علاقة عنترة بعبلة فثابتة من خلال شعر عنترة، ومن شعره في عبلة قوله: يَا دَارَ عَبْلةَ بالجِوَاءِ تَكلَّمِي وَ عِمِي صَبَاحاً دَارَ عَبْلةَ واسْلَمِي واقتران حياة عنترة بالحرب ثابت تاريخياً ، فبعد أن دلف في الحرية، وعمره فوق العشرين باشر الحرب في أيام داحس والغبراء، التي استمرت أربعين سنة، فعنترة يرى ان الحياة حرب، وأن الرزق الذي يعيش به الانسان ما يكسبه من المغنم، فبنى حياته على الغنيمة، فلما تم الصلح بين عبس وذبيان ، وقد اقترب عنترة من السبعين، فوجئ بحياة جديدة لم يألفها فقل ما في يده. هذه الحياة المقترنة بالحرب من أول الشباب الى وسط الشيخوخة أغرت كاتب السيرة بما سطره في سيرة عنترة. في 4/3/1422ه