الخصخصة كما نعرف هي تنازل السلطة التقليدية (أي الدولة) عن قطاعها العام إلى القطاع الخاص, والليبرالية هي نظرية أن ما يفرزه السوق صالح أما تدخل الدولة فهو طالح وأهم من قال بهذه النظرية ميلتون فريدمان, أما التحرير المالي فهو فتح الحدود أمام حركة رأس المال دخولاً وخروجاً، وهذا هو التكريس لفكرة زحزحة الدولة عما ظلّت تعده دائماً استراتيجياً، وهو في الوقت ذاته قاعدة من قواعد هيبتها وشرط من شروط هيمنتها. وبين عامي 1990 و1997 تراجعت الدول على مستوى العالم لصالح الشركات الخاصة من جهة ممتلكاتها الوطنية، وهي ممتلكات مقدّرة بحسب إنياسو رامونيه (لوموند ديبلوماتيك) ب 513 مليار دولار، منها 215 مليار دولار للاتحاد الأوروبي وحده, ويضيف رامونيه ان الشركات المخصخصة مرغوبة من قبل المستثمرين لأنها تربح من إعادة الهيكلة، فهي تمثل مواقع شديدة الجاذبية وعلى الأخص قطاعات الضرورات الأولى مثل: الكهرباء، الغاز، المياه، النقل، الاتصالات، الصحة، فهذه القطاعات تؤمّن على وجه العموم عوائد منتظمة، وهي قليلة المخاطر، لأنها استثمارات جاهزة لعقود طويلة بطبيعتها. فعلى المستوى القومي، فإن معظم الحكومات في المشرق وفي المغرب، وفي الشمال كما في الجنوب، لم تبرح تعمل فؤوسها في صلب الدولة وعمقها، وهذا أمر تأكد أكثر فأكثر كما يذكر رامونيه منذ أن أطلقت مارغريت تاتشر عمليات التخصيص الأولى في بداية الثمانينيات. على المستوى العالمي، لا توجد حكومة عالمية قادرة على إدارة رأس المال العالمي، للصالح العالمي، والحل الأمثل إذن هو أن تعطي الشركات العملاقة، متعدية الجنسيات، مهمة الحكم العالمي، فهي وحدها القادرة على إدارة رأس المال العالمي، للصالح العالمي!! هذه هي النظرية، أما الواقع فهو يُقرأ قراءةً أخرى، وهي أن الانفتاح الاقتصادي ليس له سوى ثلاثة لاعبين كبار كما يؤكد نجيب عيسى وهؤلاء اللاعبون الثلاثة الكبار هم: أمريكا الشمالية، الاتحاد الأوروبي، شمال شرق آسيا, فهذا المثلث كما يذكر الباحث يشكل 80 بالمائة من الاقتصاد العالمي، في حين أنه لا يحتضن سوى 10 بالمائة من سكان العالم، وبناءً عليه فالملاحظ أن 500 مليون من البشر، وهم يشكلون 10 بالمائة من سكان الكوكب هم الأغنياء، أما الباقي وهم 4,5 مليار فيصنفون في عداد الفقراء, إن ذلك المثلث يستحوذ أيضاً وبالضرورة على جميع السلطات السياسية والاعلامية والعلمية فوق الأرض. لكي تتأكد قوة الحكومة الجديدة، القادرة على إدارة الاقتصاد العالمي للصالح العالمي، ازدادت بطبيعة الحال حدة الاستقطابات الاقتصادية داخل بلدان الشمال، وشاهدنا قيام تكتلات الاتحاد الأوروبي والنافتا وآسيان. إن فتح الحدود أيضاً أمام حركة السوق هو الذي جعلنا نلاحظ هذا المشهد المثير العجيب وهو تصاعد قوة الشركات الكونية في مواجهة السلطات التقليدية (الدولة أو الأحزاب) فالظاهرة الرئيسية لهذا العصر لم تعد تقودها الدول، بل إن الذي يقوم بذلك فعلاً هو الشركات. ليس من اسبوع يمر كما يذكر إنياسو رامونيه من دون أن تعلن وسائل الإعلام عن زواج جديد بين شركتين كبيرتين، وهو زواج يبشر بولادة شركة عملاقة, ويضرب رامونيه أمثلة متعددة على الاندماجات الضخمة التي تحققت في ظل قوانين اللعبة العالمية الجديدة,, لعبة السوق، ولعبة السياسة: فهناك امتلاك شركة كرايسلر (لصناعة السيارات) من قبل شركة داملر بنز بمبلغ 43 مليار دولار، وبنك سيتي كورب من قبل شركة ترافلرز بمبلغ 83 مليار دولار، وشركة الهاتف Amvrtich من قبل S.B.C. للاتصالات بمبلغ 60 مليار دولار، وشركة صناعة الأدوية Ciba من قبل Sandoz وهناك 36 مليار دولار ولدت عنها شركة Mci. Novartis للاتصالات من قبل شركة World Com,، وهناك امتلاك بنك طوكيو من قبل ميتسوبيشي بنك، بحوالي 34 مليار دولار، وشركة سويس بنك من قبل اتحاد البنوك السويسري بمبلغ 24,3 مليار دولار, وهناك أخيراً اندماج شركتي الصلب العملاقتين Thyssen وKvupp حيث توقع مصدر قيادي أن يرتفع حجم أعمال الشركة الجديدة إلى 63 مليار دولار سنوياً. إن حركة الاندماجات بين الشركات في العالم بلغ حجمها 1600 مليار دولار، والمجموعات الكبرى فيها هي من نصيب المثلث الذي تحدثنا عنه أعلاه, وهو مثلث يسعى دائماً إلى حضور متصاعد على مستوى الكوكب، كما يسعى إلى الحصول على الحصص الأهم من حصص السوق. إن هذا النوع من الشركات العملاقة يُنظر إليه اليوم على أنه الحكومة العالمية الجديدة التي تتحكم قولاً وعملاً في مقدّرات هذا الكوكب, وتلك الشركات تنازلت لها حكوماتها عن أشياء كثيرة امتثالاً لليبرالية الجديدة وتحرير الأموال. ورامونيه كان يرى بأن هناك من الصناعات ما كانت تنظر إليه الحكومات على أنه استراتيجي ويصعب التنازل عنه أو قبول اندماجه مع شركات أجنبية، ولكن دواعي الاستجابة لنواميس العصر العالمي الجديد أبت إلا أن تدفع تلك الدول إلى ما لم تكن أبداً توده، فصناعة السيارات والصلب والاتصالات التي كان ينظر إليها فيما مضى من قبل الحكومات على أنها صناعات استراتيجية، تغيرت الحال بالنسبة إليها، ومنذ عشرين سنة في المملكة المتحدة اي منذ إعادة شراء الأمريكية كرايسلر من قبل الألمانية ديملر بينز اصبحت الاندماجات مقبولة ومرحباً بها، ولم يعد ذلك النوع من الصناعات من ضمن الاستراتيجيات المحرّمة, فلكل مرحلة شروطها، ولكل عصر ظروفه، ولكل لعبة جديدة قواعدها,, ولكل عهد حكومته!!