المتأمل في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي الذي يمتد إلى واقعنا المعاصر بإمكانه أن يلحظ فارق الاستراتيجية الذكية التي يعمل من خلالها الجانب الإسرائيلي مقابل الجانب العربي بما في ذلك الطرف الفلسطيني، سواء ً في أيام الحرب التي وقعت أو تقع على درب هذا الصراع، أو أثناء مفاوضات السلام المتعددة بين طرف إسرائيلي وأكثر من طرف عربي، وهي استراتيجية تهدف إلى إظهار إسرائيل وكأنها تقدم تنازلات، بينما هي في حقيقة الأمر تحقق مكاسب على الأرض عندما توجه مسار الأحداث وفق مصالحها العليا، لذلك من الطبيعي أن تنتصر إسرائيل في حروبها التي خاضتها ضد العرب، بل وتكسب عبر مفاوضات ما يسمى ب(السلام) أكثر مما كسبته عبر تلك الحروب، مع مراعاة أني هنا لا أغُفل (التفوق النوعي) بالنسبة للآلة العسكرية الإسرائيلية مقابل القوة العسكرية العربية، فضلا ً عن الدعم الغربي بشقيه الأميركي والأوروبي، ولكن من يملك السلاح الأمضى دون أن يستخدمه ضمن استراتيجية ذكية قد ينعكس سلباً عليه، وهذا ما يتحاشاه الكيان الصهيوني. بالأمس عشنا حدثاً مأساوياً وشاهدنا حرباً قذرة نفذتها إسرائيل ضد قطاع غزة، فهل وقعت فجأة أو حدثت بطريقة غير متوقعة؟ قطعاً لا. فإسرائيل هيأت المسرح العالمي لعرضها عليه، كما كذبت على المجتمع الدولي بشأن أسبابها ومبررات وقوعها، والتهيئة تعود إلى نهاية حربها مع حزب الله في لبنان صيف عام 2006م، التي قصدت منها تحجيم مقاومة حزب الله عن طريق جرّ قوات هيئة الأمم لتكون فاصلا ً يحمي شمال إسرائيل. من ذلك التاريخ جهزّت نفسها للقضاء على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة،، في ظل الشرخ الكبير الذي حدث بينها والسلطة الفلسطينية عقب سيطرتها على قطاع غزة، هذه السيطرة جعلت فصائل المقاومة تتحرك بمرونة أكثر ضد إسرائيل. هنا كان لابد من جرّ (حماس) إلى حرب عن طريق سياسة (التهدئة)، التي راحت تلوح بها عن طريق طرفين مهمين، هما السلطة الفلسطينية (الطرف الداخلي)، والحكومة المصرية (الطرف الخارجي)، وبالفعل تمت اتفاقية التهدئة بين فصائل المقاومة الفلسطينية بقيادة (حماس) وبين حكومة الكيان الصهيوني، لكنها لم تدم بسبب خروقات إسرائيل بالحصار والقصف والاغتيال، وفي أول رد من الفصائل على تلك الخروقات كان الاجتياح الإسرائيلي لغزة، مدعوماً بتبرير أميركي وصمت أوروبي. اليوم تمارس إسرائيل (تكتيك) مختلف، عن طريق أربعة محاور تنفذها في وقت واحد، وهي (مواصلة حصار غزة)، و(تكثيف الاستيطان) و(تهويد القدس وتهديد الأقصى) و(الاستيلاء على المقدسات)، بحيث تبدأ المفاوضات - التي تريدها - من خلال هذه المحاور، خاصة ً أن العلاقات الأميركية الإسرائيلية تشهد بوادر أزمة تقليدية حول الاستيطان، وأي (تراجع) من قبل إسرائيل في أحد هذه المحاور يُسجّل لصالحها بأنه (تنازل) بنية السلام، ومن ثم تقوم بتحويله إلى ابتزاز للإدارة الأميركية، ووسيلة ضغط على العرب والفلسطينيين، خصوصاً مع اقتراب القمة العربية في ليبيا، من هنا يمكن فهم قيام إسرائيل بالاستيلاء على المسجد الإبراهيمي في الخليل ومسجد بلال بن رباح في بيت لحم واعتبارهما ضمن التراث اليهودي، ومن ثم تهويد القدس عن طريق دعم جماعات يهودية متطرفة إلى تغيير الواقع الديني الجغرافي بتدشين كنيس الخراب (معبد هاحوربا)، الذي أعيد بناؤه على بعد عشرات الأمتار من الجدار الغربي للمسجد الأقصى، في ما يعرف حالياً بالحي اليهودي الذي قام على أنقاض حي الشرف أحد الأحياء الإسلامية في البلدة القديمة قبل هزيمة العرب في 1967م، وقد سمي بالخراب لأن العثمانيين هدموه عام 1721م، وكان بناؤه في القرن الثامن عشر الميلادي قبل هدمه بمدة بسيطة، وهو يظهر اليوم في قبة كبيرة (بيضاء) تزاحم المعالم الإسلامية في القدس كقبة المسجد الأقصى (الفضية) وقبة مسجد الصخرة (الذهبية). وتهويد القدس لا يقف عند تهديد المسجد الأقصى بالانهيار أو المعالم الإسلامية بالطمس فحسب، إنما في سرطان الاستيطان الذي راح ينتشر بشكل متسارع في جسد القدس، خاصة ً بعد إعلان الحكومة الإسرائيلية بناء 1600 وحدة في القدس، و112 وحدة في الضفة. وهو إعلان يعكس حجم التواطؤ الأميركي والأوروبي رغم الإدانة الأوروبية والأزمة الأميركية الإسرائيلية المزعومة، فلعلنا نتذكر أن جزئية إحياء عملية السلام في خطاب أوباما الذي وجهه إلى العالم الإسلامي من القاهرة، قد أشار إلى رفض (استمرار المستوطنات)، ولم يطالب ب(إزالتها). إذا ً نحن اليوم أمام مواجهات دموية قائمة على الأرض بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال، ومحادثات دبلوماسية بين الأمريكان والإسرائيليين لتحريك عملية السلام بأقل التنازلات التي هي أصلاً إجراءات نفذتها إسرائيل على أرض الواقع، ومفاوضات سياسية محتملة بين الأمريكان والعرب لإقناعهم بالعودة إلى طاولة التسوية السلمية بعد إجبار إسرائيل (وقف) الاستيطان وليس (إزالته) مقابل السكوت عن تهويد القدس بحجة أنها لمقدسات الديانات السماوية الثلاثة، وبهذا تنجح استراتيجية الإسرائيليين وتخفق استراتيجية العرب كالعادة، لأن خيارات إسرائيل مفتوحة بين (حرب وسلام)، بينما العرب يؤكدون دوماً أن خيارهم الاستراتيجي والوحيد هو (السلام) الذي لن يأتي.