محمد الفخراني الذي صدرت له ثلاث مجموعات قصصية ورواية خلال تسع سنوات، يمتلك عالماً خاصاً، عالما قد يسميه البعض بعالم المهمشين وهي تسمية ظالمة بالتأكيد، فهو يغوص في النفس الإنسانية عموماً وليس المهمشين فقط. «في اليوم التالي لولادتها بدأ ينبت فيها الورد» بهذه اللغة السهلة الصعبة يغوص الكاتب محمد الفخراني في قصصه وفي روايته الوحيدة «فاصل للدهشة»، والتي فازت بالجائزة الأولى لمعهد العالم العربي في باريس. محمد الفخراني ذلك المبدع الذي يرفض الترويج لنفسه ويخاصم كل آليات التواصل الاجتماعي، يكتب ويبدع في صمت لتأتي كتاباته بضجتها الفنية القوية صادحة في ساحتنا الأدبية بكل قوة وتمرد. وعن الكتابة وفاصله للدهشة كان هذا الحوار: فاصل للدهشة أم فاصل المهمشين؟ أم فاصل الكاتب محمد الفخراني؟ - هي رواية عن عالم ثري إنسانياً، ودائماً ما أبحث في كتابتي عن عالم يستوعبني إنسانياً وفنياً، قبل أن أكتب «فاصل للدهشة» كنت أعرف وأشعر في الوقت نفسه بأني سأدخل الكتابة برواية إنسانية، كانت هذه رغبة عميقة بداخلي، لم أعرف في البداية كيف سيكون شكل الرواية أو تفاصيلها، لكن مع الوقت كنت أتعرف إلى عالمها بأكثر من طريقة، وفي لحظة ما عرفت ما سأكتبه. اللغة عند الكاتب محمد الفخراني فيها بساطة مرعبة ومملوءة أحياناً بالشاعرية... ألا تخاف من ذلك؟ وكيف تمتزج الشخصية بلغتها عندك؟ - في رأيي أن اللغة هي ما يمنح الحياة لجميع عناصر الرواية، بشرط أن تكون هذه العناصر صالحة للحياة، إذا سقطت اللغة يضيع النص، وهي تختلف عندي من حالة كتابة إلى أخرى، فاللغة التي استعملتها في المرحلة التي كتبت فيها عن الهامش خلال مجموعتي القصصية «بنت ليل»، ورواية «فاصل للدهشة»، تختلف عن اللغة في العالم الذي كتبت عنه بعد ذلك في ثلاث مجموعات قصصية تُشكّل عالماً هو مزيج من الخيال والأساطير واقتراحات جديدة عن مفردات العالم وعلاقتها بعضها ببعض، اللغة مشروع وعالم قائم بذاته داخل النص، والعالم الذي أكتبه يختار لغته، أنصت إليه حتى أدرك نغمته الخاصة، ثم أفكر في ابتكار لغة فنية داخل لغته تلك. كتبت الرواية والقصة. فأيهما تشعر بانحيازك له؟ والكتابة عموماً كيف تراها؟ - لم أضع الرواية والقصة في مواجهة قط، اللحظة الإبداعية عندي متساوية، في رأيي أن العالم يحتاجهما بالدرجة نفسها، أنا أنحاز للكتابة المغامرة، المختلفة التي تبحث عن أساليب وعوالم جديدة، سواء في القصة أو الرواية، بالنسبة للكتابة في شكل عام، فطوال الوقت تتطور علاقتي بها، ورؤيتي لها، وثمة أمران لا يتغيّران، الأول إيماني بالكتابة، والأول أيضاً، دافعي الشخصي جداً للكتابة، أتصور أن كل كاتب لديه هذا الدافع الشخصي، ولولاه ما بدأ وما استمر، وعندما يفقد الكاتب شغفه ودافعه الشخصي يتوقف عن الكتابة، أؤمن بأن الكتابة يمكن أن تجعل العالم أجمل، وأقصد هنا، أنه عندما يمسك قارئ ما بكتابي ويقرأ جملة واحدة تجعله يتوقف ليعيد التفكير في شيء ما، أو تكشف له عن جمال لم يكن يراه، أو تلمس في قلبه نقطة ما، ويشعر بتلك اللمسة، فأنا بهذا قد غيّرت فيه شيئاً ما، الأمر في نظري يمضي بالطريقة الآتية: جملة بجوار جملة، قارئ بجوار قارئ، هكذا يمكن الكتابة أن تُغيّر، ببطء لكن بعمق. يرى البعض أنك مقل في أعمالك؟ فهل توافق على هذا؟ - ربما أكون مُقلاً في الأعمال التي أطبعها، لكن في مقابل كل الكتب التي أصدرتها هناك كتب لم أنشرها، واكتفيت بمتعتي بها أثناء كتابتها، وبالنسبة لي هذه الكتابات ليست وقتاً ضائعاً، كما أنها بأهمية الكتب التي أصدرتها، أفكر بأني إن لم أقدم شيئاً جديداً مع كل كتابي يصدر لي، فمن الأفضل أن أنتظر لبعض الوقت. النقد الآن كيف تراه؟ وهل نحن نعاني من النقد الصحافي؟ - في شكل شخصي قرأت أعمالاً جيدة لم يقترب منها النقد، لا أحب أن أفكر في الأسباب، في شكل عام، النقد لا يغطي النتاج الأدبي في شكل كافٍ، وأظن أنه لم يفعل ذلك في أي وقت في أي مكان، يبدو لي هذا منطقياً، لكني أتوقف أحياناً عند أعمال جيدة لكتاب آخرين لم يرها النقد. هل ما زال البحر لا يعرف اسمه؟ وهل فاصل للدهشة ظلم هذا العمل البديع؟ - لم يحدث أن ظُلم أي عمل من أعمالي بأي طريقة، كلها موجودة بطريقة أحبها، وتأتيني ردود أفعال جيدة عنها، تعرف، في شكل عام، أنا لا أحب بالأساس أن يقول كاتب عن نفسه أنه مظلوم، أو أن كتبه قد ظُلمت، أرى أن الكاتب يهين نفسه وكتابته عندما يقول مثل هذا الكلام المسكين، أو حتى يسمح لنفسه بهذا الشعور الضعيف، وبالعودة إلى كتابتي، فأنا أنظر إلى الأمر على امتداده، وكتبي لا تزال موجودة في العالم، وأمامها الكثير لتحققه مع كتب أخرى أتمنى أن أكتبها. كيف ترى حال الجوائز عموماً؟ - حال الجوائز هي حالها دوماً في كل مكان، ولن تتغير، ضجيج قبل أن تُعلن، وصخب بعد أن تُعلن، اهتمام موقت بالفائز، ثم هدوء في انتظار الفائز المقبل، وتبقى الكتابة وحدها في النهاية لتكون هي القيمة الحقيقية. هل نحن في زمن الرواية كما يشاع؟ - ليس صحيحاً، هناك رواج وهمي، يصنعه تكرار طرح هذه الجملة، وبعض ألعاب «سوق الأدب»، لكن لا شيء حقيقياً منها على الأرض، على الأقل ليس مثلما يتصور الكثيرون، ولو أن الجملة صحيحة لنجحت كل الروايات بغض النظر عن قيمتها، أو لحققت كل رواية قيمة ما، لكن بنظرة سريعة تدرك أن هذا غير صحيح، في النهاية، وعلى رغم الاهتمام الحالي بالرواية، لا يبقي واقفاً على قدميه في النهاية إلا النص الجيد، سواء كان رواية أم قصة. نجد في أعمالك كثيراً من الثقافة الغربية؟ فهل توضح لنا ما تفضله، وبماذا تأثرت؟ - لا أعرف، ربما لا ألاحظ ذلك، في شكل شخصي لا أنظر إلى ما يسمى تعدد الثقافات واختلافها، لست معنياً بهذه التقسيمات، أعتبر كل الثقافات إرثاً إنسانياً مشتركاً، أرى أن امرأة تغسل ملابس طفلها في نهر يمر في غابات أفريقيا تؤثر في شيء يحدث لي هنا، وأني سأشرب من ماء هذا النهر ويختلط دمي بعرق ورائحة هذا الطفل الذي تغسل أمه ملابسه، وهكذا الكون في نظري، دائرة لا تنفصل، لا فارق عندي بين جنوبه وشرقه، شماله وغربه، أنا من كل البشر، وكل البشر مني. أنت بعيد من مواقع التواصل الاجتماعي ولست مشتركاً بها. ولكن، هل تتابع تأثيرها في الأدب الحالي؟ - في تقديري أنها لا تصنع ما يمكن تسميته تأثيراً في الأدب، لكن ليس لدي شيء ضد انتشار الكتابة على هذه المواقع، أو ما يمكن أن يسميه البعض «استسهال الكتابة»، حتى لست مشغولاً بفكرة: مَنْ لديه شيء حقيقي تجاه الكتابة سيستمر ومَنْ ليس لديه سيتوقف، أو دع الزمن يفرز الكُتّاب، أو إكليشيهات من هذا النوع، لست مهتماً بالمرة، أعتبر أن فكرة الكتابة حالة حلوة بالأساس، ماذا يُضيرك لو أن شخصاً كتب قصة، أو قصيدة أو نصاً أو تجربة ما على صفحته الشخصية؟ فليكن، هذا شيء سيسعده ولن يؤذيك، لماذا تجعل من نفسك حكماً وحارساً على الكتابة والآخرين؟ الأمر بسيط، إذا أعجبك ما كتبه غيرك، فهذا جيد له ولك، وإذا لم يعجبك، ابحث عن شيء آخر بين آلاف الأشياء الأخرى المتاحة بسهولة، وكلامي هنا ليس أكثر من أني أرى الأمر بالبساطة التي هو عليها بالفعل. أخيراً، ماذا عن جديد الكاتب محمد الفخراني؟ - أعمل منذ سنوات عدة على رواية بعنوان «ألف جناح للعالم»، ربما أنتهى منها مع بدايات العام الجديد.