ليست المناسبة هنا صدور كتاب جديد لمحمد دكروب. الرجل الثمانيني، «الشيخ الشاب» كما يحلو لبعضهم تسميته، سيرته مملوءة بالكتب والنضال. في شبابه جعل من القلم سلاحاً وعبره راح يناضل متكئاً على الثقافة التي حصّلها بنفسه. ناقد من خيرة النقاد العرب، جاء النقد من الإبداع الأدبي ثم ما لبث أن انصرف له واضعاً كتباً مهمة في حقل النقد التأريخي والتحليلي. لم يكن دكروب يوماً ناقداً أكاديمياً في المفهوم المغلق للنقد الأكاديمي، بل سعى إلى النقد العلمي الأدبي المدّعم بالمراجع والمصادر، والقائم على قراءة الأثر انطلاقاً من خصائصه الجمالية ودلالاته الاجتماعية واللغوية. وقد جمع دكروب بين الوعي النقدي الرصين والجاد وبين النص الذي لا يخلو من نزعة أدبية واضحة، ولعل هذا ما ميز تجربته عموماً. وبعد توقف مجلة «الطريق» التي كانت طوال عقود مجلة الطليعة الفكرية والأدبية التقدمية في لبنان والعالم العربي، ها هو رئيس تحريرها يوقظها مجدداً، معيداً إصدارها بعد ثمانية أعوام على توقّفها. محمد دكروب، كاتب وناقد متميّز. شخصيّة تتقِن فنّ النكتة بأسلوب سلِس وعفويّ. حضوره مُحبّب وفكره مستنير ومنفتِح. وعلى رغم تكراره في أكثر من مقابلة أنّه على وشك الانتهاء من كتاب «على هامش سيرة طه حسين»، فهو مازال غارقاً فيه. ولديه أيضاً كتب شبه جاهزة تنتظر الخروج إلى الضوء. هنا لقاء مع محمد دكروب الذي تخطى الثمانين وما زال في حيوية الشباب وحماستهم. دائماً نزورك، ونرى تلك الملفّات «المكدّسة» على طاولة المكتب. ألَم يحن وقت إخراجها من الظل وإصدارها؟ - لديّ خمسة كتب شبه جاهزة تحتاج إلى إعادة نظر، ومقدّمات. الدراسات موجودة، ولكن كانت تحكمني فكرة تخلّيت عنها الآن، وهي أنّ الكتاب الذي يصدر يجب أن يكون فيه نوع من «الوحدة الكتابية»، وفي سبيل تحقيقها يجب أن ينتظر الكاتب كثيراً. أعترف أنني أمارس الكسل، ولكنني أكتشف أنه لم يعد ممكناً أن أواصل حياتي كما تعوّدتها وكما أحبّها إذا لم أخرج من هذه البؤرة «الكسل». أنا الآن تجاه معركة على خطّين: الخط الأساس إنهاء كتاب «على هامش سيرة طه حسين»، والخط الموازي هو إعادة النظر في الدراسات المنجَزة وتنسيقها لينسجم بعضها مع بعض، ومن ثمّ إصدارها كتباً متنوّعة يغلب عليها الطابع النظري الفكري. كيف تقضي أيامك؟ - أعيش أياماً غنية، متنوعة. أبقى معظم وقتي في المنزل، أقرأ وأكتب وأستقبل الزوار، لكنني لا أستطيع، على رغم تواجدي في المنزل، إلا أن أتواصل مع المحيط ومع الأشخاص الذين أعرفهم، من خلال الاتصال بهم. بذلك أشعر أنني قريب منهم، أتابع كتاباتهم، وأعرف آخر إصداراتهم. وأنت ماذا تكتب وماذا ستنشر؟ - لست راضياً عن نفسي في ما يتعلّق بمسألة الكتابة والنشر، ولكن ما يعزّيني هو أنني حالياً مشغول بمجلة «الطريق»، وهذه المجلة لها حضورها القوي في العالم العربي، وهي تصدر في شكل ممتاز. هذا الأمر يمنحني الغبطة والفرح، لكنني أحياناً أتكاسل عن الشيء الذي يجب أن أنتهي منه. لدي عدّة مشاريع بدأت بها وأهملتها. المشروع الذي أريد أن أنجزه، وربما بات يشكّل عندي «عقدة»، هو إنهاء كتابي «على هامش سيرة طه حسين». كتبته بأسلوب مغاير، ليس بحثاً في أدب طه حسين، إنما تعمّدت الدخول إلى أدب طه حسين من خلال جيل عاش على ثقافة هذا الكاتب الكبير. هذا الجيل هو جيلي، وأستطيع القول إنني اكتسبت مخزوني الثقافي الحداثي من قراءاتي المتعدّدة، وفي شكل خاص من خلال قراءتي مجلّة «الكاتب المصري» التي كان يرأس تحريرها طه حسين. وبرأيي هي أهم مجلة ثقافيّة فكريّة عربيّة صدرت حتى يومنا هذا. علّمتَ نفسك بنفسك من خلال القراءة والكتابة. ما كان الدافع لمتابعة تعلّمك الذاتي هذا، رغم أنك لم تبقَ في المدرسة أكثر من سنتين؟ - تعلّمت في المدرسة سنتين فقط. كان والدي يبيع الفول والحمص، وقد خفّ نظره، وأخذ العمال يسرقون الغلّة، فأخرجني من المدرسة كي أساعده. لكنني في تلك الفترة كنت أواصل القراءة. كان عندي نهَم للقراءة والمعرفة، أطّلع على المجلات، أقرأ الروايات، وكنت أحياناً أقرأ كتباً نقديّة وأخرى فكريّة، وأواصل القراءة حتى لو لم أفهم. وبهذا الشكل قرأت كتباً فلسفيّة لأرسطو، سقراط، أفلاطون... وعلميّة، من سلسلة «اقرأ». وكنت أهتم بالسينما وكذلك بالمسرح... وفي الوقت نفسه، أكتب قصصاً ومقالات. كيف تصف كتاباتك الأولى؟ - في تلك الفترة، كانت أخطائي اللغوية كثيرة. وهذا طبيعي، لأنني تركت المدرسة باكراً جداً. كنت أخطئ كثيراً في اللغة. ولكن، مع المِراس الطويل، صرت أكتب بلغة صحيحة، رغم أنني حتى الآن لا أعرف أن أعرب جملة واحدة ! ففي البداية، وجدت أساتذة من مدينة صور يقرأون كتاباتي ويُسدون لي النصائح، الأول اسمه أحمد حجازي، كان يكتب باسم «ابن البادية»، أفادني كثيراً. ولاحقاً، عندما تعرّفت بالكاتب حسين مروة، أصبح يقرأ لي المقال ويصحّح بعض الكلمات، وكنت أحفظ تلك الكلمات المصحّحة، ولكثرة القراءة أصبحت أتبيّن الأخطاء التي أقع فيها. والثالث هو الأستاذ زكي بيضون (والد الصديق عباس بيضون)، وقد استفدت منه كثيراً، وله فضل كبير في «تجليس» لغتي. وعلى رغم أنني تركت المدرسة، إلا أنني بقيت على علاقة بالمدير جعفر شرف الدين، وكان كاتباً، ويصدر مجلة اسمها «المعهد»، مجلة لها إشعاع ثقافي أوسع من مجلّة مدرسيّة، ما فسح لي المجال كي أكتب فيها. وكنت عندما ينشر مقال لي، أشتري عدّة أعداد من المجلة، أتأبّطها وأمشي متبختراً في شوارع صور. كنت أريد أن يعلم الجميع أنني صرت كاتباً. القراءة هي معلّمي الأكبر، فضلاً عن الحياة طبعاً. هكذا أصبح لي تكويني الثقافي الخاص. ويُقال إنّه أصبح لي أسلوبي الخاص، الذي هو أقرب إلى القَصّ. يطغى القصّ على كتاباتك كلّها، حتى الدراسات النقديّة منها. إلامَ تحيل ذلك؟ - كانت بداياتي مع كتابة القصّة. كتبت قصصاً عن صور، عن الفقراء، البحّارة، العتالين... وأعتقد أنّ هذه البداية تركت أثرها، في ما بعد في كتاباتي. حتى الكتابة النقدية والدراسات الأخرى، أكتبها بأسلوب سردي ولا أكتفي بعرض المفاهيم وتفسيرها. وعندما كتبت «جذور السنديانة الحمراء» عن تاريخ الحزب الشيوعي، اتبعت هنا الأسلوب الروائي، ورسمت شخصيّات وتخيّلت صوراً. لماذا تفضّل الأسلوب القصصي؟ - لا أفضّله، بل هو يدخل في طبيعة تكويني. أنا لا أتقصّد هذا الأسلوب القصصي، ولكنّي أتقصّد كيفيّة تكوين المقال. أتخيّل المقدّمة، الموضوع، الأفكار الأساسيّة، الخاتمة... ولكن، في أوقات كثيرة، كان يتبيّن لي في سياق الكتابة، أنّ هذه الخاتمة لم تعد تنفع، لم تعد تتناسب وسياق القصّة. كنت أستمدّ قصصي من الواقع. من الأشياء التي أراها. وكنت أراقب قصص الكتّاب المعروفين. كانوا دائماً يحاولون أن ينهوا الرواية بمفاجأة... صرتُ أقلّد هذا الأسلوب، ثمّ تساءلت: لماذا يجب أن تكون في النهاية مفاجأة؟ لماذا لا تتضمّن شيئاً آخر؟ وتبيّن لي أنّ هذا «الشيء الآخَر» هو ما يسمّونه في النقد «الإضاءة»، أي عندما يكتب الراوي القصّة يُضَمِّن الأسطر الأخيرة ضوءاً يختصر مسار القصّة كلّها. أي أنّ هذه الأسطر الأخيرة تحمل خلاصة المحتوى الجمالي والموضوعي للقصة. لكنّك لم تستمرّ في كتابة القصّة. لماذا؟ - صحيح، لم أستمرّ. وقد يعود السبب إلى زمن الستينات. في تلك الفترة، نشأت موجة تجديد في الأدب، وفي الثقافة بشكل عام. كنت حينها أكتب بأسلوب أقرب إلى الرومنطيقية التقليدية، ولم أكن أتابع حركة التجديد في القصة، خاصّة القصّة الفرنسيّة، لأنني لم أكن أقرأ باللغة الأجنبيّة. عندما حدثت حركة التجديد هذه، وجدت نفسي مقصّراً عن القصة الحديثة. أقنعت نفسي أنني تخلّفت عن الحداثة. توقّفت عن كتابة القصّة وهذا أكبر خطأ ارتكبته في حياتي. ندمت جداً. كان يجب أن أتابع. هذا قرار ظالم وفيه كسَل. كان من الممكن والضروري أن أتابع وأصبح روائيّاً جيّداً. بماذا عوّضتَ؟ - بالنقد، بدأت النقد في كتابتي عن الروايات التي أقرأها. كتبت في البداية بأسلوب يشبه التلخيص، ويركّز على الفكرة التي يريدها الكاتب «المنظور الروائي». أما المفاهيم النقديّة، فقد تبلورت من خلال الكتابة أولاً، ثم عبر قراءة الكتب النقديّة للكتّاب المصريين في فترة نهوض الأدب المصري، أمثال طه حسين، إبراهيم المازني، واللبناني توفيق يوسف عواد في كتاباته النقديّة. صرت أقرأ النقد، الكتب النقديّة، المجلات الأدبية... اختلفت طبيعة قراءاتي. أصبحت أقرأ القصة بانتباه أكثر. وصار الإدمان على قراءة القصص يمنحني مفاتيح ورؤى نقديّة عن كيفيّة الكتابة. فصرت أكتب النقد. أقنعت نفسي أنّني أكتب في النقد أكثر من القصة. هذا كلّه قبل أن أصير شيوعيّاً وأدخل في صحافة الحزب. كيف صرت شيوعيّاً؟ - بدأت القصة من صور، عندما كنت سمكرياً. كان يقول لي رفلي أبو جمرة الشيوعي: يا محمد أنت شيوعي، وكنت أقول له: لا، أنا قومي عربي، فيقول: ستكتشف أنك شيوعي، أقول له: ربما أكتشف أنّي شيوعي قومي عربي. أتذكّر عندما تركت صور وعشت في بيروت وتعرّفت إلى الشيوعيين، سلّموني وقتها مجلة أسبوعيّة سياسيّة ثقافيّة. يومها دعاني حسين مروة إلى اجتماع، حيث التقيت بنقولا الشاوي وفرج الله الحلو، القائدين التاريخيّين للحزب الشيوعي، وطلب مني نقولا الشاوي أن أتولّى مسؤوليّة تحريرها. وأصبحت كاتباً معروفاً في صحف ومجلات الشيوعيين. وعندما عدت إلى صور، رآني رفلي أبو جمرة وقال لي: ألَم أقل لك؟ قلت له: أنا شيوعيّ على طريقتي. ماذا يعني «شيوعي على طريقتي»؟ - أعني أنني لا أنتمي إلى تنظيم. أنا أكره التنظيمات والاجتماعات والمناقشات. عقلي ماركسي وفكري شيوعي. أكتب برؤى ماركسيّة شيوعيّة ولكنني لم أنسجم طوال حياتي مع التنظيم. هل ما زلت شيوعيّاً؟ - لو انتهت الشيوعيّة في العالم كلّه، يبقى شيوعي واحد اسمه محمد دكروب، لأن عقلي ماركسي ومن غير الممكن أن يكون غير ذلك. ألا تواجه مجلة «الطريق» ما تواجهه المجلات الورقية الأخرى من تراجع في عدد القرّاء ومشاكل التكلفة المادية؟ - المدهش أنّ مجلّة «الطريق»، تبيع أكثر من أي مجلّة ثقافية أخرى. لكنني الآن أخاف جديّاً عليها. بتّ ألاحظ أنّ ثمّة كسلاً في الكتابة الفكرية عند الأحزاب الشيوعية. وأنا قلت لهم إنني لا أريد مجلة تكون لسان حال الأحزاب الشيوعيّة. أريد مجلّة تتضمّن فكراً ماركسيّاً. فإذا لم يكن لديكم كشف جديد للواقع الاجتماعي في ضوء الفكر الماركسي لا تكتبوا. تتذكّر فترة الستينات والسبعينات تلك الحركة الثقافيّة. الآن في 2011 و2012، هناك مَن يسميها ربيعاً عربياً، أو ثورة أو انتفاضة... - ما حدث في تونس ومصر كان هائلاً. تسمّرتُ أمام التلفاز لأراقب الميدان. الملايين في الشوارع. حركة تجديد حياة. كنت مفعماً بالأمل وأنا أتابع هذه الحركة، ولكن يبدو أنّ البرجوازيّة العربية لا تزال واعية لمصالحها، وتسعى لعرقلة هذا المسار وتزويره. ماذا تسمّي ما يحدث: ثورة، انتفاضة، ربيع؟ - لا أحب كلمة ربيع. أرى أنها «انتفاضة» على الجمود. وهذه الانتفاضة تحمل الجيد والخطأ. لكنها انتفاضة غير مسبوقة، لأنه لم يتوقّع أحد أن تحدث. كيف لهذه الانتفاضة «الجامدة» أن تحمل معها انتفاضة فكريّة؟ - ستحمل، ولكن على مراحل. لأنّ أساس الحراك هو اجتماعي فكري، وهذا الذي عبّأ الشعب، وسيعود إلى هذا الواقع ويتبلور، لكنه يحتاج بعض الوقت.