شكّل موت ألبير كامو قبل خمسين عاماً حدثاً محورياً في حياة ابنته كاترين التي تقول: «عندما يكون الأب مشهوراً، ويتوفى حين تكون ابنته في الرابعة عشرة، تشعر الابنة وكأنها من دون أب، لم يعد ملكها. إنه ألم لا نعبّر عنه قط، فيلازمنا طيلة حياتنا». كيف تعاملت كاترين كامو مع موت أبيها؟ على غرار الشخصيات التي برزت في أدب ألبير كامو، ابتكرت كاترين نهجها الخاص في التعامل مع الموت. فإثر وفاة والدها في حادث سير في 4 كانون الثاني (يناير) 1960، تابعت كاترين مسيرة ألبير كامو الأدبية الذي ظلّ موجوداً في حياتها عبر كتاباته. لم تتمكن من التخلص من فكرة أنها ابنة ألبير كامو. تخلّت عن ممارسة مهنة المحاماة وكرّست نفسها للاهتمام بأعمال والدها الأدبية. تحرص كاترين كامو على التأكيد أن أدب والدها ما زال مقروءاً حتى أيامنا هذه، وتضيف أن مؤلفاته هي الأكثر مبيعاً في دار نشر غاليمار. وأهم ما أنجزته هو نشر كتاب عن والدها هو: «ألبير كامو، الوحيد والمتضامن» «Albert Camus solitaire et solidaire»، يضم مجموعة من المقتطفات، الصور والوثائق غير المنشورة. أرادت كاترين لأولادها أن يعلموا أن جدهم ألبير كامو كان إنساناً مثل كل الناس، وكتاباته ليست مخصّصة للنخب فقط. واختارت لمؤلفها عنوان «ألبير كامو، الوحيد والمتضامن» لأن والدها عانى فعلاً الوحدة، وظهر ذلك في كل رواياته، وخصوصاً «الغريب». لكنه كان متضامناً على المستوى السياسي، فهو حارب النازية وعارض نظام فرانكو وعادى كل أشكال الأنظمة الشمولية. إضافة الى ذلك، نشرت كاترين رواية «الرجل الأول» التي لم يتمكن والدها من إنجازها قبل وفاته. وجدت كاترين الرواية في صندوق، وكانت عبارة عن مسودة من 144 صفحة. وهي تتناول طفولة ألبير كامو الذي ترعرع من دون أب في كنف عائلة جزائرية فقيرة. وبالفعل كان ألبير كامو ولد في موندو في الجزائر عام 1913. ولطالما شكّل أدبه مرآة لنفسه وفكره وتأرجحه بين هويتيه الفرنسية والجزائرية. ولهذا الكاتب الجزائري الفرنسي تجربته الأدبية الخاصة مع الموت، بخاصة بعد أن لقي والده حتفه في الحرب العالمية الأولى. على المستوى السياسي، التحق ألبير كامو بالحزب الشيوعي عام 1934. وبعد أن منعت الرقابة صدور جريدته Alger républicain، توجه الى باريس وانضم الى المقاومة عبر تنظيم سري يُعرف ب «Combat» فحملت جريدة هذا التنظيم اسمه، وتجرأت على تناول مواضيع معقدة ومثيرة. حين حاز ألبير كامو جائزة نوبل للأدب عام 1975 قال: «بلا شك، يحاول كل جيل إعادة تشكيل العالم. إنما جيلنا يدرك أنه لن يستطيع القيام بذلك. لكن مهمته قد تكون أكثر أهمية. فهي تكمن في منع تفكّك العالم». لمع ألبير كامو عبر أعماله الأدبية التي ترقى الى مستوى الفكر الفلسفي والإبداع في معالجة المسائل الوجودية، لا سيما في رواية «الغريب» ومسرحية «كاليغولا». في هذا السياق، طغى موت أم ميرسو، بطل رواية «الغريب» العبثية، على أجواء الحبكة القصصية. وتتجلى لا مبالاته حيال وفاتها من خلال لغته الصبيانية، فهو يستخدم كلمات بسيطة مثل «شرير» و«لطيف». ويقول «شكراً» حتى حين لا يكون ذلك ضرورياً، وكأنه يجرّد بذلك اللغة من مضمونها. أما «كاليغولا»، بطل إحدى مسرحيات ألبير كامو التي تحمل الاسم نفسه، فيتعامل مع الموت في شكل مختلف كلياً عن سلوك ميرسو. تصرفاته غرائزية، يثور، يغضب، ينتفض. يعبّر عن مشاعره وأفكاره في شكل استعراضي وفاضح، على عكس ميرسو الغارق في عالمه الخاص. ميرسو أناني، تجرفه تفاصيل الحياة اليومية، فلا يضيّع وقته في التفكير بالمسائل الوجودية. وفي مسرحية «كاليغولا»، ينتفض الأمبرطور على المنطق الجماعي إثر وفاة أخته دورسيلا: «اقترب من جثّة دورسيلا. لمسها بإصبعيه. ثم بدا وكأنه يفكّر». هكذا تظهر الحقيقة المأسوية المجرّدة في مسرحية «كاليغولا»: «الناس يموتون وهم ليسوا سعداء». يفقد الأمبراطور صوابه حين يعي هذه الحقيقة البسيطة التي يعرفها كل الناس، لكنهم يتغاضون عنها. تجرفهم الحياة في وهمها، وهم يستسلمون لأكاذيبها مما يسهّل عليهم التعامل مع المسائل الوجودية. لكن كاليغولا يتمسّك بالرفض. هو الأمبراطور، وسوف يواجه الموت على طريقته. آثر جنون المنطق على نعمة الوهم، وهو يؤكد أنه يتصرّف كعاقل. لكنه، في الحقيقة وفي كل بساطة، يرغب في تحقيق المستحيلات، فيطالب بالحصول على القمر. يهدف كاليغولا الى السيطرة على الموت، إنما كيف له أن يفعل ذلك؟ يضع يده على الحياة البشرية. هكذا، سمح كاليغولا لنفسه أن يبتّ في مسائل الحياة والموت. اكتسبت تصرفاته بعداً إلهياً، فبات حاضراً في كل مكان: «كلا، كاليغولا لم يمُت. هو هنا، وهناك. يعيش في كلّ واحدٍ منا. لو أعطيت لنا السلطة، ولو كان لكل منّا قلب، ولو أحببنا هذه الحياة، سترون ذلك الوحش أو الملاك الساكن فيكم يثور». وبالفعل، يبدو ان ذلك الملاك ثار في قلب كاترين كامو التي جعلت من ذكرى والدها حدثاً محورياً في حياتها، فتخلّت عن كيانها الخاص لتعطي والدها جزءاً من نفسها وكأنها أرادت له ان يبقى على قيد الحياة من خلالها. إنما كاترين لم تفقد صوابها كما فعل كاليغولا، بل اختارت أن تتشبث بأدب والدها بشغف وكأنها لا تريد لهذا الأدب أن يموت. انه جنون المحبة والاستمرار، الجنون البنّاء وليس جنون الموت.