في روايتك «ترمي بشرر...» مثل كل رواياتك، ثمة مغامرة، مغامرة بكل ما تعنيه الكلمة، ليس فقط في الجماليات، إنما في الموضوع. فأنت لا تهادن ولا تذعن... فهل يمكن القول انطلاقاً من هذه الرواية أن الكتابة لديك هي مواجهة أكثر من كونها إعادة صوغ لأحداث ومواضيع؟ - سآخذ كلمة مواجهة خالية من شوائب دلالاتها الضدية وإنما بمفهوم الالتقاء بين أزمنة متشابكة، لكل زمن حدثه يؤثر في الدوائر المتقاطعة والمتماسة معه. وبهذا المفهوم تكون الرواية التقاء أحداث ذات منطلقات تستهدف تحقيق غاياتها، وفي نقطة ما تتصادم تلك الغايات والرغبات لإحداث شرارة الفعل الحارق. وأي حريق هو نتاج ظرفية التقاء جملة مواد مؤدية لفعل الاحتراق، والرواية بهذه الصيغة هي احتراق في لحظة زمنية يقف عليها الروائي ليجسد ذلك الحريق. ربما يكون التجسيد ممتداً كبقاء صورة تحمل مشهديتها كأن تشاهد الأجساد وهي تشوى أمام ناظريك، وليس أمامك الوقت الكافي للتقزز أو الاستنكار الأحادي، بل عليك التقاط الصورة كي تتضخم الإدانة أو الصرخة. ورواية «ترمي بشرر» صورة لاحتدام كل الرغبات في نقطة واحدة نتج منها كل ذلك الدهس. توسل اليوم غالبية الروائيين في المملكة أحداثاً مثيرة وجرأة مفتعلة بغية كسب قراء كثر، وإثارة لغط... لكن من يقرأك، منذ قصصك القصيرة، يلاحظ اشتباكك مع قضايا الشريحة العريضة من المجتمع، ثمة أصالة فعلية في انحيازك إلى مجابهة الظلم ودفعه عن هؤلاء... كيف تختار مواضيع روايتك، أم هي التي تفرض نفسها عليك؟ - الأفكار كالأمواج لا تهدأ، هي في رحلة دائمة، وكل فكرة لها وعاء مكاني وزماني تعمل بهما لإحداث فعلها. ولكي تحدث هذا التموج فأنت بحاجة ماسة لإيجاد أطياف المجتمع المختلفة، حتى وإن لم تتحدث تلك المجموعات، هي تحضر بوصفها عنصراً من عناصر الحياة المعاشة لخلق ضجيج الحياة. ولأن الأفكار لا تموت بل تضمر، أو تدخل في بيات شتوي تصبح الإشارة إلى موسم بياتها حضوراً لها. وكلمة الظلم التي وردت في السؤال ليست بمفهوم الأبيض والأسود كلونين حاضرين لتميز الظلم والعدل، بل حضورهما داخل النص في تمازج يصعب معه الوقوف عند صراحة الألوان كما هي حاضرة في مخيلاتنا، بل تحضر في تمازج نستشعره ولا نراه. الظلم نبتة ربما حينما تكتب تكون مثمرة وربما لا تزال بذرة، والذي يحدد مواقفنا مما نقرأ المفاهيم للمفردات الأخلاقية وعمقها الفلسفي وإن بدت في سردها بهيئتها اللونية، إلا أن صياغتها بحاجة إلى تعميق فلسفي وأسطوري وتاريخي، وهذا لا يحدث كتقرير بل كإشارات ضوئية يمكن فهم لونها من ثقافة العارف، بمعاني تلك الإشارات وليس بتصريح له بأن درجة الضوء الآن هي الأحمر أو الأخضر. ثمة مفارقة تطرحها روايتك «ترمي بشرر»، ففي الوقت الذي يوجد فيه من يبحثون عن طريقة للدخول في القصر، الذي هو مؤثر في الرواية، ومحور أحداثها الكبرى، هناك من يريد الخروج منه، بمعنى أن القصر استحال إلى مكان غامض، موشى بالدلالات كما يمكن النظر إليه بصفة البطل، فهو المتن، وما عداه من أحياء هامش، هل نقول إنك وفقت باختيار القصر كحامل لما تريد أن تتبناه في هذه الرواية من هموم وقضايا؟ - إن الحديث عن الهامشي في الرواية كالحديث عن الواقع والمتخيل، ويمكن لهذين القطبين أن يتبادلا المواقع وفق نظرة الدارس لهما، فمن ينظر للمتخيل أنه وقود الحياة ثمة شخص آخر ينظر للواقع كمحرك للحياة، بينما ثالث يرى أن المتخيل والواقع هما إفرازات من الأحداث والرؤى، تؤدي في النهاية إلى خلق صورة افتراضية، يتواطأ الجميع على ترسيخها بأنها هي الحياة أو هي الواقع. ومن هنا تبزغ أهمية الرواية بالإمساك بالمتخيل كأداة حقيقية لصناعة واقعها الروائي، وتجسده كواقع افتراضي مقلوب يستقبله القارئ (وفق فزيائية النظر للأشياء) بأنه واقع روائي متجسد في شخوص أو واقعه... لتتحول الشخصية الروائية إلى شخصية تعيش بيننا لها وجودها المتخيل. وتأتي فكرة العالم الهامشي من مقدرة الروائي على استنطاق الميت (المهمش) لتعطيه الدور القيادي داخل النص الروائي، وهي أشبه بلعبة تزوير التاريخ، فمع انثيال التاريخ الرسمي وعدم الركون إليه من الشخصيات النزقة تكون الرواية تاريخهم الموازي، الذي يطربهم ويدخل النشوة إلى أرواحهم الباحثة عن دور في التاريخ، هم على قناعة بأنهم يصنعون الأحداث سواء بالمشاركة أم بالمشاهدة. ولأن الكتابة والصورة هما الشاهدان على من صنع التاريخ، جاء الروائي والسينمائي بهذين العنصرين ليكتبا الهامشي على أنه المؤثر في صياغة الحياة. الرواية جاءت في أحيان كثيرة لتقول إن الهامشي لا يقل أهمية عن المتن، وكما الكتب التراثية حين يكون الهامش مفسراً للمتن أرادت الرواية أن تأخذ دوراً أكبر من أن تكون مفسرة، أرادت أن تقول إنها هي الحياة أصلاً. وبالنسبة إلى الدخول أو الخروج من القصر في رواية «ترمي بشرر» هي مواقع المتن والهامش، فمن يقبع في الهامش يرى أنه المفسر للمتن، وهو بهذا التفسير يغدو متناً وهكذا. في القصر أيضاً خليط من الأثرياء وعلية القوم، لم تعد المتع العادية تُجْدي معهم، فراحوا يبحثون عن متعة جديدة، يحققها لهم (البطل) هنا أنت تقترب من متخيل يدور في أذهان الناس حول الأثرياء، لكنك تجعل منه واقعاً، ماذا تقول؟ - الحياة مجموعة حيوات، ومنا من لا يعرف إلا نمطاً واحداً من الزفير والشهيق، بينما يسمع عن حيوات أخرى لا يعرف منها إلا ما يتم تخزينه من مقولات عن تلك الحيوات، وبالتالي تظل حاضرة في أذهاننا كما نسمع. والكتابة تقترب من ترسيخ النمط المتخيل ونقضه في الوقت نفسه. وللثراء أنماط سلوكية كما للفقراء والأغبياء والمجرمين أنماط سلوكية متشابهة، نتقاسمها كخبرات عن هذه الفئات بينما الكتابة تأتي حاملة فلسفة كل طبقة أو فئة بصواب ما تعيشه، وسيد القصر أو مرتادي القصر هم يحملون أفكارهم التي يظنون أنها صائبة، بينما تقف فئة الفقراء في مواجهتهم بفكرة نقض عالمهم أو اتهامه بالظلم، وهذه هي نفسها لعبة الهامش والمتن. عوالم تصيب باللعنة من لا ينتمي لها. يظل القصر يشبه تلك القصور التي يمكن للقارئ أن يجدها في كتب الأولين، حيث كل شيء فيه، يستفز الخيالات ويطلق العنان للإحاطة بما فيه، من عجائب وأسرار، إنه يشبه إحدى تلك الغرف السحرية، المغلقة على نفسها، ومن يفتحها أو يقترب منها تحل عليه اللعنة، ما تعليقك؟ - نعم، من يدخل إلى عوالم لا ينتمي لها تصيبه لعنة تلك العوالم. ولذلك لكل عوالم خصائصها التي لا تمنحك إياها ما دمت خارج عالمها، فلو ضربنا مثلاً بالكائنات البحرية وخاصية إذابة الأوكسجين من الماء واستنشاقه تصبح محاولة الكائنات غير المائية أن تعيش في هذا الوسط ضرباً من الجنون، أو الحضور الموقت للحظات بكتم الأنفاس، قبل أن تحل عليه لعنة العالم الذي اخترقه من غير خلق ظرفية تبقيه داخل ذلك العالم. وكل الأبطال في رواية «ترمي بشرر» حاولوا البقاء داخل القصر وهم لا يحملون شروط المكان أو ظرفيته، وبالتالي تم سحقهم أو استخدامهم كمناديل للتمخط فيها وقذفها لأقرب برميل نفايات. في القصر الناس لا يعرفون أسماءهم، كما أنهم لا يعرفون تاريخ بعضهم بعضاً، يتعرفون على بعضهم من خلال ما يمارسونه من مهام، ومن أولئك البطل، الذي ينتمي وظيفياً إلى مهنة الجلادين، وتتمثل مهمته في تقويض أي رجولة معتدة بنفسها، إنها مرة أخرى لعنة القصر، كيف أمكنك تصوير هؤلاء ككائنات مجهولة مطموسة الهوية، إلى جانب كونهم يتميزون بعاهات مختلفة؟ - في القصور أنت حاضر في وظيفة وليس حاضراً كإنسان، عليك أن تتحرك وفق وضعك داخل وظيفتك، وليس وفق مشاعرك أو إنسانيتك أو من تكون. ثمة مشاهد كثيرة في رواية «ترمي بشرر» تجسّد غياب الإنسان وحضور الوظيفة داخل القصر، وهم بهذه الوظيفة مجرد أطياف تتحرك ليس لها اسم أو تاريخ بل لها دور تؤديه في حينه، وغيابها عن أداء هذا الدور يكون جالباً للسخط، وتأديتك دورك داخل القصر لا تجلب الشكر، فأنت في وظيفة تتطلب منك أن تكون جاهزاً لأي مصير من غير اعتراض. هذا الحضور لتلك الشخصيات هو حضور وظيفي، والفن يمثل رحلات اصطياد للحالات التي لا نتنبه لها جيداً. فالأحذية التي ننتعلها لا نتفقدها إلا عندما تنقطع، وتفقدنا لها لأنها خانتنا أثناء السير فنقذف بها مباشرة. الشخصية الرئيسية (طارق فاضل) تكتسب أهميتها، بعد أن كانت بلا قيمة، من تلك الفحولة التي اكتسبها من والده، الذي بدوره ورثها عن أبيه، كأنما الفحولة هي قوام الرواية، في شكل من الأشكال، كيف تقرأ حضور الجنس في روايتك هذه، والرواية في السعودية بشكل عام؟ - طارق يمتلك الجنس بوفرة وهي ميزته، كما يمتلك شخص ثروة طائلة يدخل بها في استثمارات لا تنتهي قد تكون مخلوطة بعمليات تزوير أو ربا أو غسل أموال، هذه الأفعال المشينة تولد لدى الثري حالة من قلق الروح، وكذلك طارق كان يمتلك وفرة الجنس، هذه الوفرة تحولت إلى حالة من التمزق وعدم الرضا. وربما السير في اتجاه واحد يجعلك راغباً (ولو مرة واحدة) أن تعكس السير، ومع هذه الرغبة سحق الجميع... ثمة قانون أزلي أن من يعاكس التفويج يدهس. كأنك تسعى إلى كتابة التاريخ السري لواحد من أحياء جدة، إن لم يكن لمدينة جدة نفسها في شكل عام، عبر ذلك التقصي في الحيوات التي تقيم فيها، وتنتمي إلى أعراق وجنسيات مختلفة، لكنها في الهم سواء، إلى أي حد تعتقد أن كتابة السري والمسكوت عنه، يمكن أن تكون بديلاً للتاريخ الرسمي والمعترف به، ألا يمكن اعتبار هذه التاريخ السري مجرد فضائح؟ - أولاً نقف على كلمة فضيحة... ما هي؟ ما لا يروق للآخرين هو فضيحة، وهذا يجعلني أرى أن الكتابة فعل فضائحي بامتياز، ولأن التاريخ الرسمي لا يكتب الفضيحة (في مستوياتها المتعددة) يغدو تاريخاً مزوراً أو مشكوكاً في صحة أجزاء منه. والرواية تقوم بالفعل الفضائحي (والفضائحي هنا ليس بالمفهوم الساذج للفضيحة، بل لكل مستويات الفضيحة التي تنقص إنسانية الإنسان)، وهي من هنا اكتسبت حضورها في رؤية الواقع وهو يرتدي قميص النوم.