ما الذي يُغري مثقّفاً لبنانيّاً كأحمد بيضون، وكلّ من يشاركه أطواراً من حياته وتحوّلات فكره، برياض الصلح؟ وهل لسياسيّ لبنانيّ آخر، غير الصلح، أن يغري بيضون ومن يشاركونه أطواره؟ تبدأ جاذبيّة رياض الصلح على أحمد بيضون من أنّ واحدهما يشبه الآخر. ذاك أن الاثنين انتقلا، كلاًّ بطريقته وفي مجاله وفي زمنه، من أفكار مدارها الأفكار، المشوبة دائماً بالعواطف، إلى أخرى مدارها الواقع ووقائعه. وهو انتقال، بل انزياح، أفضت إليه التجارب ممّا «علمنا وذقنا»، فأفضى، بدوره، إلى ذاك الشبه الذي لا يتوافر بين بيضون ومشاركيه أطوارَه وبين أيّ من سياسيّي لبنان الحديث، الأموات منهم والأحياء. لكنّ العنوان العريض والعامّ هذا لا يغني عن تفاصيل وعناوين فرعيّة تدلّنا إلى الكيفيّة التي بموجبها يعيش رياض الصلح في زمن أحمد بيضون ويحتفظ براهنيّته. فرئيس الحكومة الذي قضى اغتيالاً، قبل نيّف ونصف قرن، ليس زعامة جبليّة أو مناطقيّة ضيّقة الأفق. ولا هو بالوجه المقتصر على طائفته الذي تنتهي حدود طموحه عند حدود طموحها. فالصلح، على ما يرسمه كاتب سيرته التي امتدّت على مجلّدين*، كان «زعيماً عريض الصيت ولم يكن رئيساً لكتلة نيابيّة. وكان مصدرا قوّته – فضلاً عن شخصيّة مميّزة بحبّ المبادرة والبراعة في تسديدها – استواؤه قبلة لأنظار جمهور متنوّع، كبير ولكنّه غير مركّز في صورة الكتلة الناخبة، وشبكة علاقات شاسعة يبدأ نسيجها كثيفاً جدّاً في لبنان وسوريّة وتنتشر إلى سائر البلاد العربيّة فإلى فرنسا وبريطانيا». وهذا ناهيك عن أصدقاء لازموه ولازمهم «يتعذّر إحصاؤهم (...) من الملل المحيطة كافّة: الشيعة والدروز والعلويّين والنصارى، على اختلاف فرقهم، واليهود». والصلح، أهمّ من ذلك ربّما، يرقى إلى عَلَم على القوميّ المتحوّل والانتقاليّ الذي تورّط في العروبة طويلاً قبل أن يتورّط في اللبنانيّة الاستقلاليّة. بيد أنّ انتقاله، المتعرّج والمتدرّج، جاء محكوماً بالتجريب في موازاة انحلال الأمبراطوريّات، ثمّ انحلال كوابيسها، واتّضاح الحقيقة القائلة إنّنا إمّا أن نعيش في دول - أمم أو أن نفنى. هكذا أصبح «الاستقلال»، شيئاً فشيئاً، «شعاراً غالباً لرياض الصلح يقدّمه صراحة على شعار الوحدة»، وإذا ب «استقلال سوريّة ولبنان مقدَّم على الوحدة بينهما». أمّا حظوظ الوحدة صلحيّاً ف «ستكون موفورة بعد الاستقلال وهي، على كلّ حال، رهن بالاختبار الحرّ لأطراف الأمّة». وهكذا، وفي استخلاص يكاد يكون برنامجيّاً، لا يُجعل «تفكيك الكيان اللبنانيّ، بالتالي، مدخلاً إلى تحقيق الوحدة». فرياض، في مساره، كان «وحدويّاً في شبابه وبقي على هذا المبدأ. لكنّه لم يتردّد في تنحيته من حيث وجده باباً إلى الفرقة وإلى دمار الأوطان». وهو، في صياغة أشدّ مباشرة للمؤلّف، وجد «في استواء لبنان دولة سيّدة خيرَ ما يستطيعه اللبنانيّون لأنفسهم وما يستطيعه العرب للّبنانيّين ولأنفسهم أيضاً». ثمّ إنّ الصلح لم يرث اللبنانيّة بالمعنى الطبيعيّ، إن لم نقل الآليّ، الذي ورثها فيه زعماء الجبل – المتصرفيّة من موارنة أو دروز. فقد أتاها سالكاً إليها طريق البراغماتيّة والتجريب، أو الصناعة وإعمال المقارنة. فهو، بالتالي، وفي حدود التأريخ لسياسة لبنان وسياسيّيه، ينتمي إلى الطور العقلانيّ الناضج بعد طور رومنطيقيّ. وفي المعنى هذا نراه يشبه بعض «المرتدّين» وتجاربهم، هم الذين خالوا أنّ العروبة الوعاء الأوحد لمعناهم وطموحهم، ليكتشفوا، وقد أدمتهم البراهين الباهظة، أنّ الاحتمال الوحيد للمعنى، والأفق الوحيد للطموح، يقيمان في بلد ودولة بذاتهما. وقد اهتمّ رياض الصلح بالنموذج وبالأقليّات، ما قاده إلى سياسة ذات بُعد ديموقراطيّ مؤكّد بالملموس أكثر منه مُنظّراً في صياغات ومعادلات. فهو أدرك أهميّة طمأنة الأقليّات «بكلّ وسيلة متاحة إبطالاً لحاجتها إلى «الحماية» الأجنبيّة». لكنّه كان يرى أن الاطمئنان يجب أن يقود إلى السويّة الوطنيّة، بحيث «ينتهي إلى تجاوز الموقف الأقليّ نفسه». فالتسوية، التي قادت خطاه دائماً، لا تعني الوقوف في الوسط من كلّ شيء كما لو أنّ محطّة الوسط آخر الأفق، أو كأنّ الحفاظ على الواقع القائم، بعد تسكينه وتشذيبه من العنف، آخر الأحلام. فرياض كان «قد صوّب نظره نحو إلغاء الطائفيّة على أنّه التعبير عن «يقظة وطنيّة» هي وحدها الحاضن الفعّال للاستقلال وللإصلاح معاً». يعزّز ذلك عنصرٌ حديث في تكوينه، مفاده أنّ الوظيفة والسلك الإداريّ احتلاّ في حياته وحياة أبيه، بل آبائه، أكثر مما شغلت ملكيّة الأرض، ومن ثمّ فإنّ الرجل صادر عن تقليد ينطق بلسان المدينة لا بألسنة الأرياف. وتبعاً لصنف السياسة التي استهوت ورثة التقليد هذا، كانت الخدمة العامّة مدخل الاهتمام بالشأن العامّ والاندراج فيه كما مارسه واحد منهم بعد آخر. ثمّ إنّ سياسيّة رياض انطوت على حركيّة غير مألوفة كثيراً في لبنان، حركيّةٍ لم تُستبعد منها المنافي والسجون، تحاذيها «مسيرة نضاليّة طويلة ومتعدّدة المسارح». وعلى امتداد المسيرة تلك، كان الصلح ينفق من ماله على سياسته، فلا يكون الشأن العامّ، كما هي الحال غالباً، وخصوصاً مؤخّراً، مصدراً لتكثير المال. فهو، مثلاً، «لبث مدقَعاً لسنين، في عقد الثلاثينات ومطلع الأربعينات، وقد أصبح الدَين أليفه. ومن هذا القبيل أنّه كان قد أُخرج، في أوائل الثلاثينات، من مسكنه البيروتيّ الأوّل في حيّ الناصرة لعجزه عن دفع الإجارة (...) وقضى الرجل وهو مثقل بديون باهظة نُشرت لائحة بها، بعد مقتله، كانت في عهدة مفتي الجمهوريّة». والصلح، وهذا أيضاً من تعابير حداثيّته وحركيّة فهمه للسياسة، ربطته علاقة حميمة بالتحرّكات المطلبيّة، من إضراب السوّاقين إلى تحرّك مزارعي التبغ. ومن غير أن يكون اشتراكيّاً، أو يساريّاً، بأي معنى كان، لم تشمله القوائم الطويلة للمصابين بالعداء للشيوعيّة، باسم الدين أو القوميّة أو التقاليد، بل وجد في الشقّ الاجتماعيّ قاعدة أخرى محتملة للقاء عابر للطوائف. فقد «اقترب من مرشّحي الحزب الشيوعيّ نقولا الشاوي وسعد الدين مومنة. وكان يجمع بين رياض وهذا الحزب اشتراكهما في توجيه حركات المقاطعة والإضراب التي شهدها النصف الأوّل من الثلاثينات. وكانت تجمع أيضاً الصداقة بين رياض ومسؤولي الحزب الشيوعيّ الفرنسيّ، وهي صداقة تعهّدها منذ إقامته في باريس خلال عامي 1927 و1928». والزعيم اللبنانيّ لم يكن أبرشيّاً ضيّقاً وجاهلاً بما يجري في العالم، كحال الأغلبيّة الساحقة من سياسيّي لبنان، يومها والآن. فهو «عريض الأفق شعر بأولويّة المَدارين الدوليّ والعربيّ لمعركة الاستقلال فأولاهما من طاقته ما يستحقّانه». وكان في هذا جميعاً بالغ التعويل على الرأي العامّ وعلى تكييفه وتغييره، أو بلغة الكاتب: كان لديه «تحسّس قد لا يكون بلغه سواه من أقرانه العرب لأهميّة الرأي العامّ وضرورة التوجّه المنتظم إليه». والشيء ذاته يقال في التفاوض وصولاً، في حالاته القصوى، إلى مفاوضة الحركة الصهيونيّة، شأنه في ذلك شأن جميل مردم وفارس الخوري وفخري البارودي وشكري القوتلي وشكيب أرسلان وإحسان الجابري وموسى العلمي وغيرهم. ولئن نفى رياض ذلك، مثلما كان ينفيه زملاؤه، فإن النفي المفهوم الأسباب، آنذاك كما اليوم، لا يلغي الدلالات المعقّدة لهذا النوع من السلوك. فرياض كان كثيراً ما يناوئ رغباته الأولى، ذاهباً في السياسة مذهباً لا يشبه، بالضرورة، أمزجته الأصليّة أو، إذا شئنا، غرائزه. فهو «شخصيّاً، لم يكن متحمّساً لمشروع الهدنة»، بُعيد نشأة إسرائيل، «إلاّ أنّه اقتنع (...) بأنّ قبول دعوة مجلس الأمن إنّما يمليه العقل وتفرضه الحكمة». فهو، من ثمّ، «رجل مفاوضة وتعاقد» و «من أرباب المرونة واجتراح المخارج، لا في التفاصيل الخلافيّة وحدها، بل في ترتيب الأولويّات العامّة أيضاً». غير أن ذلك لم ينفصل، لديه، عن شرط بارز هو اندراج التفاوض مع الإسرائيليّين، في عمل جماعيّ عربيّ، كما لم يغب عنه، ومن داخل الجماعيّة تلك، إيلاء الصدارة للأراضي اللبنانيّة التي احتُلّت، في 1948، ولاسترجاعها. فالواقع، عند الصلح، يغلب الموروث الايديولوجيّ والعاطفيّ، تماماً كما أن الديالوغ في التفاعل مع الواقع ومع العالم يغلب المونولوغ. وهو ما تسري نتائجه على عناوين عدّة. وكانت عقليّة التسوية الصلحيّة تحتفظ بطاقتها الأكبر للمسيحيّين اللبنانيّين الذين معهم سيُبنى الوطن الجديد ودولته. وهذا ما تنجرّ عنه موازين ومعايير ومعادلات. ذاك أنّ «العاطفة الجيّاشة التي نكبح جماحها في سبيلكم توجب عليكم أن تكبحوا جامح عواطفكم مثلنا وأن تضحّوا كما ضحّينا (...) سنضحّي نحن فضحّوا أنتم وإلاّ فلا حياة لنا بدون تضحية مشتركة ومتقابلة». فسلوكه، بالتالي، لا يفارقه الإدراك الضمنيّ بأنّ السياسة والسلام الأهليّ مغامرة فيها الكثير من الشدّ والإرخاء، وهو ما لا يخلو من تعديل في ثوابت يُظنّ أنّها لا تُمسّ تمهيداً لتأسيس ثوابت جديدة قد تُمسّ، هي الأخرى، إذا ما استدعت التسوية ذلك. وهذا لا يلغي ظهور لحظات تأزّم في السعي التسوويّ يعود فيه أحد الطرفين إلى موقفه الأصليّ الخام فيجرّ الطرف الثاني إلى موقف مماثل إنّما مضادّ، على ما حصل، مثلاً، أثناء الاستقطاب الحادّ الذي شهده العام 1936 والصراع الدائر حول المعاهدة مع فرنسا، أو حين ساقته حرارة السجال مع كميل شمعون إلى التهديد ب «نقض الميثاق الوطنيّ». ورياض لم يكن دوماً بمنجاة من هذا الانجرار شأنه شأن سائر «المعتدلين» و «العقّال» في تاريخ لبنان السياسيّ الحديث الذي يعنف ويتطرّف مهدّداً بجرف «العقل» و «الاعتدال». بيد أنّ الوعي التسوويّ تسلّل إلى سلوكه الشخصيّ، الحديث والمتسامح، و «في مدى عقدين كان فيهما يشنّ حملاته على الانتداب وأعوانه، ثمّ يتولّى الحكم شريكاً لبشارة الخوري والآخرين، بقيت حبال الودّ موصولة بينه وبين أركان الكتلة الوطنيّة في السياسة وفي الصحافة، بمن فيهم إميل إدّة» الذي حماه «في أحرج لحظة سياسيّة (...) من تهمة الخيانة». ولنا أن نفهم ما يعنيه هذا السلوك بالقياس إلى ثقافة التخوين، ثمّ التكفير، التي سبقت الصلح وراحت، بعده، تشتدّ وتقوى. وفي استعادة لإنجازات الحكم الثنائيّ لبشارة الخوري ورياض الصلح، في نهاية مجلّده الثاني، يصوّر بيضون، على نحو بليغ، علاقة رياض بالسياسة: فهو توفّر على «إدراك فذّ لأهميّة السياسة ولأسبقيّتها بما هي إدارة حسّيّة للشأن العامّ على كلّ نشاط آخر: على المثالين الوحدويّ والاستقلاليّ بحدّ ذاتهما وعلى قتال الأعداء بحدّ ذاته وعلى إصلاح الدولة بحدّ ذاته وعلى الإصلاح والعمران بحدّ ذاتهما»، وفي السياسة فحسب «يتبيّن اشتباه الخير والشرّ خصوصاً، وإمكان أن يستحيل شرّاً ما يُعدّ بحدّ ذاته خيراً والعكس بالعكس». هكذا جاء الميثاق ناهضاً على مقايضتين: «الأولى هي مقايضة المسيحيّين الحماية الأوروبيّة (أو الفرنسيّة، بالأحرى) بوطن منفتح على «الخيّر النافع من حضارة الغرب»، والثانية مقايضة المسلمين الوحدة العربيّة (أو السوريّة، بالأحرى) بوطن «ذي وجه عربيّ»». وكان الصلح قد أعلن، قبيل اغتياله، وفيما المشاريع الوحدويّة العربيّة تهبّ من كلّ حدب وصوب، أن «لبنان يرحّب بكلّ مشروع يوفّق بين الدول العربيّة إلاّ أنّه يعارض كلّ ما ينتقص من السيادة الوطنيّة»، وأنّه «ارتضى لنفسه وضعاً لا يريد له بديلاً». أمّا العلاقة مع سوريّة فلبثت الوجه المقابل للعلاقة بمسيحيّي لبنان، إلاّ أنّه وجه مكمّل محكوم بالمنطق التسوويّ إيّاه. فقد ذلّل تحفّظاتِ سعد الله الجابري عن حدود لبنان «سحرٌ ساحر إسمه رياض الصلح»، على ما كتب يوسف سالم ونقل عنه أحمد بيضون. أمّا جميل مردم فأُطلق عليه وعلى الصلح «لقب التوأم»... لكنّ هذا ظلّ ممكناً حين كانت السياسة تفعل فعلها في سوريّة، والأمر ما لبث أن تغيّر منذ انقلاب حسني الزعيم في آذار (مارس) 1949، الذي افتتح طور الانقلابات العسكريّة المتلاحقة والمتسارعة في دمشق: «فقد أصبح رياض الصلح خصماً لحكّام سورية المتتالين (أو لمعظمهم، في الأقلّ) يخصّونه بنفور من شخصه لا لبس فيه وبتوجّس ظاهر من نشاطه السياسيّ ويجاهرون، بين حين وآخر، برغبتهم في تنحيته عن رئاسة الحكومة اللبنانيّة». بل «كان الضبّاط الذين توالوا على حكم سوريّة (...) من الزعيم إلى الحنّاوي إلى الشيشكلي يكنّون عداء استثنائيّ الشدّة لرياض الصلح». غير أنّ «جذر العداء الأعمق»، على ما رأى بيضون، أن هؤلاء العسكريّين الانقلابيّين لم يكفّوا عن اعتبار الصلح «بقيّة جيل عربيّ ظلّ حاضراً في خاطر سوريّين كثيرين، وكان من وجوهه القوتلي ومردم». هكذا، مع الطور الإنقلابيّ، فقد رياض الصلح قدرته على التوسّط، إذ لا تسوية من دون تسوويّين، وهكذا تزايدت الأصوات التي تعيّره بأنّه «ليس الرجل الذي يصلح لإصلاح العلاقات بين بيروت الانتخابات – على علاّتها – ودمشق الانقلابات». ورياض لم يقتصد في الافتخار بالتجربة اللبنانيّة التي كان أحد أهمّ مهندسيها، وهو افتخار حمله على تقديمها، قبل أن يفعل بيار الجميّل ذلك، بديلاً من النموذج الإسرائيليّ. ويروي المؤلّف أنّه «ضرب لبرنادوت المثل اللبنانيّ لإقناعه بأنّ في وسع العرب واليهود أن يعيشوا سويّة في دولة موحّدة»، وكانت عبارته بحرفيّتها: «ها أنذا أرأس وزارة هذه الدولة بالرغم من أنّني من الطائفة الأقلّ عدداً، وهذا أكبر دليل على أنّه إذا أراد اليهود أن يزول الخلاف الموجود الآن، فما عليهم إلاّ أن ينتزعوا من نفسيّتهم فكرة إنشاء الدولة الموهومة». أمّا في الداخل، وتطبيقاً لما يمليه عقله التسوويّ، فآثر التمسّك بوحدة الحكم وتماسك أجزائه: صحيح أنّه في بعض اللحظات الحرجة قال «إنّه لا يحكم لبنان وحده»، أو اعتبر البتّ في موضوع إعدام أنطون سعادة مسألة تخصّ المسيحيّين وحدهم، ما دام سعادة مسيحيّاً. ذاك أنّ الحفاظ على وحدة الحكم صعبة حين لا يكون «جوّ العلاقات بين الطوائف» صافياً، فيما الطوائف، تعريفاً، مدفوعة إلى تعكير هذا الجوّ، مع ما يستجرّه ذلك من «شجار صحف» وصغائر اتّصلت بأسماء كانوا أبطالها أو ضحاياها («السلطان» سليم الخوري ووفيق القصّار وبدري المعوشي وعمر الزعني وناصر رعد وغسّان تويني وحنّا غصن وسعيد فريحة ومحمّد النقّاش وسواهم)، ومن أعياد طائفيّة ومن إطلاق رصاص الترحيب بهذا في مقابل إطلاقه ترحيباً بذاك، وطبعاً التوظيف والتنفيع وحشو الإدارات بالمحاسيب و«التجاذب في نطاق المؤسّسات» الذي سريعاً ما «يتجاوزها بيسر إلى الشوارع والأزقّة المتقابلة»...، كلّ هذا صحيح ومعروف، لكنّ الصحيح أيضاً أن «عادة» رياض كانت «الدفاع عن أعمال الحكم طالما بقي فيه، وتحمّل مسؤوليّة النطق باسم السلطة الحاكمة طالما بقيت هذه المسؤوليّة منوطة به أوّلاً». فهو وصل به الأمر إلى «غضّ الطرف عن كثير من الفساد عاينه من حوله مقدّماً على التصدّي له داعي المحافظة على وحدة الصفّ». وأبعد من هذا، وربّما من صنفه السلوكيّ ذاته، أنّه حين فهم أن مندوب حسني الزعيم يحمل إلى بيروت تهديداً باحتلال البلد، اندفع نحوه «كمن يستعدّ لاستعمال قبضته»، بحسب رواية منقولة عن زهير عسيران. فكان أن حدث في عهد حكومته فصم الوحدة الجمركيّة وتصفية المصالح المشتركة مع سوريّة، وقد سبق هذا ورافقه تهديدات سوريّة متنوعة صارت سُنّة في علاقة البلدين اللاحقة مع كلّ اختلاف يطرأ بين الحكومتين. وفي هذا جميعاً وقف الصلح «في وجه جانب كبير من الجمهور الطائفيّ» المؤيّد له. فهو كان، إذاً، زعامة وطنيّة، وبمعنى ما، إذا جاز التعبير، ثقافيّة، تلعب القراءة والكتابة والرأي والأصدقاء، لا سيّما في بيئة الصحافيّين، دوراً تكوينيّاً فيها. أمّا أسلوب الرجل في خطبه وأحاديثه ف «أسلوب حارّ، بعيد عن الموات الخشبيّ، ولكنّه خالٍ أيضاً من محسّنات الهياج والتهييج، ميّال، عوض ذلك، إلى الحِجاج أو الإغراء، ثم إلى ترك باب للخصم يدخل منه أو يخرج». وبمعنى ما، لم يكن صدفة أن يحاول الإسرائيليّون، قبل أن تستقرّ دولتهم على حال، قتل الصلح التسوويّ المتباهي بنموذج لبنان. لكنْ لم يكن صدفة، كذلك، أن يقضي اغتيالاً، لا على أيدي الإسرائيليّين، بل على يد السوريّين القوميّين الذين مثّلوا دائماً نقيض ما مثّل، فكان، بقياس زعيمهم أنطون سعادة، «هذا في وادٍ وذاك في واد». ويبدو أن مسؤوليّة الصلح في إعدام زعيم القوميّين كانت أقلّ من مسؤوليّة سواه، خصوصاً من بين السياسيّين المسيحيّين، إذ هو «لا يحبّ الإعدام»، على ما قال هو نفسه، وقد ظلّ ذاك الحدث الأسود «ثقيلاً جدّاً على ضميره». لكنّ الإيحاءات المعاكسة ربّما نجمت عن حزمه في أمر السيادة الوطنيّة، حيث كان القوميّون مخلب القطّ يستخدمه حاكم سوريّة العسكريّ حسني الزعيم، وقد يستخدمه حكّام عرب آخرون. فهو تشدّد سياسيّاً في قضيّة سعادة بعدما سبقها عدد من الانتهاكات السوريّة للحدود اللبنانيّة، كان أهمّها اغتيال جنود سوريّين كامل الحسين اليوسف داخل لبنان بحجّة أنّه «جاسوس». أمّا الشغب الذي أعقب اغتياله على أيدي عبّاد سعادة، وارتسام شبح فتنة مذهبيّة، فكان معناهما «أن رياض الصلح قد مات». وهذا جميعاً ما يفسّر سرّ جاذبيّة الأخير على أحمد بيضون، وهو سرّ توثّقه وتقطع فيه كلمات الكاتب نفسه، المتّهَم بالانجذاب إلى السياسيّ الراحل وباستحضاره إلى زمنه. * عملُ أحمد بيضون هذا، المعنوَن «رياض الصلح في زمنه»، لم يزل مخطوطة تنتظر النشر، وموقّع هذه الأسطر أحد الذين كان لهم امتياز الاطّلاع عليها. فيها لم يترك بيضون شاردة أو واردة في حياة الصلح، أو أقواله أو ما قيل فيه، إلاّ عاد إليها وضمّنها عمله، فيما تولّت لغته المضيئة التخفيف من وطأة الطول والكتابة الأكاديميّة. وهو اختار أن يستعيد «تقليداً شائعاً في الكتابة العربيّة» هو الجمع بين كتابين على كلّ واحدة من الصفحات، واحد أسماه «السياق» (س) أراده الخلفيّة الاقليميّة والدوليّة للرواية الصلحيّة، وآخر أعرض منه أسماه «الموضوع» (م) هو الرواية نفسها. وربّما لبّى هذا التقسيم رغبته في أن يأتي الكتاب «مثاراً للبهجة»، إلاّ أنّ موقّع هذه الأسطر لم يتزحزح عن انحيازه للنصّ الواحد، خصوصاً أنّ الخلفيّة («السياق») أوغلت أحياناً في تفاصيل يصعب وصلها بالرواية («الموضوع»). وهذا ربّما نتج من انئخاذ الكاتب بالكتابة نفسها مما يصاب به الكتّاب عادة. كذلك اعتذر بيضون «مع قدر من الأسف» عن الاستغناء عن الهوامش بسبب «الصيغة الآنفة الوصف». وعلى رغم وجاهة السبب تقنيّاً، فإن ذلك يحرم القارئ والدارس شيئاً ثميناً جدّاً، عسى أن يكون قابلاً للتفادي لدى النشر (إمّا بإدراج المراجع في آخر الكتاب، أو بالاقتصار في أسفل الصفحات على هوامش «الموضوع» دون هوامش «السياق»).