منذ الأيام الأولى لكارثة جدة أثارت التفسيرات التي ربطت الكارثة بمعاصي أهل جدة غضب كثير منا، وهو غضب في محله لما في تلك التفسيرات من استفزاز للمشاعر في وقت مصيبة حلت بنا وبأهل لنا. ولكن مع الغضب لا بد من وقفة هادئة مع تلك التفسيرات، والحوار مع من يؤمن بها، فالمسألة تقع في عمق الثقافة الدينية عالمياً وليس فقط إسلامياً، وبالتالي لا يمكن الاكتفاء بانتقادها أو الاستهزاء ممن يقول بها. وكما يحتاج من أصيب بالحدث العونين المعنوي والمادي، فإنهم يحتاجون إلى تفسير لما حصل، وبالتالي لا بد من التعامل مع البعد الثقافي للكارثة، خصوصاً من وجهة نظر المتضررين. والتفسير الذي سيتبناه المتضررون سيكون له أبعاد عميقة على رؤيتهم لأنفسهم وعلى رؤيتهم للعالم من حولهم، فمن سيرى أن الأمر فعلاً بسبب معاصي أهل جدة سيعتبر أنه كان ضحية هذه المعاصي بسبب سكوته، وبالتالي فقد يتولد لنا تطرف خطر. تطرف من يظن أن الله أخذه بجريرة غيره من أهل شمال جدة لما ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تطرف من سيحرص على ألا تحل عليه النقمة مرة ثانية مهما تطلب الأمر من عنف أو تشدد في الإنكار على العصاة في جدة، ومن سيرى أن الحدث إنما حصل بسبب فساد إداري سيحرص على ألا يستمر الفساد، ومن يرى أن الأمر حصيلة تداخل أسباب بشرية مع سوء حظ، فإنه سيحرص على التعامل مع الجانب البشري، مدركاً بأن هناك جوانب لا يمكن التعامل معها ولا بد من قبولها بوصفها جزءاً من ضريبة الوجود. والجدل حول ربط الكوارث الطبيعية بالله أو بالآلهة قديم وعالمي، وبين الأديان والحضارات كافة. وبالتالي فنحن نتعامل هنا مع حالة عامة غير خاصة، ومن الأهمية بمكان إدراك هذا البعد في هذا الموضوع. فالسائد بين الحضارات القديمة كافة تفسير الأحداث بأنها نتيجة صراع بين الآلهة أو لغضب إله من البشر لمخالفاتهم، يشترك في هذا الأقوام كافة من الدول الاسكندنافية، إلى المكسيك، إلى الصين، إلى الهند، إلى مصر، إلى العراق، إلى الروم، وإلى اليونان وغيرها من مناطق العالم. وفي المقابل كان هناك الرأي الذي يرى هذه الأحداث مستقلة عن أفعالنا. ففي حين كان أكثر الرومان يؤمنون بأن الإلهة تتدخل في شؤون الطبيعة كان الفيلسوف والسياسي الروماني سينيكا يقول: من المفيد أن نثق بأن مصائب الأرض ليست أعمال آلهة غاضبة، وأن هذه كلها مظاهر لها أسابها الخاصة. وقبله كان أفلاطون يؤمن بأن الأرض كانت ضحية سيول وكوارث قضت على حضارات، ولم يكن يفسر هذا بأي تفسير غيبي. وفي عام 2004 بعد «التسونامي» الذي ضرب شرق آسيا وقتل 226 ألف نسمة دعا الله أسقف مدينة لينكولن البريطانية بأن يحمينا من المتدينين الذين سيحاولون تفسير التسونامي، ووفق كلامه فإن تفسيراتهم مبنية على التنظير، وتنظير معاناة الغير فيه استهانة لمن يعاني. ثم يقول إن الإيمان بالله يمكننا من التعامل الإيجابي مع مثل هذه الكوارث، ولكن يجب ألا يكون إيماننا سبباً لأن نقحم التفسير الأخلاقي للحدث مع التفسير العلمي له. ثم يؤكد أن المؤمنين ينظرون إلى آفاق أبعد من حدود العلم والأخلاق العلمانية، آفاقٍ تتجاوز حدود الزمان والمكان بحيث يمكن لمفهوم الأزل أن يشكل زاوية من خلالها، قد ندرك معنى لأمر لا يستطيع العلم سوى تفسيره. ما كان يحذر منه الأسقف تحقق، فقد تسارع المتدينون من الأديان كافة لتفسير الكارثة تفسيراً أخلاقياً. فشبهها بعضهم بأنها مثل غرق قوم نوح، وأنها يجب أن تجعل الناس ترتعد في العالم أجمع، وذلك في سياق التأكيد على أن الله يشاهد أعمال الدعارة التي كانت تتم في تلك الجزر وهو ليس غافلاً عنها. وأنه يعامل الناس بالقسوة والحدة لكي يعرفوا معاصيهم. وأن تلك المناطق شهدت محبي وطالبي اللذة من العالم. بل وصل الحال إلى أن شمت رجل دين مسيحي في السويديين الذين خسروا ما يزيد على ثلاثة آلاف روح، وذلك لأنهم بزعمه من دولة ملعونة فاسقة تدعم الشذوذ، وهذا التحليل الذي يربط الكارثة بالدعارة هو نفسه ما تردد من كثير من مشايخ المسلمين.،وبعض بوذيي سيريلانكا استرجعوا قصة تسونامي حصلت قبل 2200 سنة بسبب قتل ملك من ملوكها كاهناً في لحظة غضب، ويرون أن ما حصل قد يكون بسبب الغضب من سياسييهم وحكامهم، وبعض الهندوس ربطوها بانتقام الإله بسبب اعتقال رمز من رموزهم، وكاهن يهودي اعتبر الكارثة تعبيراً عن غضب الله من العالم أجمع، وبذلك برأ الضحايا من تخصيصهم بالمعاصي، الأمر نفسه تكرر مع كارثة كاترينا، إذ نسب مجموعة من رجال الدين المسيحيين والمسلمين الحدث إلى انتقام الله من مجتمع متساهل في العلاقات الجنسية. أنا أعلم بأن نيات أصحاب هذه التفاسير حسنة، وأنهم يريدون بذلك إرجاع الناس إلى السلوك الأخلاقي المقبول وإلى طاعة الله تعالى، ولكن ربما علينا جميعاً التفكير في عواقب مثل هذه التحليلات. أول عاقبة هي ما أشرت إليه أولاً من التشدد، وقد وجدنا هذا في أعقاب التسونامي، إذ أخذ بعض المسلمين يتشدد في موضوع لبس المرأة واختلاطها، باعتبار أنها المصيبة من وراء هذا، وتكثف نشاط المحتسبين آنذاك وبشكل مستفز. عاقبة أخرى لهذا التفسير هي نظرة الضحية السلبية لنفسه، فمن قصص ما بعد «التسونامي» قصة طفلة مسيحية عمرها 12 سنة نجت وغرق أباها، فازت في جائزة تقديم أغنية، تتحدث الأغنية عن الموجة باعتبارها غضباً من الله، وتقول الطفلة إن أباها كان سيوافق على هذا، وقصة أخرى لرجل مسلم خسر زوجته وأطفاله ويؤمن بأن هذه عقوبة من الله، ويدعو للمحتسبين لئلا تأتي تسونامي أخرى، وفي «قويزة» قصص مشابهة، فكيف ستنظر الطفلة لنفسها ولأبيها؟ وكيف سينظر الرجل لأهله؟ ولعل أخطر ما يجب الالتفات إليه، هو أنه لكل من يؤمن من الضحايا أو من المتعاطفين معهم بأن هذا من الله، فهناك من يثير هذا شكه في أصل إيمانه بالله، ففي الماضي كان «الذوق» الأخلاقي يقبل فكرة أن يدمر الله مئات الآلاف من أجل مخالفات بسيطة، وكان الذوق يقبلها لأن الحياة السياسية ماضياً كانت تنشئ الناس على قبول مثل هذا من حكامهم. وبالتالي كان يُقبل من الله ملك الملوك، ولكن اليوم تغيرت نظرة الناس لما هو حكمة ورحمة، ولم يعد من الممكن أن تنظر إلى مثل هذه الأحداث على أنها تعبير عن حكمة إلهية. إننا نعيش اليوم في منظومة قيمية مختلفة جذرياً عن ما سبق، وبالتالي نحتاج إلى مراعاة هذا عندما ننسب أعمالاً إلى الله. في 1755 أصاب زلزال مدينة ليزبون البرتغالية وقضى على أكثر من 60 ألف نسمة، ولكنه أيضاً أصاب إيمان كثير من الأوروبيين الذين تغيرت منظومتهم الأخلاقية، ولم يكونوا قادرين على ربط الحدث بالله. قبل ذلك ب300 سنة قضى الطاعون الأسود على ربع سكان أوروبا كافة، بغير أن يهز أركان الإيمان، لأن المنظومة الأخلاقية آنذاك كانت تقبل تفسير الطاعون بأنه سخط من الله. ولا نحتاج لنذهب بعيداً لندرك التحول في تقويم الناس لتفسيراتنا لأعمال الله تعالى، لنستمع إلى الجدل بين الشباب والشابات حول هذا الموضوع لندرك أننا نبعد الناس عن الله أكثر مما نقربهم إليه، لما ننسب إليه أعمالاً نتنزه نحن عنها في تعاملاتنا مع بعضنا البعض، إن التفسيرات تلك فيها استقالة للعقل، وتنمية للتطرف، وتبسيط لحكمة الإله، وتسويغ للعنف المفرط بإزاء الأخطاء البسيطة. [email protected]