{ زهران القاسمي، شاعر وروائي عُماني غزير الإنتاج ومتنوع، متجدد في حضوره، يكتب وكأنه في صراع مع الوقت، يهب اللحظة روحه كلها، على علاقة حميمة ببيئته وكل شيء من حوله. شارك القاسمي في أمسيات عربية عدة، له بصمته ولغته الخاصة، ويعد أحد أهم الأصوات الشعرية العُمانية الشابة على الساحة من جيل التسعينات. تميز شعره بالمغامرة، شاعر لا يخشى شيئاً وهذا سر نجاحه الدائم. أصدر القاسمي عدداً من المجاميع الشعرية، وآخر ما صدر له ديوان شعري عنوانه «موسيقى».. «الحياة» التقته فحاورته حول الموسيقى والشعر والحياة. إلى نص الحوار: «وكلما التقيتك/ سأقطف لك روحي/ وردة حمراء»، ما الذي أبقيته للقاء المنتظر؟ - كل لقاء في الحقيقة هو لقاء أخير، أذهب إليه بكامل طاقتي وروحي لأبدد ما استجمعته له بحب من دون تأسف على شيء، هكذا تتماهى الروح مع الموعد، تنفلت من الزمن، تقف وقفتها الأخيرة التي تعني أيضاً وقفة البداية تماماً كعمر وردة حمراء ناضجة على وشك القطف، تماماً كموعد حب يأخذ من الحياة كل شيء، لذلك فاحتمالية أن يكون هناك لقاء منتظر آخر شبه معدوم للعاشق، لا يفكر في ما سيكون ولا يطلب إلا ذات اللحظة. في نص «مقام صبا» يستحيل الحب لديك وجعاً، ألا تمسح أوتار العود ثقل الحياة؟ - يحدث أن يطعنك مقطع موسيقي في القلب مثل سهم مصوب بإتقان، ويحدث أيضاً في هذا المقام المورق حزناً أن يسيل القلب وجعاً، يأخذ بالسامع إلى مغاور الذاكرة هناك حيث يتجلى الحب مثل شجرة شوكية توخز القلب، وإلا كيف لهذا المقام الرهيف بحزنه الشفاف أن يجعلنا نقف للحظة، لحظة صغيرة تأخذ كل شيء فيها، تصور معي كيف يعود المحارب من منتصف الطريق بعد أن خطط لحروبه ليفكر في السلام والحب وربما تتغير أحواله فيصير داعية أو موسيقياً، أو تصور معي لحظة انفجار الينبوع من قلب الحجارة بعد جفاف طويل، فقط لكون المحارب أصغى في طريقه إلى مقام الروح هذا مقام الوجع، فالصبا الذي حمل أيضاً اسم ريح الجنوب الجميلة، التي تغنى بها العشاق، والتي لا تخلو قصائد مجانين العشق العرب منها، كانت منذ القدم تحمل في لطافتها ذلك الحزن الشفيف وذلك الوجع الوجودي الباحث عن الروح الأخرى التي تعيش في مكان ما في هذا الكون، تلك الريح شقيقة مقام الروح الذي قطره الموسيقار الأبدي من الحكايات، لذا فالموسيقى المنبعثة من أوتار العود تعيد الحكايات ليس إلا، الآلة الموسيقية تتحدث عن مكان ما، تسرد الحكاية بطريقتها، تسافر النفس معها، تعيش وتحزن ثم تعود موجوعة بوجع سام لا تستشعر بعده أعباء الحياة، بل وكأنها وجدت السر الدفين الذي كانت تبحث عنه، فتقف مرة أخرى كخرافة كانت على وشك الموت ثم عادت إلى حياتها وطفولتها. «في البدء أنا، في الأبد أنت»، أنت تفك سر الحياة وديمومتها هنا، ما الذي تشكله المرأة في حياة القاسمي؟ - المرأة هي الموسيقى بكل تجلياتها، تخيل معي سيمفونية كبيرة ومعقدة تحتوي على أنواع مختلفة من الهارموني ومتقنة إلى أبعد حد وبها كل الآلات، موسيقى أخذتني طفلاً وأسمعتني حكايتها حرفاً حرفاً ونغمة نغمة، فهي كل العالم الجميل وكل الحياة، ما الذي يفعله الرجل بلا امرأة إلا أن يكون حيواناً شرساً متوحشاً وضارياً، ومن الذي أنسن الرجل وجعل منه هذا المخلوق سواها. في نص «عزف منفرد على البيانو» أنت تتوسل عودة الحبيبة كما يعود النحل لبيوته القديمة، أليس ثمة طريقة مبتكرة للإياب غير سلك الطرق الاعتيادية، هل تخاف الكشف الجديد؟ - نعم هنالك طرق كثيرة للعودة، ولكنني هنا أتصور التكرار الدائم للمقطوعة الموسيقية في ذلك العزف المنفرد، ليس خوفاً من أي كشف جديد بقدر ما هو إعادة للفعل وللصوت وللأمنية، إن كانت الحياة عبارة عن عزف طويل تتخلله آلات وأصوات بعضها يتكرر في السلم الرئيس، والبعض الآخر يمثل الخلفية المؤثثة والهامشية، فعزف منفرد صغير يتكرر كل حين يشبه في احتمالية عودته كما عودة خلية نحل هجرت بيتها منذ زمن وعادت إليه، وحتى الاحتمالية هنا ضعيفة جداً، خصوصاً أن النحل الذي يهجر بيوته من الصعب جداً أن يعود ثانية. يقول نيتشة: لولا الموسيقى لكانت الحياة غلطة، وأنت تقول: في الموسيقى.. يُحتمل الموت.. تُحتمل الحياة، إلى أي حد ممكن للموسيقى أن تعيد خلقنا بنظرك؟ - الموسيقى روح هذا الكون وديمومته، انظر حولك إلى الأشياء، كل شيء له صوته، لماذا معظم المخلوقات لها جهاز سمعي، وما فائدة أن تستمع لما حولها، صوت الريح وهدير البحر وزقزقات العصافير وبكاء الأطفال وغير ذلك من الأصوات، أليست هذه الحياة؟ هي مجموعة من التقاطعات الصوتية، نغمات تتداخل مع بعضها البعض لتكون مقطوعة موسيقية تسمى الحياة، ثم إن هنالك الفراغات المنسية، الصمت الغارق في هوة الكون المظلمة الصماء، الثقوب السوداء التي تسحب كل شيء ناحيتها حتى الأصوات والضواء، وهي تلك اللحظات الفاصلة بين نغمة ونغمة، ذلك الصمت الذي نتوقف عنده للضرورة لكي نبدأ من جديد، ففي الموسيقى يحتمل الموت في بعض المقاطع في قوتها وعنفوانها وهديرها وكأن دماراً يحدث يتشكل تسمع ما كان من المفترض أن تراه، تماماً كما تحتمل الحياة بكل تفاصيلها الدقيقة منذ النشء وحتى العنفوان، ولأنه لا ديمومة لأي شيء في هذا الكون ولأن الموسيقى هي صوته الذي يعبر عنه، فهي تحمل على عاتقها كل مكوناته بما فيها حياته وموته. هناك ثمة مقاطع موسيقية تشعرك بالحياة، تستمع إلى تفتح الزهور ومناغاة الأطفال، تسمع فيها الحركة والسكون، تملأ روحك بالشوق وصدرك بالهواء النقي، ترقص معها تستثيرك، وهناك أيضاً مقاطع موسيقية عكسها تماماً تمثل الموت والدمار والغياب والسكون اللانهائي. في نص «دوزنة الروح» تقول: «في الموسيقى.. يحتمل الحب.. تحتمل الكراهية» كيف لنقيضين أن يتعايشا في حزمة ضوء مصدرها واحد؟ - كما قلت سابقاً نحن من نحن عليه ونمثله بما نراه أو نسمعه أو نستشعره بحواسنا، ولكم علقت مقاطع موسيقية معينة في عقولنا لارتباطها الشديد بمواقف حدثت لنا كانت في ما مضى مليئة بالحب والجمال لذلك ترجمنا تلك الموسيقى إلى الحالة التي نحن فيها، وأيضاً نعيش لحظات من الكره والحقد والعذاب في وقت تمر فيه مقطوعة موسيقية ليست كلازمة ولكن من باب التقاطعات الزمنية، التي نترجمها لاحقاً إلى قطعة كراهية، أتذكر صديقاً لي منذ أيام المراهقة كان لا يستطيع سماع المقدمة الموسيقية لأغنية «أرفض المسافة» للفنان محمد عبده، لأنه كان ربطها بعلاقة انتهت معه بمأساة، كان بمجرد أن يستمع إلى تلك المقدمة تتوتر نفسه وتتشنج عضلات وجهه، ويهرع مباشرة لإسكات الأغنية، كان يقول أنا أكره هذه الأغنية، وقد تعني لآخر ذات الموسيقى بالحب والجمال وينتشي عند سماعها، وقد يكررها مرة وأخرى من دون ملل ولا كلل. يقول المفكر إدوارد سعيد: الموسيقى تعطيك المجال لتهرب من الحياة من ناحية وأن تفهم الحياة بشكل أعمق من ناحية أخرى، زهران القاسمي ماذا أعطته الموسيقى وكيف يتعاطاها في يومياته المعاشة؟ - تمنيت لو كنت موسيقياً، لو أستطيع العزف على آلة من الآلات، حاولت العزف على العود ولكن لا فائدة، هنالك ما يمنعني من الداخل أن أكون موسيقياً، ذلك العجز الذي لا مبرر له، لكن أعتقد بأن الشيء الوحيد الذي يمنحني مواصلة الحياة هي الموسيقى، كيف تكون الحياة من دونها، على رغم ما تعلمناه وسمعناه من تلقين ديني ممنهج لقتل الموسيقى لكنني قاومت ذلك، يحاول فقهاؤنا جاهدين لدمار الموسيقى من قلوبنا وهم يرتلون كتاب الله بكل أنواع المقامات العربية المعروفة، ما هذا التناقض؟ لقد استمعت إلى أحد المقرئين كيف يقرأ الفاتحة بكل المقامات وأعجبني هذا الوعي منه، ثم يجيء من يحرم علينا الموسيقى، هذا لا يعقل أن نعيش كل هذا التناقض في نفوسنا، الموسيقى لا تعني ضرب وتر على آلة بقدر ما تعني كل صوت نستمع إليه في هذا الكون، تلك الأصوات التي حاول الإنسان أن يعبر من خلالها عن كل حالاته النفسية الحياتية وحتى الدينية، كنت وما زلت أستمع كل يوم إلى الموسيقى، يكفي أن أمشي بسيارتي مستمعاً إلى إذاعة الموسيقى الكلاسيكية لكي ترى الحياة جيداً من دون لبس ولا زيف مصطنع، يكفي أن أستمع إلى عزف منفرد لناي أو حوار بين كمنجتين، لتدرك كم احتاج الإنسان من آلاف من السنين كي يخرج لنا مقطوعة موسيقية بهذا الجمال. «ناي على القمة/ وربابة بين الفجاج/ ذئبان يتبادلان العواء»، هكذا حوار مؤنسن يضج بالحنين كيف يفعل بالمكان وساكنيه؟ - يعيد تشكيل الأشياء، يرتب الحكاية مرة أخرى ويبدأ في سردها، نستمع إلى ذلك الحوار خاشعين وكأننا في قاعة أوبرا، نستمع إلى العواء أو إلى نعيق الغربان، كل تلك الأصوات بالإمكان أن تخرج من الآلات الموسيقية ويمكن أن نفهمها جيداً، ناي الرعاة يناغي الكائنات كما ربابة البدو، لذلك ما علينا إلا الإنصات لتبدأ الحياة من جديد في كل زهرة وفراشة وغمامة تعبر المكان وبشر ذاهبين إلى الحياة وعائدين منها كل ليلة وضحاها. «لا تشعلوا شموعاً في العتمة/ فالناي يدرك الدرب»، بوصلة كهذه كيف نصل إليها وسط هذا الخراب الذي يطيش بالكون؟ - فقط أن نصغي إلى ذواتنا من دون أن تتأثر بكل تلك الآيديولوجيات، أن نكون مثل الأطفال الذين ما إن يسمعون إيقاعاً إلا ويرقصون معه، أن نعود إلى فطرتنا التي وجدنا عليها، أن نهب أنفسنا مجالاً لتسمع صوت الحياة وصوت الكون بعيداً عن الأبواق التي تنادي بالموت والدمار والعذاب والغياب، حتى في الصمت لا بد لنا أن نصغي جيداً لتلك الكائنات غير المرئية ولا المسموعة، حتى نستشف ما تقول وما تصدر من موسيقى، فالموسيقى هي لغة الكون الواحدة والأبدية.