للفن والثقافة في مصر مذاق جميل ينساب كانسياب مياه النيل الوادعة، لقد كانت ليلة فنية جمعتنا بمبدع من مبدعي الوطن العربي، إنه الفنان العراقي الكبير: نصير شمة، ليست هذه هي المرة الأولى التي أحضر فيها حفلة فنية! ولكنها الأولى التي أحضرها لنصير شمة، وفي مصر تحديداً، ولمصر ونصير رمزيتان ثقافيتان في وجدان المتلقي العربي والعالمي، فمصر ليست أماً للثقافة والفن بل هي أمٌ للحياة وأم للدنيا تستوعب كل أجيال الثقافة والفن والفكر والإبداع من كل أقطار الوطن العربي الكبير، ومصر حضن رؤوم للطاقات الإبداعية الواعدة الناضجة، وتاريخ الأجيال الثقافية على مدى مئات من السنين خير دليل وشاهد. كانت الحفلة حفلة راقية، امتزجت فيها معالم الوجد والأرواح الإنسانية المحبة والعاشقة للجمال والعدل والسلام، وهي المعاني التي نغَّمها نصير شمَّة في معزوفاته وحفلته المعنونة باسم (ليلة العشق الإلهي)، في هذه الليلة أطفئت أضواء المسرح لتشتعل أضواء الروح، وأطفئت أضواء الكره لتشتعل أضواء الحب، وأطفئت أضواء الضجيج والصخب القاهري ليحل محلها صوت الطمأنينة والنغم الإنساني الجميل. عندما تستمع بكليتك لمعزوفات نصير شمة فإنك لن تكون متلقياً عادياً، بل ستكون متلقياً ثقافياً وإنسانياً راقياً، إنه يعطيك درساً ودروساً في مقطوعته (زيارة مقدّسة) وهي من مقام «رست» تجول خواطرك بكل الأماكن المقدّسة التي يحن المسلم لزيارتها والخضوع لله تعالى عند عتباتها، إن ترددات النغمات تفجّر كل إحساس بالمقدّس في نفسك وروحك، بل لربما ارتفعت (زيارة مقدّسة) لمستوى الرمز الذي يتلقاه كل إنسان بحسب طبيعته وثقافته الدينية والإنسانية، إن تردد النغمات والجمل الموسيقية يفجّر صورك الذهنية حول أماكنك التي فقدتها أيها المسلم، ولا تزال تفقدها، لا لأجل النعي والإحباط بل من أجل شد الهمة وعزيمة الرجال. في إحدى مقطوعاته كان يعزف بيد واحدة فقط، وهي اليد اليسرى على يد العود، كان يعزف ببراعة مذهلة.. سألت صديقي الذي بجانبي فقال إن لهذه اليد قصة وهي أن ل«نصير شمة» صديقاً قد فقد إحدى يديه في الحرب العراقية الإيرانية، فما كان من نصير إلا أن عمل هذه الطريقة في العزف بيد واحدة تآزراً مع صديقه.أما مقطوعته (قبلة على جبينها»وهي مهداة لكل أم») فقد كانت ذات وجد حزين ذكّرت كل الحاضرين برمزية الأم وحقيقتها في نفس الوقت، والأم سواء كانت وطناً أم أماً.. حقيقة هي تلك الثنائية التي يلعب عليها البعد الصوفي ومن خلاله ترتفع لأشياء كثيرة في الحياة تحمل رمزية الأم بوصفها أروع قيمة للسكن والحياة المتعبة، أما مقطوعة (زيارة لقبر الرسول) «صلى الله عليه وسلم»، ومقطوعات (دعاء) و(مصير واحد) و(زمن النهاوند) و(إشراق) و(إلا هي مالي سواك) فإنها تؤسس من خلال فن نصير شمة لعالم الموسيقى الإنسانية المتجردة من عوالم المادة والكذب والإرهاب، والباعثة للموسيقى المنسية التي أسسها الإنسان القديم والمرتبطة بفلسفة الكون والحياة وحب الإله سبحانه وتعالى. إن سماعك لنصير شمة يأخذ بيدك لنوع خاص من التلقي، هذا التلقي يعينك لتتكشف على بواطن النفس الإنسانية وخلجاتها.. إنك تكون في حضرة خاصة تتآلف فيها الأزمنة بل وتصير كأنها زمن واحد، ومنها تتساءل: كيف لهذا النوع من الفنون يعمل بك كل هذا؟ إنها الفلسفة يا سيدي الكريم التي أتقنها ومارسها الفنان، وتلاعب بأجوائها ورموزها بل ورمزيتها العالية، إن الحياة مليئة بالفنانين، لكنها تفتقر للمدركين لعوالم الإبداع الفنية والفلسفية، ونصير من هذا النوع القليل جداً، في إحدى مقطوعاته كان يعزف بيد واحدة فقط، وهي اليد اليسرى على يد العود، كان يعزف ببراعة مذهلة سألت صديقي الذي بجانبي فقال إن لهذه اليد قصة وهي أن لنصير شمة صديقاً قد فقد إحدى يديه في الحرب العراقية الإيرانية، فما كان من نصير إلا أن عمل هذه الطريقة في العزف بيد واحدة تآزراً مع صديقه، ليدلل بأن اليد الواحدة قد تعمل وتنجز ولا مجال للمستحيل في هذه الحياة ما دمنا ندرك رموزها وفلسفتها بإنسانيتنا المتسامحة الراقية. لم يكن نصير شمة هو الفنان الوحيد الذي يبدع ويتألق، بل كان معه ثمانية من الشباب الواعد الذين يعزفون معه على مختلف الآلات، وهم من تلاميذه الذين اكتشفهم ورعاهم ودرّبهم في (بيت العود العربي) وهو من أسسه وصار من خلاله يستقبل كل مبدع وهاوٍ للفن والموسيقى، لقد كان نصير يقدّم تلاميذه الفنانين بصورة رائعة أدهشتني وأبكتني – بكل صدق - لقد كان يذكر اسم كل واحد منهم، والآلة التي يتقنها، والمشاريع التي أنجزوها، والخطوات التأسيسية التي غدوا من خلالها مشاريع فنية عربية لن ترتبط بنصير شمة بل سترتبط بعالم الحرية والاستقلالية والفن الجميل، ولعمري فهذه أخلاق عالية نجدها عند فئة قليلة من الناس خاصة الفنانين الكبار الذين يأخذون بأيدي تلاميذهم ويفتحون لهم نوافذ الخبرة الفرح والانجاز. وختاماً.. فلا أملك إلا الشكر للصديق العزيز الدكتور عمر زيدان على دعوته لي لهذه الحضرة الإنسانية الرائعة. [email protected]