في النص حكاية قلق.. ذلك القلق الذي يولد مع الفرح والحب والحزن والحرمان والفقد والشتات والجوع الروحي فيتشكل الجسد الكبير للعمل الإبداعي الذي ينهض ويتحرك وتتسارع نبضات قلبه حينما تأتيه الموسيقى التي تفعل به كل شيء، تشوقه إلى الكون وتدرب روحه على اكتساح المناطق الأكثر دهشة في الحياة فتجلسه عند مقاعد الغيم وتنام به عند العشب الذي يتحلق حول المنعطفات الحياتية البالغة في التعقيد.. فيستمع إلى موسيقى تخبره بكل القصص وتسرد عليه كل ما لم يستطع أن يقوله في كلمة، تأتيه لتزيد من جوعه إلى الحياة لكنها تصحبه إلى القمة التي يبصرها من الداخل، حينما يحدث كل ذلك الانسجام وجميع ذلك الالتحام لتعصف الموجة الفاصلة بين الشعور الداخلي محمد الحرز: التأمل الخيط الذي يدلك على مختلف الإيقاعات المندسة في ثنايا الوجود والحياة الذي يولد مع موسيقى تأتي إليه بكل الأخبار دون ثرثرة وبين "شهوة" الكتابة الإبداعية التي تدس أصبعها في روحه لترمي بها عالياً حيث الخلق والتكوين.. تتناغم الموسيقى الراقية والخلاقة مع الروح لتعيد تشكيل كل الجسور التي بداخلها وارتباطها بالطقوس القديمة التي يعود فيها المبدع إلى نقطة العمق التي تخيفه لكنها أكثر وضوحا من قبل مع موسيقى لا تتردد أبدا في إيقاظ جميع الكلام الذي لم يقل بعد.. والإصغاء إلى تمتمات لم تكتب بعد، فيبكي حينما لا يوجد للبكاء مكان ويضحك بصوت مرتفع حينما يشاكسه وخز الخسارات ويتمدد عالياً لتنمو فوق ذراعيه "غيمة مطر" التي تغسل المنحدرات الشاهقة بالعمق. فأي قدرة للموسيقى على أن تتيح كل ذلك الاتساع لدى مبدع ليبدع أكثر؟ أي حنين هو يأتي ليشبع المتلقي أفقاً يلوح له بفكرة تنمو على شخوص ألحان تجر ثوبها الطويل حتى يحلم.. وهم الحالمون الذين لا يروضون.. هل يستدعي الكاتب الموسيقى لتحرضه وتدفعه إلى منطقة التحليق الإبداعي؟ أم أن للموسيقى حنيناً يشبه حنينه وصوتاً يشبه صوت حروفه فيتزامن الانصهار في الإبداع بينهما؟ أم أن الموسيقى توقظ الأسئلة التي تستريح لدى حكاية إبداع؟ الإيقاع المتصل بحركة الجسد يقول محمد الحرز - الناقد - إنه في مجتمع لم يتعود على سماع الموسيقى، ولم تكن في صميم تربيته الثقافية أو عاداته الاجتماعية، بل هي مطرودة من مجاله العام. المجتمع السعودي تربى على هذه القطيعة مع كل ثقافة موسيقية ترسخت في تربة الثقافة المعاصرة باعتبارها إحدى السمات الكبرى للحياة المعاصرة. في وضع كهذا كيف يمكن الحديث عن الموسيقى في علاقتها بالكتابة بشكل عام؟ على المستوى الشخصي لم تكن الموسيقى تعني شيئاً آخر سوى الإيقاع المتصل بحركة الجسد والتفكير في الحياة، ولم تكن تعني بتاتاً تربية الحواس غازي علي: من يتذوق الشعر والموسيقى يكتسحه الصوت الذي يمنحه الفكرة التي تصيغ النص وتكتب الجمال وتنميتها إبداعيا، أياً كان عليّ كشاعر أن أعوض فقدان الثقافة الموسيقية المعاصرة تحت تربية عليها من قبيل طقوس العزاء التي تقام سنوياً، وهي طقوس تأخذ شكل الإيقاعات المختلفة من جسدية وروحية، أو لفظية، وعادة ما تجري ضمن احتفالات جماعية، هذا التعويض لم يكن عملا واعيا بالدرجة الأولى، هو يتسلل إليك من بواطن الرغبة اللاواعية التي يحتاجها الفرد أثناء تفتحه على الكتابة الإبداعية. كنت أشعر بهذه الإيقاعات وهي تحتل مساحات شاسعة من الأسلوب البلاغي الذي بدأت تتفتح عليه تجربتي في الكتابة، ناهيك عن مكانة هذه الطقوس في ذهنية ممارسيها باعتبارها مقدسة، الأمر الذي يجعل منها الهاجس الأكبر الذي بدر كريم: الموسيقى تخاطب الأذن والكتابة تخاطب العين وكلاهما من الحواس الأساسية التي يحدث بهما الاتصال ينعكس بصورة أو بأخرى في أشكال التعبير الإبداعية، وكان الشعر هو أكثر أشكال التعبير الإبداعي بروزا، ولافتا للنظر، لكن الوعي بها كإيقاع لا يمكن التأكيد عليه هنا، لأن هذه الطقوس بإيقاعاتها الحركية تعتبر جزءاً من الهوية الاجتماعية والدينية، لا يمكن فصلها عن الذهن، وتأملها والتأثر بها باعتبارها مجرد إيقاع. لاحقا عندما تشكلت مفردات الوعي بالحياة ونضجت التجربة على مستوى الخبرة والذائقة، تكشفت أمامي علاقة هذه الإيقاعات بمفهوم الموسيقى بوصفها تراثا جماليا يؤثر على الإنسان في روحه وعقله من العمق، كان عنصر التأمل بالنسبة إليّ هو الخيط الرابط الذي يدلك على مختلف الإيقاعات المندسة في ثنايا الوجود والحياة، لذا لم أحفل ولم أهتم بما يسمى بالموسيقى المرتبطة باللغة سواء كان منها التراثية أو الحديثة. غازي علي كنت أرى ولا زلت أن الإنسان هو نتاج العلاقة الكبرى بين حركة الطبيعة من جهة وحركة الثقافة من جهة أخرى، وتأمل أثر هذا النتاج عليه هو إحدى الوظائف الكبرى التي يقوم بها المبدع في منجزه الكتابي، أما لو نظرنا إلى السياق الطويل من تاريخ الموسيقى والأثر الذي يمكن أن يتركه على المشهد الأدبي المحلي، فأعتقد أن هناك فجوة لم تردم بين هذا الفن وبين أشكال التعبير الإبداعية الأخرى كالشعر والرواية والقصة والمسرح، الفجوة التي صنعتها الثقافة التي تربينا عليها المنجز الإبداعي للآن لم يستطع أن يعالجها إبداعياً، والسبب في ظني يعود بالدرجة الأولى إلى أن مراحل تشكل الإبداع بتجاربه لم يدخل في تأثيراته الوعي بالموسيقى باعتبارها جزءاً من الطبيعة الإبداعية للثقافة المعاصرة، لذلك دائما ما نرى أن التجارب الإبداعية لا تستفيد من التقاليد الموسيقية في تكوين أسلوب إبداعي يستفيد من مختلف أشكال الإيقاعات سواء في النظرة إلى اللغة أو الحياة. شتيوي الغيثي: هناك مدرسة جديدة تلغي الحدود لتضعها في قالب واحد بما يسمى تداخل الأشكال الأدبية الغوص في العمق ويرى غازي علي - الموسيقار - بأن الموسيقى تشبه الشعر أو الرسم أو النحت فالملحن أو الموسيقار الذي يخرج موسيقى لابد أن تكون لديه ثقافة عامة تصبح حديث الناس ويرون تلك الثقافة في أعماله، فالموسيقى تدفع الكاتب إلى تلك الحالة التي تجعل منه يتأمل في أعماقه ويغوص في أعماقه فعلى سبيل المثال هناك من الرسامين من لا يستطيع أن يمسك بريشته إلا حينما يسمع الموسيقى، فالمبدع يلتقط الموسيقى الهادئة الراقية ولديه الحس الذي يمكنه من التقاط ذلك الجمال فيسترخي ويحلق في تلك الموسيقى، فالموسيقى نص يقرأ ويشعر ويسمع فحينما يؤلف الملحن مقطوعة موسيقية فإنه يبحث عن الجمال كالكاتب الذي يبحث عن الجمال في النص، فالموسيقى الكلاسيكية إذا لم يكن من يستمع إليها يمتلك الخيال الخصب الواسع والثقافة الكبيرة فإنه من الصعب أن تنعكس عليه أو يفهمها بعكس ذلك حينما يسمع أغنية شعبية فإنه يطرب لها. شتيوي الغيثي فأهم الموسيقى الكلاسيكية المؤثرة لديه موسيقى تسمى بالترجمة العربية "حلاق إشبيليا" للموسيقار الإيطالي روسيني فمثل تلك المقطوعة رائعة إلى حد التحليق لمن يستمع لها، فمن لديها القدرة على التذوق الشعري والموسيقي فإن الموسيقى تعطيه الخيال لكيف يصنع شعراً، فهناك أصوات في الموسيقى تكتسحك بشكل كبير وترتقي بك وتشعرك بالجمال كصوت فيروز الذي يأخذك إلى العالم الممتد الذي قد يمنحك فكرة وعلى ضوئها من الممكن أن تصيغ النص أو تكتب عملاً إبداعياً. فالموسيقى التي تمنحنا ذلك الشعور بالتحليق أو الفرح أو الطيش أو الإرباك هي نتاج أخير لحالة الملحن النفسية التي خلق تلك الموسيقى فهناك مقطوعات كلاسيكية فيها الكثير من الفرح والتعبير عن الحياة العامة أو الحزن، فاللجوء إلى الاستماع للموسيقى والقراءة تباغته في كل وقت فالموسيقى الرائعة تشعر المبدع بالغيرة لأن يبدع كإبداع تلك الموسيقى المختلفة. محمد المزيني: الذي لا يزور الموسيقى يلتصق بالأرض فلا يستطيع أن يتحرك في فضاءات أخرى اللغة التي تسمع ولا يفهم بدر بن أحمد كريم - العضو السابق في مجلس الشورى والإعلامي - الموسيقى على أنها آلات تعزف، بل لغة تسمع، تجدها في كل ما حولك في الحياة في: حفيف الأشجار، في تدفق الأنهار، في بيت من الشعر، وفي حكمة وفي مثل وتسمعها في بكاء طفل وحنين أم وتربية أب وفي الشروق والغروب والغسق وأحلى الموسيقى تلك التي تصدر من صوت مبدع، يشنف الآذان ويغذي الوجدان ويبعث الدفء والحنان ويصعب الفصل عملياً بين الثلاثي: الموسيقى والأدب والكتابة، فالموسيقى تخاطب الأذن والكتابة تخاطب العين وكلاهما من الحواس الأساسية للإنسان والتأثر يحدث جراء الاتصال، أنت ترسل رسالة (موسيقى مثلاً) فتتسلل إلى الأذن لتحدث استجابة (رد فعل) وهذا يتوقف تأثيره على المساحة كم أخذت الموسيقى من ذبذبات الأذن حتى تكون ذات تأثير إما سلبي وإما إيجابي، فالتأثير عادة ليس شرطاً أن يكون إيجابياً، بل يكون أيضاً سلبياً والدراسات الإعلامية تثبت ذلك. فالكاتب يستدعيه ساعة الإلهام أي أن الإلهام يسبق الإبداع ولولاه لما كان الإبداع أما إذا خلا الزمن من ساعة الإلهام فليس بوسع المبدع أن يبدع وهناك أسباب لانبثاق الرغبة في الإبداع وترسيخها وتهيئة مناخ تزدهر فيه ويتوافر غالباً في حالة صفاء ذهني واسترخاء جسدي والمعضلة التي تشغلني بالقلق، أن الإنتاج الرخيص أصبح اليوم "أكل عيش" و"عملية استرزاق" تحت مسمى الإبداع، وما هكذا يكون الإبداع أي ليس مجالاً للتكسب على حساب القيم والكرامة وعزة النفس، فنشعر بالكثير من الإحباط حين نرى متسلقين يتقدمون الصفوف تحت وهم الإبداع وهم خالين الوفاض منه والقلق الكبير حينما نرى المبدعين الفعليين في آخر الصفوف. لا يستدعي الكاتب الموسيقى لتحرضه بمعنى التحريض، بل يستدعيها لتبعث فيه ما يجب أن يكون عليه الإبداع وبه تستطيع أن تجتاز السدود والقيود وتنطلق إلى آفاق لا يمكن التخلي عنها. تداخل الأشكال الفنية أما شتيوي الغيثي - الكاتب - فيرى أن الرؤية التعبيرية الجمالية بمفهومها العام هي المحور التي تدور حولها الأشكال الفنية التي ذكرت من موسيقى أو أدب أو كتابة، وإذا ما حاولنا النظر في المضمون فإنه كثيرا ما استعارت هذه الأشكال تعبيرات الأخرى ومضامينها المعرفية والثقافية والتعبيرية لذلك فإن الحدود ليست فاصلة بهذا الشكل الذي يظنه البعض من حدية خالصة بين شكل تعبيري وآخر بل إن هناك مدرسة جديدة تلغي هذه الحدود لتضعها في قالب واحد بما يسمى بتداخل الأشكال الأدبية، وربما الفنية إذا ما وسعنا الدائرة. أما عن مسألة التحريض فإنه من الصعب أن نبرز محرضاً فنياً على محرض للتداخل الرؤية التي ذكرت، بل إنه حتى على مستوى التلقي يصعب ذلك الفرز الحدي بين تسارع تأثير على آخر. الآن تميع تلك الحدود حتى على مستوى تأثيرها في المتلقي، ويظهر ذلك من خلال استخدام الموسيقى من أجل الشعر واستخدام الشعر من أجل الموسيقى أو حتى مستوى الصورة الفنية الفوتغرافية أو السينمائية، إذ كثيراً ما أخذت الأشكال الفنية من الأدبية والعكس أيضا. وعن تحريض الموسيقى للكاتب فذلك يعود إلى الكاتب أو الأديب نفسه وطقوسه الكتابية فالبعض يضع اعتباراً كبيراً لمثل هذه الأشياء أثناء الكتابة في حين تقل عند آخرين لكن بالتأكيد أن هناك حالة تأثر واستحضار دائم حتى خارج حالة الكتابة خاصة في جانب الكتابة الأدبية ذات التعبير الشعري كون الرؤية الجمالية أو التعبيرية واحدة تتمظهر بأشكال مختلفة وليس هناك غنى عن استحضارها جميعاً سواء بشكل جمعي أو بشكل متفرق. المخيلة الإبداعية والموسيقى لدى محمد المزيني - الكاتب الروائي - نوع من أنواع الإبداع فلا حياة للنص بلا موسيقى ولا موسيقى بلا نص، فالخيال هو المرتكز الموحد بين هذه الفنون الإبداعية فالكاتب المبدع المحلق بخياله يعيش في عمق الموسيقى فتلك حقيقة، فالمبدعون يتحدثون ويكتبون دائما بلغة الموسيقى في داخل النص فكما يوجد بداخل الموسيقى نوته موسيقية - أيضا - هناك نوته نصية موسيقية موجودة داخل النصوص الإبداعية سواء كانت شعرا أم نثرا، فالذي لا يستمع للموسيقى يكون ملتصقاً بالأرض بشكل سلبي فلا يستطيع أن يتحرك في فضاءات أخرى يستكشف أبعاداً ربما لم يستكشفها آخرون من قبله، ولذلك الموسيقى هي القادرة على تخليص المخيلة الإبداعية، فلا نتحدث عن الموسيقى بشكلها النهائي بل نتحدث عن الموسيقى بشكلها الطبيعي فهي موجودة في الحياة اليومية والإيقاع النصي والشعر والنثر وحتى في حالات الاسترخاء حتى إن لم نكن نستمع إلى موسيقى بعينها ولكننا نستمع بالداخل إلى معزوفات موسيقية ربما من وعينا الباطن فهذه الموسيقى لا يمكن لأي فنان أو مبدع أن يبتعد عنها وإلا حلت بروحه قمة الجفاف وربما تحول إلى إنسان أكثر شراسة، فالموسيقى تتواءم مع الكون وليس الإنسان فقط، فالأشجار والطيور هي تحلق في فضاءات موسيقية وتغرد مع الموسيقى الكونية الخلاقة التي استودعها - الله تعالى - في أقصى الكائنات وهي الطبيعة بكل ما فيها عبارة عن نوتة موسيقية خلقها الله - سبحانه - لتنعم علينا بوحيها كمبدعين وتلك هي الأهمية التكاملية. حتى الذين يرفضون الموسيقى فهناك دون أن يشعروا ينجذبون إلى موسيقى داخلية ويتعايشون مع محالات موسيقية لا يستطيعون الابتعاد عنها لأن هذه الروح أوجدها الخالق لتصبو إلى النوتة الربانية التي أوجدها في الكائنات والأشياء، فالموسيقى صورة من تلك الصور ولكن هناك موسيقى أوسع وأشمل وهي الموسيقى التي تأتي من الإيقاع الحياتي اليومي، فالفنان الذي صنع تلك النوتة الموسيقية بشكلها النهائي، فلا يمكن أن ندعي - أبدا - بأننا خارج نطاق الموسيقى مهما قلنا ذلك. الخروج عن الطور الطبيعي فالحالات التي يمر بها المستمع للموسيقى هي التي تشكل الوعي الموسيقي خاصة الموسيقى التي تخرجنا عن الطور الطبيعي فالصخب ليست الموسيقى التي نتحدث عنها وإنما تلك التي تستقر في الوجدان فتتشكل بسلوك معين لدى المتلقي فربما أستمع للموسيقى العالمية ولكني وفقاً لحالتي النفسية أنجذب لتلك الموسيقى سواء كانت حالة الفرح أو الحزن أو الكراهية فالإيقاع الحياتي الموسيقي الذي ربما يكون سلبياً - أحيانا - فحينما نستمع للموسيقى تستدعي لدينا ما نعيشه، فالتجاذب مع الموسيقى هي محصلة نفسية والاستعداد النفسي هو ما يشكل ردود أفعالنا تجاه ما نسمعه من موسيقى، فالبعض يستمع إلى خرير الماء بضجر أو يستمع لصوت فيروز بشئ من الحزن، بينما يشعر البعض حينما يسمعها بالفرح وهكذا فالموسيقى ليست منفصلة عن الحالات النفسية الموجودة، فالنص مطبوع بداخل الكاتب وربما استماعه لموسيقى معينة تسهم في تشكيل طبيعة هذا النص.