لو نخفف من الغضب قليلاً. ومن الجزع. لا لأن أوضاعنا، كيفما جرى تعريفنا، بريئة من كل سوء، ولا لأنها توافق ما نرضى. ولكن لأن الغضب والجزع أمسيا عائقين دون التفاعل النفسي والفكري السوي مع الواقع. لجيلين منا تقريباً، استقر الجزع من المستقبل والغضب من الحاضر قالبين ذهنيين لا يستقبلان من الوقائع غير ما ينتظم فيهما بسلاسة ويصون استقرارهما، ويستبسلان لتأويل أو إغفال ما لا ينتظم ضمن خانة السيء والفاسد والمتدهور. هذا حتى لو لم نشتبه أن جانباً من انفعالاتنا السلبية هذه لا يرجع بأصله إلى سوء الواقع وحده، بل إلى تعثر أو إحباط ارادت نخب سياسية وثقافية تشكيله وفق صور ذهنية تخصها، وتضمن لها مواقع نافذة في تعريفه وقيادته. نتصرف كالطفل المدلل الذي يعيش ملكاً في عالم رغباته. فإن خذل الواقع رغباتنا، ضربنا الأرض بأقدامنا غضباً، فإن لم يستجب شتمناه و... بكينا. نبدأ بالغضب والهياج. مع الزمن يخمد الهياج ويؤول الغضب إلى عادة، فيكف عن كونه انفعالاً حياً. يغدو طقساً وشعاراً، يقول الكثير عن محترفيه والقليل عن الواقع. وإذ هو منتشر وعام، يمسي ثقافة. ثقافتنا اليوم غاضبة، مريضة بالغضب، متسممة به، إلى درجة أن التمرد عليها وحده هو ما قد يتيح للمرء الحفاظ على صحته وصفاء مزاجه و...قدرته على الغضب. هذا لأن الغضب الذي يتحقق في عادة وثقافة، الذي يصير تقليداً مستقراً، يزول كانفعال حار جديد، ككسر حاد للعادة وانفلات من ضوابط الثقافة. الثقافة الغاضبة تقرر أنها على حق طوال الوقت، أي أن الحق جوهرها، فلا تكاد تغضب لحق يُنتهك، لأنها تسلم بأنه مُنتهك دوماً. وسوف تحتاج إلى انتهاك الحق كي تدوم، وإلى سوء الواقع كي تستمر. ينتهي الغضب على هذا النحو إلى تذمر واكتئاب وشكوى من العالم. إلى نكد وتطلب للنكد. وإلى ثقل دم وبلادة يمنعان السخرية. الغاضب ملتصق بنفسه، متواطئ معها ضد الواقع. السخرية تنبثق من التواطؤ مع الواقع ضد النفس. لكن الواقع سيّء فعلاً. الإجماع دليل على الصواب هنا. إذا قال القوميون والإسلاميون والشيوعيون والليبراليون والعلمانيون، والسلطات نفسها، إن الواقع سيّء، فالأكيد أنه سيّء. لكن هناك واحدة من صيغتين ممكنتين للتعامل مع السيّء. صيغة منكودة، تتمثل في أن ندخل رؤوسنا في الواقع السيّء، فنختنق، فنغضب، فنتسمم بالغضب، فندمن «النق» والنكد والتنكيد، وما تنتهي إليه هذه الانفعالات من فتور نفسي وذهني وتبلّد للحساسية وعجز عن التفاعل حتى مع غير السيّء أو مع درجات السوء المتفاوتة. هذه صيغة جبانة ومتخاذلة. ونفترض أن هناك صيغة شجاعة، تتمثل في أن «نخرج رؤوسنا من الواقع لا أن نخرج الواقع من رؤوسنا»، بحسب قول ألماني مشهور من القرن 19؛ أو لنقل أن نقبل الواقع ونصبر عليه وننضبط به ونحترمه ونحاول التعرف الى «أسراره» و «قوانينه»، ونصارعه معه و... نعمل على تغييره. هذه صيغة ملحمية، بل مأسوية. سوء الواقع يمكن أن يكون «لحظة» في تطوير حس ووعي مأسويين بالواقع، من شأنهما أن يثمرا إنسانية أغنى وثقافة أرفع. عبر التمرس بثقل الواقع وممانعته، وعبر احترامه والتعلم من «حكمته»، يغتني تفكيرنا ووجداننا. الواقع حكيم. ألا يخطر ببالنا أحياناً أن من حسن الحظ أنه لا يساير أفكارنا ورغباتنا، وأنه لو فعل لكان كارثة علينا قبل غيرنا؟ الثقافة هي اختبار هذا الواقع، تعلم حكمته أو تقريب عقلنا الذاتي من عقله الموضوعي. في ثقافتنا المعاصرة احتقار طائش للواقع. ليس رفضاً سياسياً وأخلاقياً له فقط، بل وإنكار لجدارته بالمعرفة. الوقائع محرومة من المواطنة المعرفية، مجردة من شخصيتها ومن حقها في إبداء الرأي وما قد يؤدي إليه من تعديل في تصوراتنا. حالها في مملكة المعرفة مثل حالنا في ممالك السياسة: لسنا مواطنين، لا رأي لنا. هل من المحتمل أن تتعدل سياستنا ويعترف بنا كمواطنين من دون أن يتعدل دستور معرفتنا ونعترف بأن الوقائع «مواطنون لا رعايا»؟. الواقع صلب. الوقائع عنيدة، كما يقول الانكليز. اختبار الصلابة تلك والعناد هذا غريبان علينا. انتقلنا من مجتمع ما قبل حداثي يعيش في عوالمه الذهنية الموروثة وتقاليده القارة، إلى عالم حداثي منشغل كثيراً بتغيير الواقع، ولعلنا نلج اليوم عالماً ما بعد حداثي يحتفي ب «السرديات» أكثر من التاريخ، ويجعل الواقع «بناء اجتماعياً» ويغرقه في النسبية، فينصب حواجز دون اختبار صلابته وممانعته. اختبار الصلابة هذا، «القدر» بالمفهوم اليوناني، هو أساس الحس المأسوي. يغلب الميلودرامي في ثقافتنا لأننا نفترض الواقع صلصالاً قابلاً لكل صورة، وننسب الصلابة لأفكارنا وتطلعاتنا؛ حتى إذا تكشف الواقع قاسياً واصطدمت أفكارنا وإرادتنا به ننفعل ونغضب، ثم نكتئب ونتذمر، ثم نرضخ ونستكين. هذا مسلك خفيف، ميلودرامي، ومتخاذل. يلزم أن نكون أكثر «قدرية»، أكثر احتراماً للواقع، وأكثر سخرية من أنفسنا. هذا موقف محافظ عرضياً لكنه تغييري في العمق. تنويعة المواقف المتاحة اليوم بالعكس تغييرية عرضياً لكنها محافظة جوهرياً، وشرسة في محافظتها. فإذ هي ترفض الواقع رفضاً ذاتياً، وإذ تغضب وترفس بقدميها لأنه لا يتغير (بدل أن تغير شيئاً من نفسها)، فإنها تضيق مساحتها النفسية وقدرتها على التفاعل النفسي والعقلي مع الواقع، تكره ذاتها وتنمي في ذاتها روحاً عدائية عنيفة لكل ما حولها. ومن حيث هي ترفض الواقع السيء تنتهي إلى أن تشبهه تماماً. لماذا احترام الواقع تغييري جوهرياً؟ لأنه أساس الحس المأسوي والساخر معاً، أي الإنسان الذي يصارع واقعاً يحترمه، فإما يخسر فيرتفع إنسانياً وثقافياً، أو يكسب فيحقق طفرة اجتماعية وسياسية. هذا فوق أن الصبر على الواقع واحترامه هو ما يتيح التعرف اليه في كليته، في تعدد أبعاده وتفاوت أزمنته وأعماقه. التغيير هنا أصعب، لكنه إن تحقق يكون أوسع وأكثر جذرية. نبدأ من احترام الواقع السيء (أي من تغيير أنفسنا) وننتهي إلى تغييره. تعمدنا استخدام مفردات صادمة: «قدرية»، «احترام الواقع». هذا من باب التركيز على وجه من وجوه الصراع مع الواقع، قبوله والتوقف أمامه والانحناء له وعليه، واستخفافاً بالرفض الذاتي والبراني له. أن يهزمنا واقع لا نحترمه، يعني أننا غير جديرين بالاحترام. أما أن نحترم واقعاً عنيداً صعباً، فهذا ما قد يكسبنا شيئاً من صفاته، الصبر والعناد وصعوبة المراس. ينفتح هذا النقاش على الجدلية، ولطالما كانت مأسوية وساخرة.