تتوارى شمس الخريف في جازان على همسات نسمةٍ هادئةٍ تأتي من جنوب الغرب، تستنسخ على أطراف أودية "خلب" و"صبيا" و"عتود" صورةَ الهدوء في سهول أفريقيا وانقطاعه على صخب طلقات الحرب، وعند التقاء السماء والأرض في الأفق، تستودع الشمس بحزنٍ أهل جازان إلى سكون الليل بصبغ السماء بدموية الأحمر القاني، وتتركهم إلى مشاهدة غبار الجيوش، وسماع زئير الطائرات في الظلام. مع نداء المؤذن إلى صلاة المغرب، تبدأ محاولات إشعال مولدات الكهرباء في الأودية والقرى، لتنطلق معزوفة البحث عن الضوء الأصفر وسماع نشرة الأخبار في عتمة ليالي آخر الشهر، وبعيداً في الأعلى وعند أطراف المجرة الكونية، تلتقي أعين أهل الأرض باصطفاف النجوم بيضاء ساكنة، والكل يشاهد ويسمع المعركة. وبين النجوم في السماء والأعين الحائرة على الأرض، تنتشر إشاعات الحرب وتُنفى، وتغدو الطائرات وتروح مضيئة أنوار إضاءتها الصغيرة كالنجوم، حمراءَ وخضراءَ على أجنحة تحلق وتدير الرؤوس كلما دارت. لا مقياس يحكم استخدام الألوان في الحرب، فالحرب خدعة، ولكن عند رؤية اللون الأحمر تستبشر الأعين خيراً بأن صقراً هوى بضربته على التمرد. يجلس الناس في مراكز الإيواء ويتخيلون حال بيوتهم كيف صارت بعد أن سُميت بالمنطقة المحظورة، وربما تذكروا ليالي السمر في ليلة اكتمال البدر، ولكن لياليهم الآن تختلف، فلا قمر يؤنس المجلس، وأحاديث الحرب لا تستفز السمّار للحديث، وفي أعالي الجبال تنير القنابل الضوئية لتكشف المكان عن سراة الغدر وحطب التطرف. بالنسبة للسعودية، العبارة واضحة، من تعدى على شبرٍ من أراضيها فليس له إلا الموت نهاراً أو ليلاً، واستعداد الجيش في الأرض والسماء لا يعرف الفرق بين محسنات النحو اللغوي واختلافات ظروف المكان والزمان، فالتدريبات أخذت الطيارين إلى طلعاتٍ اعتادتها آذان سكان القواعد الجوية السعودية عند كل حين، ومشاريع الجيش جربت صقيع برد الشمال وحرارة صيف الشرق. تمتلئ الأنفس إيماناً بصعوبة الموقف تغذيه تجربة الصبر، وولاء للراية الخضراء، لن يخدعه بائعو الوهم ومشعلو الفتنة وموقدو نار الحرب، ومع تعفر الوجوه عند سجود القيام، تبتل الدعوة بدموع الابتهال للجيوش بالنصر وللشهداء بالأجر وللناس بمزيدٍ من الصبر. ينام الصغار وقد تعبت أعينهم من اللعب، وملّت أقدامهم من حمل أجسادهم المرهقة، يتعلقون بحبال الخيام، ويرسمون الضحكة فرحاً في وسط هموم الكبار وزحمة النزوح، وحين يتقلب الكبار على مفارش النوم، لا يجدون إلا انتظار الصبح وسيلةً لنسيان الحدث وتفاصيله. يؤذن المؤذن لصلاة الفجر مختتماً ليلةً طويلةً أخرى، وعندها تنام "مواطير" الكهرباء، وتهب نسمة الغرب من جديد لتحمل رائحة الأمل، فيما تستيقظ الشمس لتطمئن على حال أهل جازان وما فعل الليل بهم في غياب القمر وعتمة الظلام.