شجرة العائلة زرع جدي الأول حجراً في منتصف الوادي ظلت السماء تسقيه عاماً بعد عام حتى تفرَّعَ جدراناً كثيرة غرفا وعلياتٍ نَمَتْ له على الأطراف أسنانٌ تُقِلُّ الصاعدين إلى الأعلى وتوزعتْ في سقوفه (قُتَرٌ) مفتوحة على النجوم ليتصاعد الدعاء في يسر وسهولة... أزهرتُ على غصن من أغصانه اقتطفني أبي قبل الأوان وضعني في حضن أمي وقال لها: هذه بشارتك... كانت تدرك بغريزتها الأمومية أن البشارة ناقصة ولا تستحق كل هذه الحفاوة. (سنيهيوت) صورةً بعد صورة أتحول تدريجياً إلى أمير جميل ينتظر المصادفة التي ستقوده في يوم من الأيام إلى صوتها... فتاة بيضاء كالثلج تغني قرب البئر. يوماً بعد يوم صرت أبحث عن الأبنوس في قريتنا لكي أعرف لون شعرها أحدق كثيراً في وجوه الفتيات لعل واحدة منهن تزرع وردة حمراء على فمها... أنا الكوخ المهمل في تلك الأيام أعاد أبي ترتيبه من دون قصد وزع فيه الكثير من الشموع علق على أحد جدرانه مرآة مسحورة لا تكذب أبداً ووضع بداخله فتاة تدعى سنو وايت... نعم كان أبى يخطئ حين يعيد اسمها صفحة بعد صفحة (سنيهيوت) لكنه أجمل خطأ ارتكبه في حياته. الأغاني يهطل المطر بقسوة في الخارج نسمعه وهو يضرب السقف الخشبي نخافه ونقترب من بعضنا البعض أكثر فأكثر... «إنه ودود ولا يقصد الأذية» تقول أمي وهي توزع القدور والصحون في أنحاء الغرفة تطارد بفانوسها قطرات الماء تضع تحت كل قطرة إناء وتهمس في آذاننا: استمعوا جيداً... يتصاعد النشيد والغناء نغفو على صوت الموسيقى وهو ينتشر في أطراف البيت... نصحو على أمي وهي تجمع الأواني تصب سهرة البارحة في سطل وتخرج إلى الفناء نتبعها كمن يتبع قائد فرقة موسيقية وهي توزع الماء على الأحواض بالتساوي لم تكن الأشجار في حاجة للشرب بعد ليلة طويلة ماطرة لكن أمي كانت تريد أن تسقيها شيئاً آخر: الأغاني. سُقيا لا بد أن نراه... لذلك يشف كأسه (عقال المقصب) عن لونه عكس القهوة التي تحتفظ بلونها داخل فنجان لا يبوح بأسرارها. أشربه خفيفاً وشفافاً ويشربه جارنا المسن ثقيلاً مائلاً إلى السواد أشربه في حضرة الضيوف ولا أكف عنه حتى ينهرني أبي يشربه في كل مكان إذ لم يعد له أب لينهره... سأرمي لعين الشمس أسناني اللبنية البيضاء وستهبني أسناناً تليق به سأصعد على درجاته من الأحمر الشفاف إلى الأحمر القاني سيكون لي يوماً ما وجه مثل وجه جارنا يتصعد فيه الشاي كلما وصلتُ إلى درجة الغليان. الصاغي ترك لي اسمه ورحل سريعاً، قبل أن أتمكن من سؤاله: لماذا بنيتم بيوتكم الحجرية في أعالي الجبال... لماذا هي متلاصقة وخائفة إلى هذا الحد؟ مع ذلك أعرف ما كان سيفعله جيداً... سيمسك براحة يدي ثم يقول: كما خلق الله أصابعك لم تتجاور لأنها خائفة ولكن لأنها تحب بعضها بعضاً. هنا كل الطرقات تؤدي إلى الأعلى إلى أعلى البيت إلى أعلى الشجرة إلى أعلى الجبل إلى أعلى الغمام... وكل الأنظار تتجه إلى منطقة غامضة في السماء لذلك لم يكن من الصعب أن يتعثر الناس في أبسط الأشياء ويقعون أرضاً. جاهلية تصحو على إيقاع وتغفو على حداء يرقص الرجال إلى جوار النساء تنبعث هالات من الضوء كلما احتك كتف بكتف وتعرقت يد في يد... أسأل جدتي: هل حدث ذلك بالفعل؟ تغمض عينيها بأسف وكأنها تعتذر: نعم حدث، ولكن في الجاهلية... دخلتْ قريتي في الإسلام قبل أن أولد بقليل. شجرة التين أرسم قلباً ثم أصوب سهما يخترقه من الوسط أكتب أول حرفين من اسمها واسمي على جانبيه... «يوماً ما ستكبر وستنسى أنك مشيت خلفها...» تقول الشجرة التي أحست ببعض الوخز في جذعها المتين ونزت قليلاً من حليبها... لم أصدقها لأنني كنت مجرد عصفور صغير جائع يبحث عن منقار يدس في فمه حبة قمح.