سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصندوق الاسود مدرسة مشروفة وطريب
نشر في الرأي يوم 26 - 03 - 2011


من الصندوق الأسود
مدرسة مشروفة وطريب المتوسطة
كان افتتاح مدرسة مشروفة كثاني مدرسة ابتدائية بطريب حدث مهم وكان اسمها حينذاك مدرسة مشروفة الابتدائية المحدثة بطريب ، وبعد ذلك تم تغيير اسمها إلى مدرسة عبدالله بن رواحة. أما مقرها عند افتتاحها ولعدة سنوات لاحقة فهو منزل قديم للشيخ عبدالرحمن بن محمد بن كدم وهو بيت من الطين مكون من أربعة طوابق شبه مخروطي الشكل مما جعل غُرفه السُفلى أكثر مساحة من الغرف العلوية ، درج السلم شديد الالتواء والانحدار وكان مكتب المدير في الدور الأرضي على يسار الداخل من الباب الرئيس وقد يكون ذلك المكتب في السابق مبيتا للبقرة التي كانت تشكل أهمية كبيرة للفلاحين والمزارعين ، بينما إخواننا البادية يكرهون حتى مجرد اسمها بل ويستعيبون تربيتها وأهم مآخذهم أن لسانها يصل إلى خياشيمها وتستخدمه في تنظيف وعاء طعامها ، وتتذوق حليب ضرعها أحيانا !! ويسمون حليبها لبن الثور!!. (وقد تم هدم هذا البيت التاريخي كما حدث لبيتنا بدون مبرر مع الأسف!!).
إضغط على الصورة لمشاهدة الحجم الكامل
الفصول الدراسية كان عددها (اثنان) فقط هما الصف الأول للمستجدين والصف الثالث للمنقولين من مدرسة حنين وكان الطاقم التعليمي لايتجاوز (أربعة) أشخاص وهم : مدير المدرسة المعلم ابو نبيل (سوري) والمعلمين الآخرين هم محمد علي محمود العبدالله من قرية عنبتا بفلسطين المحتلة ، إضافة إلى معلم جديد منقول من مدرسة المضة واسمه محمد علي السلامين فلسطيني الجنسية وكان متخصصا في الرياضيات ، ثم التحق بهم معلم آخر فلسطيني أيضا واسمه حسن شغنوبي وكان حاقدا على الوضع كاملا عفا الله عنه...
عدد الطلبة لايتجاوز (30) طالباً تقريبا، اغلبهم من البادية والبقية من قرية مشروفة وقرية الحرجة (الحرجة هذه غير معترف بها كمسمى من قبل بقية طريب الى الآن، اما الحواير فهي مكان تائه بين مشروفة والحرجة !! (اسألوا عن موقع الحواير؟).......
تغير الوضع في مدرسة مشروفة إلى لأفضل والسبب المباشر هو ذلك المدير الحازم والمخلص وصاحب الخُلق الرفيع انه أبو نبيل الذي طغى لقبه حتى نسينا اسمه الأول وكانت علاقته طيبة بالشيخ عبدالرحمن بن محمد بن كدم صاحب مقر المدرسة ... هذا المدير عجيب في إدارته وكان أهم التحديات التي تواجهه هو غياب الطلبة المتكرر ، وللحقيقة فقد كان زملاءنا الطلبة من أهل البادية الأكثر جدية في التعليم والتحصيل الدراسي ومنضبطين وكان غيابهم هو الأقل !! فما هو الحل مع كثرة المتغيبين أبناء القرى والفلاحين؟
المدير أبو نبيل يمتلك عجلة نارية (دباب) وقد استطاع تحديد منازل ومزارع أولياء أمور التلاميذ وبمجرد تسجيل المتغيبين في بداية الحصة الأولى ينطلق بدراجته النارية إلى كل بيت ليقابل والد الطالب المتغيب ويسأله عن السبب وفي حال كان الغياب بدون عذر مقبول يأخذ الطالب خلفه على الدراجة ويحضره للمدرسة وهكذا!! وفي احد الأيام لم اذهب إلى المدرسة وكنت في الصف الرابع ولا ادري ماهو سبب الغياب وأغلب الظن أنني تحايلت على الأهل بعذر لا اذكره ألان ... ولكن بعد شروق الشمس لم تكتمل فرحة الغياب حيث كنت مكلفا بمراقبة الأغنام وهي منتشرة في قطعة ارض اسمها حافظ بعد موسم الحصاد (صريم الذرة)، ويا للهول إنها المفاجأة المدير أبو نبيل يقترب بدراجته بسرعة البرق ويتوقف بجانبي ويدور الحديث التالي: وين ابوك ولاااااه ؟ قلت متلعثما هناك يصلح الماكينة ... أيه شو عليك.... مين هاي المره ؟ فقلت جدتي .. أم ابوك؟ قلت نعم .. آيه... صباح الخير أم غانم ..... خللي بالك عالغنمات حجية....!! تع اركب خلفي وبيكفينا موناقصين والبركة في الحجية..!! وين شنتايتك ؟ بالبيت .... روح جيبها عبال ما احكي مع أبوك .....!! أخيرا انطلقنا للمدرسة وهذه أول مرة بحياتي اركب دراجة وكنت خائفا من الوقوع على الأرض وقال لي امسك بثوبي من الطرفين وفعلت وكان اثر أصابعي واضحا في ثوب المدير أبو نبيل بقية ذلك النهار!!.(جزاه الله خير الجزاء).
في مقال مدرسة حنين السابق المح الأخ النداء الأخير في تعليقه وكأنه أراد القول أن بعض أولئك المعلمين من العرب أو طلائع السعوديين كان لهم تصرفات سيئة وعلاقات غير طبيعية مع بعض المجتمع القروي البسيط !! وهذا صحيح بل لقد عاث بعضهم فسادا بلا حدود ولكن للإنصاف فان أبو نبيل ومحمد علي ومحمد السلامين وغيرهم كثير كانوا رجال أصحاب خُلق رفيع ويقضون أوقاتهم في عملهم ومع عوائلهم فقط، ومعروف أن هناك في المملكة معلمين ينتسبون للإخوان المسلمين أهل الشام الذين استضافتهم الدولة حماية لهم من الظلم. ورحم الله الشيخ علي الطنطاوي أشهر أولئك الرجال الذين استضافتهم قديما هذه البلاد بمكة المكرمة فاخلص لها وأحبها ومن الجور والتعسف لم يمكنوه حتى من اصطحاب مكتبته الخاصة من دمشق حتى فارق الحياة!!. وربما يتذكر البعض في طريب المعلم الشامي المطرود من بلده واسمه عاطف وهو آكاديمي ومهندس ميكانيكي محترف ومثقف وذو خلق رفيع وملتزم بدينه ، وكان مهندسا لجميع مكائن الديزل والسيارات وله موقفا إنسانيا نبيلا رأيته بعيني حين قام بإنقاذ حياة طفل يصارع الموت فأخذه بسيارته وانطلق به لمستشفى خميس مشيط المدني سيء الذكر !!... سمعت أن هذا الرجل لازال يعيش في نجران أو أبها يبيع في محل صغير ملابس رجالية !!.
صلاة الظهر تقام في المسجد المجاور للمدرسة بقرية آل كدم وهو مسجد بناءه من الطين وله مميزات لاتنسى كغيره من المساجد منها رائحة الطيب والريحان الثابتة بالبطحاء والجدران ، وكان إمامنا للصلاة هو ذلك الرجل الخلوق المحبوب عوض بن فايز آل مريد رحمه الله وهو خطيب الجمعة في ذات الوقت ، وقد كنا كطلبة نحفظ عن ظهر قلب خُطب الجمعة في كل جوامع طريب فهي ثابتة المحتوى والعنوان ولا تتغير أبدا كوزارة التخطيط وهشام ناظر الذي تقعمز أكثر من 30 عاما على كرسي الوزير ثم السفير دون تغيير أو تطوير وآخرتها يُهين مواطنة طلبت منه النجدة في مطار القاهرة، ويتم تكرار تلك الخطب مئات المرات، وخلال الخطبة المملة يضايقنا بشدة إزعاج بعض المصلين وهم يتثاءبون بصوت مرتفع يشبه صوت بعض مذيعي القناة الأولى... ناهيك عن أداء ركعات كثيرة خلال قراءة الخطبة بأصوات مرتفعة إذا داهمهم النعاس !!.
غالبية الآباء أسلوبهم في توجيه الأبناء لأداء فريضة الصلاة هو الزجر والنهر والأمر والقهر مما جعل كثير من الأبناء يصلون تقية أو تمثيل أو بلا وضوء والاسطوانة معروفة قد صليت!!!.... ومن الأساليب المنفرة للحث على الصلاة عند البعض قولهم : قم صل نصل لحيك ، صل الله يسلط عليك ، صل ياعدو الله .... وهناك الايقاض بالماء البارد والسحب بالأرجل والضرب العنيف والطرد من المنزل. وللمعلومية فان الطفل أو الابن أساسا يحب الصلاة وليس تاركا لها من الأصل، وبكلمة طيبة واحدة ودعاء صادق ومودة أبوية حانية سيكون ذلك الابن قبل والده في المسجد أو المصلى ولكن .....؟؟.
كان المستوى العام للتحصيل الدراسي للطلبة متذبذبا وغير جيد في مجمله والسبب هو ضعف الطالب نتيجة إهمال البيت وجهل وأمية الوالدين وظلم بعضهم للابن واستعباده بالأعمال الشاقة في المزارع والرعي والحفر ، ومع ذلك كان معنا طلبة متفوقين لانساوي معهم شيئاً ولو تمكنوا من مواصلة دراستهم لكان لهم شأنا كبيرا على مستوى الوطن !! قاتل الله الفقر والجهل كم هما عدوين مدمرين حتى للقيم.
احدهم لا يزال حيا يرزق وبالقرب من طريب يقول لي إن والده من أجل أن يعطيه مائة ريال ويسمح له بالمغادرة للرياض لطلب الرزق علما بان عمره آنذاك لايتجاوز (14)عاما اشترط عليه أن يقوم هو وأمه بحفر بئر حتى يجدوا الماء !! ويقول إنهما في المتر الخامس تقريبا أصابهما الإعياء فقرر الابن كسر الباب لعله يحصل على مبلغ المائة ريال ولكنه فوجئ بوجود مبالغ هائلة من النقود موزعة في أكياس صغيرة وفي خُرج وبردعة الحمار وكان الأب يستخدم التمويه داخل الغرفة بوضع كفرات مهترئة في مدخلها وبعض الجلود المدبوغة وعلب زيت السيارات الفارغة !!! فبعثرها الابن المقهور واخذ منها بضع مئات وهرب تحت جنح الظلام وكانت النتيجة أن قام الوالد الشهم بضرب الأم المسكينة وكسر سنها وحبسها يومين مكبلة بالحبل في المنزل علما بأنها لاتعلم لا بهذه الثروة ولا بما فعله ابنها!!!.
في السنة الثانية من عمر مدرسة مشروفة ازداد عدد الطلبة وكثر معهم الإزعاج كإيذاء جيران المدرسة والتضييق على مداخل منازلهم ولكن المشكلة الأكثر بشاعة هي المصارعة الحرة الدامية شبه اليومية بين الطلبة في الفسحة أوبعد الخروج من المدرسة وأسباب ذلك يعود لنزاعات قبلية بين الكبار (الشيبان) وليس الطلبة ولكن الشباب يتدربون استعدادا للمراحل القادمة!!.. حتى أصبح المدير أبو نبيل يعرف تمام المعرفة أسماء كافة العشائر وأسباب خلافاتها ومواقع الخلاف التاريخية بين الأطراف كالآبار والأراضي وغيرها، وقد سمعنا يوما حديثا بينه وبين ألشيخ الجليل عبدالرحمن بن كدم الذي استعان به اثر مضاربة قبلية طلابية وهو يقول شو رأيك ياشيخ عبدالرحمن نرسل هالأبضايات عالجولان بلكي بيحرروه!!. فرد الشيخ سريعا بذكاءه المعروف وقال بصركم باللي هناك يابونبيل وخل ذولا حولنا ماعاد فينا من غزى هناك!!!.
موقع المدرسة والمسجد ومنزل أخينا الكبير الكاتب والصحفي الأستاذ محمد بن علي آل كدم وإخوانه متقاربة بشكل مثلث مختلف الأضلاع لاتبعد عن بعضها أكثر من أمتار وبينها شجرة طلح شامخة يستغل ظلها مكانا لتجمع الطلبة أو موقفا للسيارات أومربطا لزوامل زوار المدرسة النادرين جدا من أولياء الأمور ، ولكن المدير والمعلم محمد علي قررا أن تكون هذه الشجرة مقرا لإقامة أول حفل مدرسي سنوي لمدرسة مشروفة حيث تزعم محمد علي أبو مهند تلك المهمة.... وجاء يوم الحفل الختامي وكان أجمل وأفضل من أي حفل زواج ممل في وقتنا الحالي مع انه كان بسيطا جدا حيث كنا ننصرف باكرا إلى بيوتنا في ذلك اليوم ونعود بعد الظهر بساعة ونرتب الكراسي تحت الشجرة وهي مخصصة لجلوس الآباء ، ثم نجهز المسرح الملاصق لجدار المدرسة ليبدأ الاحتفال باستعراض شبه عسكري وأناشيد حماسية أتى بها المعلم صلاح من حنين أتذكر منها:
يابلادي إحنا رجالك أهدافنا إسلامية ....
بالعز نادي رجالك يبنوا صرح الملكية.....
مكبرات الصوت عبارة عن جهاز استقبال راديو عادي خاص بالمعلم أبو مهند الذي يزاول بعض المهن الفنية كالسباكة والكهرباء ، وكان الراديو موصل بسماعتين معلقتين بأغصان شجرة الطلح واللاقط (الميكرفون) موصل بجاهز الراديو على المسرح الخشبي البسيط.
الحفل تتخلله الطرائف العفوية ولكنه يوما بهيجا واستثنائيا بكل المعاني حتى للكبار حيث يلبس فيه الآباء أجمل ثيابهم وخناجرهم ويبتسمون على غير العادة وخاصة مع الصغار ويفتخرون بنشاط أبناءهم ووقوفهم على خشبة المسرح والتمثيل ، وهناك منافسة شد الحبل بين المعلمين والآباء!! ومن ضمن الفقرات الطريفة أتذكر أن حصانا من القماش صنعه المعلم محمد علي ابومهند وبداخله ثلاثة أشخاص وكنت صاحب ذلك الحصان وبعد رقصات استعراضية قام بها على المسرح اسأل ذلك الحصان:
من تحب؟ فيقول العرب!!
ثم اسأله ومن تكره؟ فيقول إسرائيل !!
هل تريد الزواج فيهز رأسه بنعم ...
هل تريدها ثيبا ؟ فيصهل غاضبا بل أريدها بكرا !!
فترتفع أصوات وضحكات وتعليقات الآباء والحضور كصيحات جماهير المنتخب أيام زمان قبل ألخطط العلمية المدروسة !!.
ثم أُعطي الحصان إيعازاً بصوت مرتفع :
تحية العرب ..... فيرفع صدره ويهز رأسه للأعلى بكبرياء!.
تحية إسرائيل ..... فيرفع رجله ويهز ذيله!!! . وينتهي المشهد.
- كلما تذكرت حكاية الحصان هذه أدركت أن المهزوم يعزي نفسه بأي وهم ليغطي به هزائمه - !!).
وياللخيبة أتصور لو جئنا بحصان حقيقي يستطيع أن يفهم كلامنا وطلبنا منه الآن أن يوجه تحية لائقة للعرب لرفع ذيله وأخرج مافي أمعاءه!!.
المعلم محمد علي السلامين رجلا يعتمر (يلبس) الغترة البيضاء والعقال الفلسطيني ويرتدي القميص والبنطلون وكان رائعا في تدريسه وصاحب نكتة وذكي وقبل أن يدخل أي فصل للتدريس نسمع صوته وهو يصعد الدرج يردد ياهل التوحيد يالخوان !! وكان ذلك مؤشرا على قدوم المعلم السلامين فيسكتنا العريف باسلوب معمر القذافي فنثبت على الكراسي فرد فرد وكأن على رؤوسنا الطير ... وفي إحدى الرحلات سألناه عن سر هذه الكلمات التي يهمهم بها في الدرج فقصها علينا وكانت عجيبة .. يقول انه خلال عمله في مدرسة المضة وفي فجر يوم السبت كان نائما وإذا بصوت مستغيث تحت نافذة منزله الصغير وهو ينادي ياهل التوحيد يالخوان ........ ياهل التوحيد يالخوان ... يقول فخرجت باتجاهه فإذا بشيخ على ظهر حماره وهما يترنحان في وسط بيارة الصرف في الممر الضيق المؤدي إلى سوق السبت!!! يقول فأحضرت حبلا ورميته إلى الشيخ فأمسك به وخرج من الحفرة ثم استضفته في منزلي وقدمت له واجب الضيافة والماء ليستحم بعد الزنقة!! وأخيرا تمت الاستعانة بالنشاما من المتسوقين واخرجوا الحمار من البيارة!!.
كانت نتائج المدارس النهائية تعلن خلال حفل خاص وحظور جماهيري وكانت الشهادات توزع على مسمع ومرأى من أولياء أمور الطلبة وعموم المواطنين الذين يتوافدون بدون دعوة وكانت النتائج سرية جدا حتى يوم الحصاد حيث تعلن أسماء الناجحين أولا ثم أسماء المكملين الذين يحق لهم دخول الدور الثاني ثم أسماء الراسبين الذين سيعيدون الدراسة مجدداً ، وكان ذلك محفزا بلا شك للمجتهدين ولكنه كان مؤلما ومؤذيا وجارحا للآخرين وقد شاهدنا بكاء وانهيار لبعض الراسبين ولن انسي ذلك الطالب المسكين في الصف الخامس بمدرسة حنين حين أعلنت نتيجته ولم ينجح في ثلاث مواد فماكان منه إلا أن اخذ يصب التراب على رأسه ووجهه وفمه أمام الجمهور!!.
كانت علاقة المعلم بالطالب رسمية بلا حدود وكان المعلم يشكل رهبة شديدة والطالب دائما يتحاشى طريق معلمه تماما كالعلاقة بين ساهر وبعض السائقين حاليا ، كما كان الطالب وبدون سبب يخاف المدرس كخوف العالمي من سدوس أوالزعيم من الفتح أو الأهلي من الرائد ... وكان المعلم ذو شخصية مختلفة وكان الطالب تغمره قمة السعادة والفرحة إذا ناداه المعلم باسمه شخصيا أو أرسله ليحضر له ماء الوضوء أو أمره بمسح السبورة ناهيك أن يبتسم في وجهه أو يمتدح نشاطه الدراسي ، كان المعلم مثقفا ويدرك معنى أن تكون معلما وقدوة وقائدا ومربيا وكان يبذل من وقته وصحته وسعادته الكثير في سبيل تعليم طلبته وكان الطالب يحيط المعلم بهالة من التقدير ويحلم أن يكون معلما مثله في المستقبل.
وجبة التغذية المدرسية التي وفرتها الدولة كانت عنصرا مهما في اليوم الدراسي وكانت عاملا مهما وجاذبا لجميع الطلبة الذين يواجهون ظروف الحياة الصعبة والفاقة وسوء الوضع الصحي وكانت توزع في الفسحة وأهم مافيها الزبيب الذي ينتظره الجميع بفارغ الصبر والبعض يوفره لإخوانه الصغار!! ...
الحياة صعبة رغم توفر السيولة نوعا ما لدى بعض الأسر ورغم وجود الأنعام من الإبل والغنم والبقر إلا أن القليل جدا من الآباء ينفق بسخاء على أهل بيته !! احد زملاءنا وأخويه ونحن بالصف الرابع كان لديهم منزلا في إحدى القرى بطريب ولكن والدهم ووالدتهم يربون الأغنام في البادية وبعيدين عنهم وصادف أن توقفت التغذية المدرسية لمدة إسبوعين وقد بلغ بهم الحال أن مضى عليهم يومين دون تناول لقمة طعام واحدة باستثناء شرب الماء (من المدي بالطحالب) وفي اليوم الثالث ذهب أخينا هذا إلى احد نساء الجيران وطلب منها أي شيء وقد اقسم هذا الإنسان انه لايوجد في بيتهم مايمكن تقديمه لبعوضة وانه لايوجد حتى ثقاب (كبريت) وأنهم يبيتون في ظلام دامس على نغمات الناموس (البعوض) الذي يحرمهم لذة النوم حتى شروق الشمس ومن ثم يخروجون للمدرسة !!!.
كانت الأم هي الأكثر تألما لوضع أطفالها في المدارس وهذا طبيعي بينما اغلب الآباء اقل اهتماما بمعاناة الأبناء!!.
بدون مقدمات ومع بداية العام الدراسي الجديد الثاني أو الثالث في مدرسة مشروفة وجدنا المفاجأة .... انه مديرا سعودي لمدرسة مشروفة ومن أهل طريب شابا في هيئة رجل وقور ، اغلبنا لايعرفه مسبقا ووجوده بيننا كموظف غير في أذهاننا صورة المعلم والمدير النمطي السابق من خارج البلاد.. انه الأستاذ مفلح بن هادي بن دحباش وفقه الله وجزاه خير الجزاء ... ، هذا المدير استطاع وبجدارة حينذاك من الجمع بين إدارة المدرسة بحزم مع المعلمين والموظفين وبين إظهار الجانب الإنساني والتربوي تجاه الطالب ، وكان يقوم بتغطية نقص عدد المعلمين ويُدرس بعض المواد بنفسه ، ومن المواقف الطريفة كنا نتوضأ لصلاة الظهر من ساقي ماء بئر الشيخ عبدالرحمن بن كدم وبدلا من الهدوء والانتظام أخذنا نلعب بالماء وعددنا ثلاثة دون أن ندرك أن المدير يقترب حاملا طاسته المعدنية في يده اليسرى ويبدو انه كان يرغب أن نتفرق قبل وصوله ولكن صوت ماكينة البلاكستون وخرير الماء وصوت العصافير صرفتنا عنه فماكان من أبو هادي إلا أن هشم إناءه (السحله) في رؤوسنا نحن الثلاثة!! وسلمت يده فما فعل غير الواجب دون أن يؤذينا فالإناء من المعدن المطاوع القديم.
بعد ذلك بسنوات يروي لي أحد الإخوة وعلى ذمته حيث يقول انه في إحدى مناسبات توزيع الشهادات في آخر العام بحضور الآباء والجمهور كان الأستاذ مفلح بن هادي يعلن النتائج بنفسه وبعد إعلان المتفوقين والناجحين لم يقول والآن مع الراسبين مثلا ولكنه قال فلان بن فلان ناجح ولكن عليك مادتين وستنجح بإذن الله!! احد الطلبة كان صغيرا وأجهش بالبكاء وبدموع يرق لها القلب وهو ينظر إلى المدير بطريقة ملفتة وغريبة فخيم الصمت والإحراج على الجميع وليس هناك مخرجا جاهزا فما كان من المدير المربي الإنسان إلا أن أمعن النظر في الشهادة مرة أخرى وقال نحن غلطانين يا ابني أنت ناجح ثم التفت إلى المعلم القديم محمد علي أبو مهند وقال سجل له شهادة نجاح بسرعة وهاتها يا أستاذ محمد لنعلنها الولد ناجح !!! والله إن هذا تصرف لايُقدم عليه إلا المربين الكبار حقا بل المدراء الناجحين ناهيك عن انه أسلوب معالجة نفسي حضاري لايفعلها إلا ملهم أو متخصص !! ، وبالمناسبة في إحدى الدورات بأميركا كنا في قاعة مختلطة بها عدد (840) إنسانا واستعرضت هذه القصة على مسامعهم حينما جاء دوري ضمن 20 دقيقة مخصصة للإلقاء الحُر فقاطعني هذا الحشد الكبير بعاصفة من التصفيق ولم يكن لي بل للأستاذ مفلح. سبحان الله وماهو العيب في أن ينقل طالب في الصف الثاني إلى الثالث وهو مكمل في مادتين ويتم تقويمه وتعليمه في الصفوف اللاحقة؟ وانظروا ماذا نفعل حالياً ؟!. لا أريد الإسهاب أكثر فلم اجلس مع الأستاذ مفلح ثنائيا في حياتي ولم أره إلا مع الناس مرات قليلة بعد الدراسة ولكن ما أحوجنا للتربية والإبداع بطريقة شجاعة مبنية على نهج علمي وقيادي مفهوم.
انتقلنا إلى الصف الأول المتوسط بمدرسة طريب المتوسطة وكان مديرنا الأستاذ القدير محمد بن سعيد الصنيج وفقه الله وذات يوم كلف مدرس المواد الإسلامية الأستاذ راسم عنبتاوي وكان معلما شجاعا ومخلصا في رسالته التعليمية أن يختار طالبا يلقي كلمة بعد صلاة الجمعة عن الرفق بالحيوان في جامع قرية الفهر ثم في جامع آل عرفان على التوالي وقد تم اختياري لهذه المهمة وأجمل مافيها أن أبو بدر استضافنا في منزله بعد صلاة الجمعة وعددنا ثلاثة طلاب مع المعلم راسم وأكرمنا مشكورا وكانت فرصة نادرة لنا أن نرى مديرنا يخدمنا في منزله ويتلطف لنا كضيوف بداره ،،،، شكرا أبا بدر فقد كنت سببا في اعتلائي المنبر لأول مرة في جمع غفير وقد ذكرني قديما بهذا الموقف الأخ الدكتور محمد بن سعيد آل شلغم ووصف كيف كنت امسك بالورقة والقي بيان الرفق بالحيوان!!.
قرار الأستاذ محمد الصنيج القيام برحلة ليوم كامل في وادي لحية وأخرى في وادي تبشع وخرجنا بكامل عدتنا وكانت من أمتع الرحلات وأجملها وفي آخر النهار نزل المطر غزيرا حتى سال الوادي ونحن نغادر ، ومن الطرائف أن معلم اللغة العربية الأستاذ جميل من البادية الأردنية ركب معي وكان معه مسجل كاسيت وشريط لمغنية شامية تقول ياصبابين القهوة زيدوها هيل وآخر شعبي لسالم الحويل ............ (وترى مالي ذنب ياجماعة مجرد طالب ماصدق يسوق سيارة أبوه وبعدين سالم الحويل صوته خشن مرعب وبالمقارنة فهو أهون من بعض هؤلاء الذين لا ندري عن جنسهم ولا ماذا على وجوههم أما أصواتهم فهذا شيء آخر!!!.).
رحلة مدرسية (وادي لحية)
إضغط على الصورة لمشاهدة الحجم الكامل
من معلمينا الأفاضل الذين لن ننساهم معلم اللغة الانجليزية الأستاذ مصطفى البسيوني غفر الله له وهو رجل ملتزم ورقيق ورحم الله جبران بن حسين بن عادي الذي تعشم السفر إلى الرياض ذات يوما خصيصا ليزوره هناك قبل أن يموت وما أن رآه المعلم مصطفى حتى انهمرت دموعه بغزارة وبألم لقرب ساعته بعيدا عن أطفاله وأسرته وبلده. الله ما أجمل الوفاء وحب الناس لبعضهم... هل بقي منها شيء؟؟.
ومنهم الأستاذ فاروق معلم الرياضيات وكان صارما ومحترفا لمهنته وهنا موقف فيه عبرة فقد كنا لانحب مواده نظرا لصرامته وضعف مستوانا وهذا حال الطالب وذات يوم أصابه مرض البرد والرشح فغاب يومين وجاء في اليوم الثالث مبكرا دون أن نراه واخذ مكانه في الفصل وكان يلبس بالطو اسود طويل ومتلثما بشماغ شبه عنابي ودخلنا دون أن نراه لرداءة اضاءة الفصل وعلى أساس انه غائب وأخذنا نشتمه وندعي عليه بالمزيد فوقف ونزع لثامه وقال معقول كل هذا عشان بدي مصلحكتوا ؟؟ لاحول ولاقوة الابالله !! والله ماني قاعد هون ليوم واحد يخرب بيت التعليم والحظ اللي جابني لهون!! وغادر ولم نره بعدها!.
أيضا هناك الأستاذ صفوح المغربي معلم العلوم وكان رجلا صالحا ومتمكنا من مادته وكان يهتم بأداء الصلاة بالطريقة الصحيحة ويحارب الحركة فيها من غير أصلها ويستغرب من صلاتنا ويسأل البعض أبوك بيصلي هيك ياطالب ؟؟ شو يابشر مابتهرشو اجسامكم غير بالصلاة ؟؟ حتى الجربان بيخشع بالصلاة!! يالطيف!.
وكان هناك الأستاذ ممدوح رحمون مدرس التاريخ وكان مبدعا خلال الشرح وأسلوبه مشوقا وممتعا وهو الآن أستاذا للتاريخ في جامعة دمشق ويشارك أحيانا في برامج قناة الجزيرة الفضائية كمؤرخ استراتيجي. وهناك الكثير من المعلمين الأجلاء الذين نحمل لهم الجميل والتقدير. أما المعلم سعيد والآخر يسري من ارض الكنانة فالمواقف هزلية جدا وربما يتذكر الأخوين الكريمين محمد بن عايض آل كدم وحسن بن فهد الغوينم بعض هذه المواقف !!!.
فلاش : ماذكرته آنفا ليس سيرة بل مشاهد متفرقة عشوائية الترتيب والسياق رغبت أن يطلع عليها الإخوة وخاصة الشباب للمقارنة وسأبحث عن بقية تسجيلات الصندوق الاسود ولكن بإيجاز بإذن الله عندما يسمح الوقت واعتذر لمن قرأ عن الإطالة.
عبدالله العابسي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.