ساهم تسارع تطور التجربة الشعرية عند محمد الثبيتي في رفع وتيرة الإرباك الذي مس من كانوا يناصرون تلك التجربة بقدر ما مس أولئك الذين كانوا يناصبونها العداء، واقتسم الفريقان الحيرة إزاء هذه اللغة الجديدة التي كانت تشكل لفريق تبشيراً بآفاق جديدة موغلة في الحداثة، كما تشكل لفريق آخر حجة لما يرونه من أن الحداثة لا تخرج عن أن تكون عبثاً باللغة ولعباً بالكلمات وإفساداً للذائقة. لم تكن المدة التي فصلت بين صدور ديوان الثبيتي الأول «عاشقة الزمن الوردي» وديوانه الثالث «التضاريس» تتجاوز السنوات الأربع، غير أنها كانت كفيلة وكافية أن انتقل خلالها الشاعر من لغة سهلة لم تتجاوز بعض القصائد العمودية المرتبطة بالمناسبات وقصائد أخرى تدور في فلك التجربة الرومانسية، ولا تكاد تخرج في هذه أو تلك عما كان يتداوله كثير من الشعراء قبله، إلى لغة معقدة موغلة في الغرابة تمثل أنموذجاً فريداً للحداثة الشعرية، وتتجاوز كثيراً من التجارب التي أنجزت على مستوى الشعرية العربية المعاصرة. أربع سنوات فصلت بين تجربتين تنتميان لأفقين شعريين متباينين أصدر خلالها الثبيتي ديوان «تهجيت حلماً تهجيت وهماً»، وهو الديوان الذي كان يبشر بأن الشاعر أصبح على مشارف مغامرة شعرية تشكل قطيعة مع تجربته في ديوانه الأول، وما يشبه القطيعة مع التجارب التي كانت تشكل البذور التأصيلية للحداثة عند من سبقه من الشعراء الشباب وكذلك عند مجايليه منهم، تلك المغامرة التي بشّر بها ديوانه الثاني «تهجيت حلماً تهجيت وهماً» لم تلبث أن تحققت في ديوانه الثالث «التضاريس»، وعلى رغم أن البشارة التي حملها الديوان الثاني كان يمكن للوقوف عندها أن يمهد لتلقي تجربة الديوان الثالث، إلا أن ما كان قد شرع الشاعر في نشره في الصحف من قصائد الديوان الثالث لم يترك لمن كانوا يتابعون تجربته الفرصة، فانشغلوا بما ينشره عن الوقوف على تجربة الديوان الثاني والنظر إليها باعتبارها عتبة يمكن من خلالها ولوج العوالم الشعرية التي تجلت في الديوان الثالث وفض مغاليقها. (1) كان من شأن الوقوف عند «تهجيت حلماً تهجيت وهماً» وهو العنوان الذي حملته إحدى قصائد الديوان الثاني ثم حمله الديوان نفسه أن يضيء تجربة الثبيتي الشعرية، ويؤسس لتتبع مآلاتها التي لم تلبث أن وقفت بها على قصيدة التضاريس، وما تلاها من قصائد حفل بها ديوان التضاريس وديوان موقف الرمال، كما كان بإمكان الوقوف عند تجربة الديوان الثاني أن يقدم تفسيراً للعلاقة المتوترة بين الشاعر والشعر التي تبدو واضحة في الديوان الأول، وكذلك الكشف عن الجذور الأولى لمآلات الرموز الشعرية كما تشكلت في دواوينه اللاحقة. تهجيت حلماً تهجيت وهماً... فعل يتكرر مرتين لفاعل واحد يتمثل في الضمير الذي يحيل إلى الشاعر وإن أردنا الدقة قلنا بأنه يحيل إلى الذات الشاعرة، كما يحيل إلى مفعولين هما الحلم والوهم اللذين يشكلان استقطاباً للذات الشاعرة باعتبارهما عالمين قابلين للتهجي، وإن أردنا الدقة مرة أخرى قلنا باعتبارهما لغتين قابلتين لمحاولة القراءة. فعل التهجي يتأكد من خلال التكرار مضيفاً بتكراره تمييزاً بين تهجي الحلم وتهجي الوهم، بحيث تختلف الجملة الشعرية عما لو قال الشاعر: تهجيت حلماً ووهماً، وذلك مقتضى أن يكون للحلم تهجياً وللوهم تهجياً، فالتكرار يتضمن اختلافاً، إذ ثمة لحظات لتهجي الحلم ولحظات أخرى لتهجي الوهم، والفعل «تهجيت» يحمل في داخله معالم الخطوات الأولى نحو عالمين يبدوان منغلقين، فهما يحتاجان ضرباً من المعاناة في تفهمهما وولوج سديمهما، والتهجي محاولة للمضي خطوة خطوة باتجاه ما هو مستعصٍ على أن تتحقق قراءته دفعة واحدة، كما يحمل التهجي في الوقت نفسه استعادة للطفولة التي ترتبط بمرحلة التهجي ومحاولة اكتساب القدرة على القراءة، التهجي يعني في ما يعنيه عجز القدرة التي كانت مكتسبة عن قراءة ما يحاول الشاعر قراءته والشروع في اكتساب قدرة جديدة تمكنه من قراءة ما هو بصدده من لغة جديدة يرسم معالمها الحلم تارة والوهم تارة أخرى. وبين الطفولة والحلم علاقة وثيقة، فأحلام الطفولة لا تنفصل عن وقائعها، والمخيلة في مرحلة الطفولة لا تزال غضة مبرأة مما يقيمه العقل في وقت لاحق من معايير تميز بين الوقائع والأحلام وتفصل بين العالم المادي والعالم المتخيل، وتبدت تلك العلاقة بين الحلم والطفولة في قصيدة «عشقت عينيك» وهي إحدى قصائد عاشقة الزمن الوردي: عشقت عينيك بحراً لا قرار له عمري شراع على شطآنه قلق عشقت عينيك أنواء معربدة وموسماً عاصفاً في طبعه النزق عشقتها شفقاً ناء تجاذبني فيه الطفولة والأحلام والألق * من مقدمة الكتاب الذي صدر أخيراً في دار جداول للنشر والتوزيع بيروت، كانون الثاني (يناير) 2014.