1 تعرفت الى عميد الانثروبولوجيا، العالم الفذ، ليفي شتراوس ثلاث مرات، في الرياض ثم موسكو ثم باريس. كان اسمه قد مر على سمعي، مرور الكرام، أثناء دراستي في كلية العلوم، عندما كان أستاذ الفيزيولوجيا يشرح العلاقة بين المكونات الداخلية لجسم الإنسان مع المكونات الخارجية المحيطة به. لم يكن ذلك الشرح كافياً وجاذباً لبناء علاقة وطيدة. لكن اسم شتراوس عاد بقوة مع عاصفة الحداثة التي هبت بقوة في الثمانينات على الرياض والمدن المجاورة، مسقطة بعض الأشجار وأعمدة النور، بينما كان يُنتظر أن تسقط أعمدة الظلام! ارتبط اسم شتراوس «البنيوي» بالحداثة، وصار اسم شتراوس مرادفاً للقطيعة مع التراث ونسف الماضي، الذي كانت، أو بدت تلك الحداثة «القروية» رمزاً له. هل كان الانثربولوجي شتراوس، «عاشق الماضي»، يتخيل أنه يمكن أن يستخدم يوماً كرمز للقطيعة مع التراث والماضي؟! هكذا تصنع رعونة التغيير والتحديث. 2 في موسكو، تعرفت الى ليفي شتراوس آخر، غير الذي لوثته الحداثة «المتعجلة». تعرفت على شتراوس الحقيقي مع بروفسورة السوسيولوجيا تاتيانا فيودروفنا. قرأت معها شتراوس الانثروبولوجيا والميثولوجيا والعرق والتاريخ والمدارات الحزينة. تعرفت الى شتراوس الذي كرس نفسه للحفاظ على التنوع الثقافي والتراثي... لا لنسف التراث، كما أُوهمنا! شتراوس الذي وصف ما يسميه الغرب اكتشاف العالم الجديد بقوله: «تراني أفضل أن استخدم غزو العالم الجديد، على تعبير اكتشاف العالم الجديد». وبالمثل وصف إنشاء دولة إسرائيل، على رغم يهوديته، بأنها «رأس جسر للغرب في الشرق، هي الحملة الصليبية التاسعة إذا شئتم». وهو أول من عبر عن المخاوف من قطار العولمة القادم، حين كتب في عام 1955: «لم يعد بإمكاننا فعل أي شيء فالحضارة لم تعد تلك الزهرة الحساسة التي نحاول الحفاظ عليها، والإنسانية اتجهت نحو الثقافة الواحدة من أجل ما يسمى ثقافة الجماهير». وكان كتابه «النيء والمطبوخ» 1969، الثمرة الأولى من إنجازه الرباعي الضخم «أسطوريات»، حيث وظف ترميز النيء إلى الطبيعة والمطبوخ بالثقافة. ثم استمر شتراوس من وحي غابات الأمازون وشعوبها الأصلية ينسج مكوناته العلمية حول الثقافات الأصلية وعادات الشعوب وأساطيرها، ودلالات ذلك في العلاقة مع الذات والآخر. زاد شغفي وتعلقي بليفي شتراوس، وأصبحت أتوق إلى لقائه والتحاور معه حول بعض القضايا التي تناولتها في أطروحتي .. لكن أين أجده، إن كان حياً! 3 انتقلت إلى باريس عام 2006 وأنا لا أدري إن كان ليفي شتراوس ما زال حياً. في اليونسكو وجدت صدى آخر لشتراوس، حيث تمتنّ له المنظمة بأنه قد أسهم في صياغة الإعلان الأول لليونسكو في شأن العنصر (1950)، وكتب نصي «العنصر والتاريخ» (1952) و «العنصر والثقافة» (1971) بناء على طلب اليونسكو، فشعرت بأنني قد اقتربت إليه أكثر. وسألت أكثر من واحد عنه فلم أجد عندهم أفضل من الظن الذي يتملكني بأن شتراوس المولود عام 1908 لا بد أنه في عداد الأموات الآن. حتى جاءني الجواب المفاجئ! كان لدي في ذلك الصباح من أواخر عام 2006 اجتماع في مكتبي باليونسكو مع مجموعة من الزملاء من قطاع الثقافة بالمنظمة، كان من بينهم رجل أشيب، يكاد لا يتكلم وإذا تكلم يكاد لا يُسمع. قدم لي بطاقته الشخصية، كما هو متبع، فإذا اسمه ينتهي ب: ليفي شتراوس. قلت له بتردد: هل لك علاقة أو تعرف العالم الفرنسي الشهير كلود ليفي شتراوس؟ فأجابني بمنتهى البرود: نعم .. إنه أبي. شعرت بأنني اقتربت كثيراً من تحقيق الأمنية، ولكن بقي بيني وبينها عائق «بسيط» هو الموت! لكن كيف اسأل الأبن عن موت أبيه من عدمه؟ تذكرت أن الغربيين لديهم رباطة جأش مغايرة لما لدينا نحن الشرقيين حيال مسأله الموت، فلا حرج في سؤاله، وفعلت. كانت المفاجأة حين أجابني الابن أن الداهية «كلود ليفي شتراوس» ما زال حياً. كان وقع الإجابة علي مثل وقعها على طفل صغير من الجيل الجديد لو علم أن بيليه الأسطورة ما زال حياً! قلت لشتراوس الصغير عن لهفتي ورغبتي الملحة في مقابلة شتراوس العظيم، فأخبرني ببروده المعهود أن والده تلك الأيام ليس على ما يرام، لكنه سيحاول ترتيب موعد خلال الشهر المقبل. انقضى الشهر المقبل والأقدم، ثم التقيت بالأبن مرة أخرى وجددت طلب «الفيزا» منه لزيارة والده فوعدني خيراً... وما علمت أنه وعدني غيراً! مرت الأيام مسرعة ومزدحمة بالانشغالات والالتزامات، وأنا ما زلت بانتظار الوعد... حتى جاء نعي كلود ليفي شتراوس، قبل أن ألتقيه. حينها أدركت المعنى الحقيقي لدلالة: أن تقترب من الهدف أكثر... كي تخطئه! كاتب سعودي [email protected]