تبدّل فجأة المشهد السياسي في لبنان لمصلحة الاسراع في تشكيل الحكومة العتيدة التي يفترض أن تبصر النور بين ساعة وأخرى باعتبار أنه لم يعد هناك من عائق سياسي يؤخر ولادتها، خصوصاً بعد الزيارة الخاطفة لوزير الاتصالات في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل الى دمشق مصطحباً الوزير السابق ميشال سماحة. ومع أن زيارة باسيل أخذت شكل واجب اجتماعي لتعزية المستشارة الرئاسية السورية بثينة شعبان بوفاة والدتها، فإن المتابعين للاتصالات المكثفة التي أجريت في اليومين الأخيرين بين بيروتودمشق والتي بلغت ذروتها بعد عودة وزير الخارجية السوري وليد المعلم من طهران يؤكدون ل «الحياة» أن باسيل أجرى على هامش التعزية محادثات سياسية بامتياز مع كبار المسؤولين السوريين الذين أبلغوه رسالة من الرئيس بشار الأسد مفادها أن تأليف الحكومة يجب أن يتم قبل نهاية هذا الأسبوع وأن من غير الجائز التباطؤ في اتخاذ الموقف النهائي طالما أن الحقائب التي يعرضها الرئيس المكلف سعد الحريري على رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون باتت تشجعه على المشاركة وأن لا مصلحة لأحد في الاستمرار في المراوحة. ويؤكد المواكبون للاتصالات أن عون أوفد باسيل الى دمشق بعد أن اقتنع بأنه لم يعد أمامه سوى القبول بعرض الحريري وأن لا جدوى من الاستمرار في لعبة شد الحبال في محاولة لتحسين شروطه في الربع الساعة الأخير من موعد اعلان التشكيلة الوزارية، وألا فإنه سيصطدم بحائط مسدود. ويضيف هؤلاء أن عون اختار العاصمة السورية «ليبيعها» موافقته على عرض الحريري خصوصاً بعدما شعر بأن رئيس المجلس النيابي نبيه بري بات على قناعة بأن هذا العرض غير قابل للتعديل وأنه أكثر من عادل ووازن، إضافة الى أن حليفه «حزب الله» أخذ في اليومين الأخيرين على عاتقه مهمة اقناعه بالموافقة عليه مع أن حليفه الآخر زعيم تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية كان أول من نصحه بقبول العرض لكنه لم يأخذ بنصيحته وأدار له ظهره، ما اضطر فرنجية الى التنحي عن المهمة التي بدأها بين الحريري وعون بمباركة سورية مباشرة من الأسد. إلا أن تنحي فرنجية عن مهمته التوفيقية لا يعني أنه خرج منها فارغ اليدين بمقدار ما أنه نجح في التأسيس للاختراق السياسي الذي مهد الطريق أمام التوافق اضافة الى أنه قطع شوطاً لا بأس به على طريق تطبيع علاقته بالحريري بعد قطيعة سياسية وشخصية استمرت أكثر من أربع سنوات ولقي لدى الأخير تقديراً خاصاً لدوره، لا سيما أن زعيم «المردة» لم يبحث عن دور له من وراء مبادرته الى هذه الوساطة الصعبة والمتعبة في آن معاً، ولا عن مكاسب شخصية طالما أنه كان السباق في التنازل عن تمثيله بحقيبة وزارية. حتى أنه لم يمانع عدم تمثيله بوزير دولة إذا كان موقفه يدفع باتجاه «تنعيم» موقف عون. كما أن قرار عون الاستغناء عن الدور التوفيقي لفرنجية، تسبب له - كما يقول المواكبون للاتصالات - في احراج حليفه «حزب الله» مع أنه لم يتخل عنه ولو للحظة لأنه كان يفضل أن يستجيب عون لرغبة فرنجية المتعاون مع المعاون السياسي لأمينه العام حسين خليل في تسهيل مسألة تأليف الحكومة لما للتأخير من ضرر سياسي، خصوصاً بعدما تبين أن سببه استبدال حقيبة عادية بأخرى مماثلة. لكن، لماذا قرر عون ايداع موقفه المؤيد للاسراع في تأليف الحكومة لدى دمشق بدلاً من أن يسلفه لحليفه فرنجية؟ في الاجابة عن السؤال يؤكد المواكبون أن هناك مجموعة من التراكمات السياسية، على الأقل من جانب عون، دفعته الى عدم التناغم مع دور فرنجية في شأن التقريب في وجهات النظر بينه ورئيس الحكومة المكلف. ويلفت المواكبون الى أن أولى التراكمات بدأت عندما نصح فرنجية عون بعدم توزير صهره جبران باسيل الذي سارع الى الاعتراض على النصيحة بذريعة أن عدم توزيره سيصيب «التيار الوطني الحر» بالاحباط وذلك خلافاً للأسباب الموجبة التي عرضها فرنجية في معرض تبريره لصرف النظر عن توزير باسيل. ويؤكد هؤلاء أن فرنجية لم يقتنع بدفاع عون عن صهره لا سيما أن الأول كان نصحه بأن هناك في «التيار الوطني» وفي «تكتل التغيير» من الكفاءات ما يتيح لعون اختيار البديل. كما أن عون لم يقتنع لاحقاً بنصيحة فرنجية بعدم اسناد الاتصالات الى باسيل، إضافة الى أنه تعامل مع حليفه على أنه منافس له في الشارع المسيحي وبالتالي من غير الجائز أن يعطيه دوراً في انضاج الظروف السياسية لتأليف الحكومة. وفي هذا السياق يردد المواكبون أن الاستعداد الذي أبداه الحريري لجهة تقديم كل التسهيلات لتأليف الحكومة والذي أتاح لعون الحفاظ على مواقعه فيها لا يمكن أن يعوض ل «الجنرال» اهتزاز علاقته بفرنجية و «برودتها» مع النائب طلال أرسلان وعدم استقرارها بالحزب السوري القومي الاجتماعي بسبب جنوح عون الى الحصول على الحصة الكبرى في الحكومة بدلاً من أن «يتنازل» بعض الشيء لحلفائه ويقرر توسيع رقعة المشاركة بحيث تشمل حليفيه أرسلان و «القومي». كما يردد المواكبون أن التضحيات التي قدمها الحريري أتاحت له أن يكسب ثقة المجتمع الدولي الذي كان من خلال معظم سفرائه في بيروت يتصرف على أن الحريري لا يأخذ بالنصائح وأنه يريد الهيمنة على الحكومة بغية اضعاف عون. وتبين لعدد من السفراء أن أحكامهم المسبقة على الحريري لم تكن في محلها وأن الرئيس المكلف يخوض مفاوضات صعبة ومتقلبة مع عون الذي يرفض أن يتعلم من واقع الحال السياسي في لبنان بأن أي زعيم عليه أن يتحسب لأنه سيضطر في مكان ما الى تقديم تسهيلات أو تنازلات لمصلحة الوصول الى تفاهم سياسي فكيف إذا كان الأمر يتعلق بتأليف الحكومة. كما تبين لهؤلاء السفراء الأجانب أن الحريري، من خلال صمته وعدم الدخول في سجال مباشر مع عون، نجح في أن يستعيد تدريجاً حليفه رئيس «اللقاء النيابي» وليد جنبلاط الى موقعه الى جانبه بعد سوء التفاهم الذي حصل في أعقاب المواقف التي أعلنها جنبلاط في خطابه أمام الجمعية العمومية الاستثنائية للحزب التقدمي الاشتراكي في 2 آب (أغسطس) الماضي. فجنبلاط الذي كان يتمنى في مجالسه الخاصة على الحريري تقديم المزيد من التسهيلات، سرعان ما شعر بأن ما قدمه يكفي لحل مشكلة تمثيل عون في الحكومة وأن على الأخير أن يلاقيه في منتصف الطريق باعتبار أن التنازلات لا تقدم من جانب واحد. هذا بالنسبة الى الارتدادات المترتبة على عون في علاقته مع حلفائه، أما في شأن سياسة المراوحة التي اتبعها في مفاوضاته مع الحريري ولاحقاً مع فرنجية فإنها دلت على أنه لم يقرأ جيداً أبعاد التفاهم السوري - السعودي في شأن لبنان، وإلا لما كان أطال أمد المفاوضات من دون أن يحصل على تعديلات أساسية على الحصة الوزارية المعروضة عليه والتي كان لفرنجية دور في تظهيرها. ف «الجنرال» لم يدرك إلا أخيراً أن العلاقات السعودية - السورية أخذت تستعيد عافيتها بسرعة بعد القمة التي عقدت في دمشق بين خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس الأسد. وكان يعتقد كما قال له بعض حلفائه بأن الوضع اللبناني لم يحتل حيزاً رئيساً في القمة وبالتالي فإن الرهان على نتائجها لجهة خلق المناخ لتأليف الحكومة ليس في محله. كما أن عون - وبحسب المصادر المواكبة - كان يعتقد بأن تمديد الأزمة سيفتح الباب أمام تعديل النظام اللبناني بذريعة أن النظام الحالي لم يعد قابلاً للحياة، إضافة الى أنه لم يحط نفسه بعدد من الذين يجيدون القراءة في ملف العلاقات السورية - الايرانية وإلا لماذا وضع نفسه في موقع المراقب بدلاً من أن يستبق المحادثات بين المعلم ومتقي ويبادر من تلقاء ذاته الى التكيف بما يعفيه من كل هذا الاحراج.