ربما لو كان المفكر والكاتب المصري الدكتور مصطفى محمود لاعب كرة مشهوراً أو فناناً وسيماً أو سياسياً مثيراً للجدل أو راقصة فاتنة، لتصدرت أخباره الفضائيات، ولكان خبر وفاته هو الفقرة الرئيسة في غالبية البرامج ونشرات الأخبار المصرية. لكن رحيله تزامن وأخبار حروب وفضائح الفنانين ونزاعات السياسيين، ما جعل هذه الأخبار سيدة الموقف على شاشات التلفزيون. فيما اكتفت غالبية البرامج المصرية ضمن فقراتها بعرض تقرير مصغر عن حياة الراحل وأهم إنجازاته مع استعراض سريع لرأي عدد قليل من المواطنين عنه. علماً ان فقراتها الرئيسة تمحورت حول المؤتمر السنوي للحزب الوطني الذي انطلق في يوم وفاة مصطفى محمود نفسه، كما تطرقت التقارير الى أنفلونزا الخنازير، والمهرجانات الفنية المكتظ بها جدول القاهرة خلال هذا الشهر، والتشاحن الجزائري المصري بسبب مباراة كرة قدم. وعلى رغم أن قواعد اللعبة الإعلامية تنص على أن الأولوية هي للمادة التلفزيونية التي تجذب المشاهد وبالتالي المعلن، فاستقطاع جزء من أي برنامج للحديث عن مصطفى محمود ذي القاعدة الجماهيرية الواسعة لدى شرائح عمرية واجتماعية وثقافية مختلفة، كفيل بالتصاق المشاهد على مقعده لساعات. لكن الأضواء ابتعدت عن مصطفى محمود بعدما كان منذ سنوات في بؤرتها من خلال برنامجه «العلم والإيمان» الذي يعد نواة البرامج العلمية والحياة البرية والأمور الغامضة في الكون على مستوى مصر والعالم العربي قبل انطلاق الكثير من البرامج والفضائيات المتخصصة في هذا المجال. وحصد هذا البرنامج أكبر نسبة مشاهدة في ثمانينات القرن العشرين على الشاشة المصرية. وخلال400 حلقة، أطل محمود على المشاهد المصري بنظارته الكبيرة وشرود عينيه وهدوئه المعتاد ليأخذه في رحلة في الكون الواسع، فيعلّق على المادة ببساطة وعمق وإيمان لا تخلو من الفكاهة ومداعبة أبطال حلقاته من الحيوانات. فهنا يستقرئ ما يدور في خاطر طائر يريد الفرار من قيده «شوف شوف إزاي بيرفع رأسه، زيّ ما يكون بيتوسّل ليها تفكو وتسيبو يطير». وهنا يعبر عن مشاعر الصرصار بعد وفاة خنفسة، قائلاً: «أكيد الصرصار حيحزن ع الخنفسة يومين وبعيدن حيدوّرلو على خنفسة شابّة جديدة». أما العنكبوت فهو «ريا وسكينة ودراكولا وفرانكشتين». فكرة البرنامج تخمرت في عقل مصطفى محمود لفترة من الوقت، فعرضها على التلفزيون المصري الذي خصص له 30 جنيهاً مصرياً للحلقة الواحدة! لكن تكلفة البرنامج تستلزم نفقات لا يستطيع التلفزيون المصري تحملها لما تتطلبه من مواد علمية وفيلمية نادرة لم تكن وقتها متوافرة، لذا تحملت شركة إنتاجية جزءاً من الموازنة، ثم تولى محمود مسؤولية الإنتاج على نفقته الخاصة. وعلى رغم النجاح الساحق، فوجئ محمود باستبعاد البرنامج من خريطة التلفزيون المصري من دون إبداء الأسباب. لكن ابنه أدهم أشار فى برنامج «الحقيقة» على قناة «دريم» منذ أيام أثناء لقائه مع الإعلامي المصري وائل الإبراشي، الى «أن مؤسسة الأهرام تسلمت خطاباً من مدير مكتب رئيس الجمهورية للشؤون السياسية أسامة الباز عام 1994 بعد نشر محمود مقالاً في «الأهرام» أثار استياء منظمات يهودية انتقدت كتاباته لأنها تدخل تحت بند العداء للسامية». وكشف أدهم أن إسرائيل لعبت دوراً رئيساً في إيقاف البرنامج على القنوات الأرضية ممارسة ضغوطاً سياسية وديبلوماسية. مصطفى محمود العالم والمفكر والأديب والفيلسوف خذله التلفزيون في عجزه وموته بعد أن أعطاه الكثير في صحته ووهجه.