كانت فنون المسرح والاستعراض، جزءاً أساسياً من اهتمامات الرسام الفرنسي ادغار ديغا، بل ان اسمه ارتبط - ولا يزال مرتبطاً - بتلك اللوحات الرائعة التي مجدت فن الباليه وراقصاته، وتدريباته وكواليسه، كما تراءت لديغا في الزمن الذي عاش فيه، وكان زمن رقص وأوبرا وفنون رائعة. غير ان ديغا رسم مواضيع أخرى عدة، مثل سباقات الخيل والأحصنة وفرسانها، وأجواء القرون الوسطى. وكذلك رسم «بورتريهات» و «مشاهد عائلية» لأناس يعرفهم، من دون أن يبتغي المال. فديغا كان متحدراً من أسرة من المصرفيين. واللافت أن رسام المسرح والاستعراض الكبير، لم يتمكن أبداً من تحويل لوحاته الأخرى الى مشاهد مسرحية حتى ولو اقتضى الأمر ذلك. في الأحرى كانت المشاهد تبدو جزءاً من لوحات تصور متاحف للشمع، الى درجة ان من كان يزور، مثلاً، متحف غريفن الباريسي للتماثيل الشمعية، كان يدهشه مقدار التشابه بين مشاهد في لوحات ديغا وبين تلك المشاهد، حتى انه كان يسأل نفسه: تُرى من يقلد من؟ ذلك أن هذا النوع من اللوحات لدى ديغا، كان يقدم شخصيات تبدو، حتى ولو وجدت في لوحة واحدة، منصرفة الى شؤون خاصة بها، غير آبهة بنظرة الفنان التي هي نظرة متفرج اللوحة نفسه. بل ان معظم الشخصيات كان يبدو، حتى داخل اللوحة، على غير اتصال بالشخصيات الأخرى داخل اللوحة نفسها، ما يذكر حقاً بأروع لوحات الأميركي ادوارد هوبر، ذات الواقعية اللاتواصلية المفزعة، وحيث كل شخصية تبدو غارقة في وحدتها، في عملها، في التواصل مع ذاتها بغض النظر عن وجود الآخرين، لو وجدوا، في اللوحة نفسها. وإذا كانت لوحة «صقور الليل» لإدوارد هوبر تعتبر خير معبّر عن هذا التوجه، فإن المدهش ان هذا التوجه نفسه نعثر عليه، لدى ديغا، في واحدة من أكثر لوحاته «اجتماعية»، أي محاولة للتعبير عن مشهد جماعي يطاول عالم التجارة المتطلب أكبر قدر من التواصل بين الشخوص. لوحة ديغا التي تعنينا هنا، ونتحدث عنها، هي «وجوه في كونتوار» التي رسمها الفنان عام 1873. لقد رسم ديغا هذه اللوحة خلال زيارته خاله تاجر القطن ميشال موسون في مدينة نيوأورليانز الأميركية. والمدهش ان ديغا حين رسم اللوحة لم تكن سوى شهور قليلة قد مضت عليه وهو في تلك المدينة، بل حتى في القارة الأميركية كلها، ومع هذا يفاجأ الناظر الى اللوحة بمقدار ما فيها من أبعاد أميركية خالصة، حتى ليصعب عليه أن يدرك للوهلة الأولى ان راسمها فرنسي، أو هو ديغا تحديداً، اذ تبدو وكأنها واحدة من تلك اللوحات الأميركية الواقعية التي كانت ترسم بوفرة لتمجيد الحس الرأسمالي المركانتيلي، الذي كان رد أميركا على الحس الصناعي من ناحية، والاقطاعي من ناحية ثانية، والذي كان يتأرجح في العالم القديم. في اختصار، تبدو لوحة ديغا هذه وكأنها تمثل، فنياً، نظرة ماكس فيبر الى الذهنية البروتستانتية وعلاقتها الحاسمة بمفهوم العمل وصعود البروتستانتية. غير ان هذا كله لا يظهر الا للوهلة الأولى فقط. أما اذا تبحرنا أكثر في اللوحة، فإن ذهنية العالم الأوروبي، سرعان ما ستبدو ماثلة أمامنا، ولا سيما اذا استجبنا هنا دعوة ديغا الخفية، ورحنا نتأمل الشخصيات واحدة واحدة، بدلاً من أن ننظر اليها ككل. وفي هذا الصدد يبدو العنوان الذي وضعه ديغا للوحته فصيحاً: «وجوه في كونتوار». والحقيقة ان استخدامنا كلمة «وجوه» في الترجمة العربية نابع من عدم وجود معادل عربي واف لكلمة «بورتريه» التي هي العنوان الأصلي «بورتريهات»، ما يعني ان الرسام يدعونا، الى النظر الى الأربع عشرة شخصية الماثلة في اللوحة، كونها تشكل ذلك القدر من البورتريهات، كل على حدة. ذلك ان تأمل اللوحة سيضعنا أمام هذا الواقع: واقع ان كل شخصية تبدو منصرفة الى عملها أو الى نشاطها الخاص، من دون أن توجد في ما بينها، سوى «صدفة» وجودها معاً في هذا المكان. صحيح ان تجارة القطن، هي النشاط الأساس هنا، وأن كل واحدة من الشخصيات تبدو مرتبطة، في شكل أو في آخر، بهذا النشاط، تفحصاً للمنتوج المطلوب، المتاجرة به، أو قراءة لأسعاره في البورصة، أو انتظاراً لمكالمة ما، من المنطقي القول انها تتعلق بصفقة قطنية معينة، أو عرضاً للنتاج أمام زبائن محتملين، وما الى ذلك، كل هذا صحيح، لكن تركيب اللوحة نفسه - وهو تركيب يتضح للناظر المدقق حجم تشابهه مع تركيب مشاهد متاحف الشمع، بمعنى أنه يلوح هنا مضاداً للاستعراضية، ذلك ان من خصوصيات مشاهد متاحف الشمع ان المتفرج يحاول ان يقيم علاقة بصرية - ذهنية مع كل شخصية يراها أمامه على حدة - تركيب اللوحة نفسه يشي بذلك الانفصال التام بين الشخصيات. وهذا النوع كان، في ذلك الحين، وعلى الأخص في منظور مفكرين ورسامين أكثروا من زيارتهم للقارة الجديدة، يبدو جزءاً من سمات هذه القارة ومن سمات الحياة العملية فيها. والسمة العملية تلوح في لوحة ديغا هنا، من خلال واقع يقول لنا كم ان الكل هنا منهمك في عمل ما. ليس ثمة استرخاء، وليس ثمة وقت ضائع في ثرثرة بين اثنين. بل حتى ذلك الشخص المستند الى النافذة يمين اللوحة والذي يبدو للوهلة الأولى انه لا يفعل شيئاً، من الواضح انه هنا في انتظار برقية او مكالمة هاتفية، ولنلاحظ هنا انه الوحيد الذي ينظر الى الآخرين بانتباه واهتمام، قد لا توحي بهما للوهلة الأولى وقفته المتراخية... هو الذي سرعان ما سنتنبه إن نحن تأملناه، انه - انطلاقاً من المناخ العملي العام في اللوحة والذي يتأمله في نظرة شمولية - انما يحضّر خطوته التالية أو رده على المكالمة أو البرقية التي ينتظرها، والتي من الواضح أنها متعلقة بأسعار القطن أو بصفقة معينة. والذي علينا ملاحظته في خضم هذا كله هو أن ديغا حقق لوحته، من دون أن يدخل فيها أي عنصر توتر: ليس لنا هنا أن ننتظر أي مفاجأة أو أي خبطة مسرحية استثنائية: انه يوم عادي في مكان تتم فيه المتاجرة بالقطن، رصده الرسام، صوّره، ووقف منه موقفاً محايداً. كان ادغار ديغا في الثامنة والثلاثين حين قام بتلك الزيارة الى ولاية لويزيانا الأميركية (ذات الأكثرية والنطق الفرنسيين في ذلك الحين) حيث كان خاله من كبار تجار القطن فيها. وقد أقام أيضاً هناك شهوراً، رسم خلالها الكثير من اللوحات التي صورت الحياة العائلية كما صورت عالم الأعمال، لكن الغريب ان لوحاته تلك لم تلفت الأميركيين كثيراً، بحيث انه لم يبع هناك سوى لوحات قليلة. لذلك حين عاد في العام 1873 - عام رسم هذه اللوحة - الى فرنسا، أرجع اللوحات معه. غير ان اللوحات لم تر حتى في فرنسا في ذلك الحين. بل كان على هذه اللوحة نفسها أن تنتظر، انتشار لوحات ديغا الفرنسية، ولا سيما لوحات الباليه وعالم الليل، قبل أن يقبل عليها الهواة وجامعو اللوحات. واللوحة موجودة في «متحف الفنون الجميلة» في مدينة بو في الجنوب الغربي الفرنسي، وتعتبر من أبرز أعمال ادغار ديغا (1834 - 1917). [email protected]