على رغم تعدد الروايات والأقاويل التي كثرت عن البئر الواقعة في عسفان، (شمال شرقي محافظة جدة) والمسماة «بئر التفلة»، إلا أنها ما زالت ملاذاً ومزاراً لعدد من الجنسيات والزوار القادمين من مكةالمكرمة أو المدينةالمنورة، إذ يعتقدون بقدسية تلك البئر. 50 كيلو متراً تبعد محافظة عسفان عن عروس البحر الأحمرجدة، وتقع في الوسط ما بين منطقة الجموم المؤدية إلى مكةالمكرمة، والطريق المؤدي إلى المدينةالمنورة، واشتهرت المحافظة بكثرة الآبار والنخل قديماً، إضافة إلى أنها كانت تسمى بالأبواء، ويعيش فيها نحو ثلاثة آلاف نسمة حالياً. يقول أحد أهالي عسفان عطية عويش الذي يمتلك مقهى على قارعة الطريق الرئيسي في المحافظة، إن محافظة عسفان تمتلك الإرث التاريخي والأثري منذ القرن الأول في العهد الإسلامي، وذلك لوجود بئر «التفلة»، التي يعتقد أنها مباركة من عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ويروي عويش أن المحافظة تستقبل سنوياً عدداً كبيراً من الزوار والحجاج القادمين إليها لرؤية تلك البئر التي تعود الروايات التاريخية إلى أنها بئر مباركة، والسبب في ذلك يعود إلى أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم مزج ريقه بماء البئر، وذلك عندما بصق فيها، فأصبح ماؤها عذباً، وغير منقطعة من الماء على مر العصور. ويضيف: «أكثر من يزورون البئر ويأتون إليها هم حجاج جنوب شرقي آسيا، ومن مصر وباكستان، إضافة إلى أهل اليمن من أتباع الطائفة الزيدية، إذ كانوا يأتون إليها قديماً بواسطة الجمال، ويبيتون بجوارها، لاعتقادهم بأن ماء البئر عذبٌ زُلال، ولا تستساغ عذوبتها إلا عند رفعها بالطريقة البدائية بواسطة الدلو». ويشير إلى أن المسافة التي كان يقطعها الحجاج القادمون إلى عسفان من مكةالمكرمة تقدر ب 18 ساعة بواسطة الجمال، والتي كانت أيضاً طريقاً يمتد بالحجاج إلى المدينةالمنورة بعد أدائهم مناسك الحج، مشيراً إلى أن أهالي المحافظة أنشأوا بالقرب من تلك البئر سوقاً واستراحات للحجاج، وذلك كخدمات تقدم للزوار والمارين من محافظتهم، أو القاصدين لزيارة تلك البئر. فيما لا يتفق يحيى البشري أحد الأهالي المقيمين في محافظة عسفان مع تلك الروايات التي تقول إن البئر مباركة وتعود إلى عهد النبوة في عصر الإسلام الأول، معللاً ذلك القول بأن العذوبة التي توجد في البئر من دون بقية الآبار السبع تعود إلى مياه الأمطار المختزنة في باطن الأرض، إضافة إلى وجود المياه الجوفية تحتها بكثرة. ويقول إن ما ثبت فعلاً عن محافظة عسفان هو صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمحافظة صلاة الخوف ومروره بها، والتي كانت بسبب اعتراض المشركين بينه وبين القبلة، مشيراً إلى أن الشركة المنفذة للطريق الواصل ما بين مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة حاولت الاستفادة من تلك البئر بتركيب أحد المضخات عليها لاستخراج الماء، إلا أنها باءت بالفشل. أما عبدالله البشري من ساكني منطقة عسفان، فيرى أن عذوبة ماء البئر المسماة ب «التفلة» لا يمكن أن تكون إلا بسبب بركتها، وامتزاجها بريق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إذ إنها معلم تاريخي ومزار للسياح القادمين إلى السعودية، مشدداً على ضرورة اهتمام الهيئة العامة للسياحة والآثار بتلك البئر. «بلدية عسفان» تدعو إلى الاستفادة من مائها... وتتعهد بحمايتها الإرث التاريخي والموقع الذي تتميز به بئر «التفلة»، جعلت المجلس البلدي في محافظة عسفان يطالب الهيئة العامة للسياحة والآثار بضرورة فتح الأسوار التي حالت بين السياح والزائرين من رؤية البئر، وجاءت عائقاً أمام الكثير من مرتادي المنطقة، إضافة إلى مطالبات بلدية عسفان بالاستفادة من مياه البئر في سقيا المزارع والمسطحات الخضراء، والتعهد التام بحماية البئر من مخالفات الزوار والسائحين لها. وأكد رئيس بلدية عسفان المهندس فيصل آل مخلص خلال حديثه إلى «الحياة» أن البلدية طالبت مراراً وتكراراً أثناء تواصلها مع الهيئة العامة للسياحة والآثار بضرورة فتح الأسوار التي أغلقت البئر، والسماح للزوار والمرتادين بالذهاب إليها. وأوضح أن الهيئة العامة للسياحة والآثار أوفدت مجموعة من الخبراء لزيارة المحافظة والاطلاع على موقع البئر، إضافة إلى المواقع الأثرية الموجودة في المحافظة، ومن ضمنها بئر «التفلة»، مثمناً تعاون الهيئة مع البلدية والأهالي في المحافظة. وأشار آل مخلص إلى أن البلدية تواصلت مع الهيئة العامة للسياحة والآثار في شأن الاستفادة من مياه البئر، وذلك بإرواء المسطحات الخضراء، والمزارع الموجودة في المحافظة، إضافة إلى تعهدنا بمنع الممارسات الخاطئة التي قد تصدر من بعض الزوار عند البئر، لافتاً إلى أن الهيئة بدورها تواصلت مع وزارة المياه والكهرباء في السماح لنا باستخدامها. وأضاف: «خاطبت البلدية هيئة السياحة والآثار بأن تسلمنا البئر لتتم الاستفادة من مائها، لسقيا الحدائق والمسطحات الخضراء، لوجود كميات مياه جيدة بتلك البئر وشح المياه الصالحة للزراعة بمركز عسفان، وبناء على طلبنا تقدمت الهيئة مشكورة بمخاطبة وزارة المياه إلا أنه لم يتم تسلمها، على رغم أن البلدية عملت على ترميم البئر القديمة المجاورة لبئر التفلة وإعادة بناء السور الحجري». من جهته، قال عضو المجلس البلدي محمد البشري ل «الحياة» إن البئر المسماة ب «التفلة»، تميزت عن بقية الآبار الموجودة في المحافظة، والبالغ عددها سبع آبار، وذلك بأنها ما زالت مليئة بالماء العذب، برغم جفاف بقية الآبار في المحافظة، مبيناً أن إغلاق البئر سيجعل ماءها مالحاً بسبب عدم استخراجه واستخدامه. وأضاف: «كانت تلك البئر في السابق عذبة غير منقطعة من الماء، بيد أنها الآن أصبحت مالحة نوعاً ما بسبب إغلاقها وإقامة السور عليها، وأدعو هيئة السياحة والآثار إلى فتح أبواب البئر، ليتمكن عشاق السياحة من التمتع بها ومشاهدتها والتقاط الصور بجوارها». باحث: تعددت الدراسات حولها على مر العصور اعتبر الباحث في المعالم الإسلامية الدكتور سمير برقة أن البئر الواقعة في محافظة عسفان (تبعد عن مكةالمكرمة 80 كيلو متراً) والمسماة ب «التفلة»، تأتي ضمن الاهتمامات التاريخية للباحثين عن الآثار النبوية في العصر الحديث، إذ إن العديد من الأبحاث والدراسات تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتزج ريقه بماء البئر. وأشار خلال حديثه إلى «الحياة» إلى أن الدراسات التي تقول بتلك الرواية، خالفتها أيضاً دراسات ترى بغير ذلك والتي تعدها من الأقاويل والروايات غير الصحيحة، لافتاً إلى أنه جاء ذكرها في كتاب «السير والتاريخ» وكتاب «التفسير الكبير». وأضاف: «في تفسير الآية 22 من سورة الحج عن ابن عباس قال حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أتى وادي عسفان قال «لقد مر بهذا الوادي نوح وهود وإبراهيم على بكرات حمرٍ خطمهن الليف يحجون البيت العتيق»، إضافة إلى ورودها في كتاب تفسير القرآن الكريم لابن كثير». وأوضح برقة أن كتاب جمهرة الرحلات عن الرحلة العياشية «ماء الموائد» لأبي سالم العياشي، أكد أن قافلة بالثنية مرت بعسفان وأوضحت أن الطريق فيها مبنية ملتقطة أحجارها، لافتين أنهم ذكروا وجود تلك البئر التي يقال إن الرسول بصق فيها بريقه، مؤكدين أنهم شربوا منها تبركاً بأثر الرسول. وأفاد بأن كتاب «الرحلات الحجازية» للواء إبراهيم رفعت باشا وصف بئر عسفان المسماة ب «التفلة»، وهي مبنية بالحجر الأسود المتين وسمك جدارها متر ونصف، وعمقها ثمانية أمتار، مضيفاً: «وماؤها عذب كماء النيل ويقال إن النبي شرب منه». أكاديمي يطالب بجدولة البئر ضمن الرحلات السياحية يروي الأكاديمي في جامعة أم القرى أستاذ التاريخ الدكتور فواز الدهاس ل «الحياة» أن الروايات التي تذكر مرور الرسول الكريم بمنطقة عسفان عام الفتح وعسكر بجيشه هناك، تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم شرب من ماء تلك البئر، وكانت تلك البئر جافة، فبصق الرسول الكريم عليها ففاض ماؤها ولم ينضب حتى الآن، معتبراً أنها في حال صحت تلك الرواية فإنها من بركات الرسول المختصة به، وإحدى المعجزات. وأضاف: «كانت إحدى الشركات تود أن تستفيد من البئر فوضعت آلة لضخ الماء في داخلها واستخراجها، إلا أن تلك الآلة لم تشتغل، وتم نقلها إلى بئر أم الدرج وهي على طريق مكة القديم فاشتغلت تلك الآلة، وتسوير تلك البئر يعود لعدة أسباب قد يكون لسبب أمني خشية سقوط أحد فيها، أو لسوء استخدام بعض الحجاج والمعتمرين في اعتقادهم الخاطئ بها». وطالب الدهاس من اللجنة الاستشارية للعناية بمواقع التاريخ الإسلامي الذي يعد أحد أعضائها، بجدولة المواقع التاريخية وتسميتها وتسويرها، إضافة إلى تعاون المجتمع مع اللجنة في التبليغ عن المواقع الأثرية الأخرى للاهتمام بها، مشيراً إلى مكافأة من يبلغ الهيئة عن تلك المواقع. وأشار إلى ضرورة وجود تلك المواقع ضمن الرحلات السياحية لدى الهيئة العامة للسياحة والآثار وتصنيفها ضمن الزيارات السياحية، واعتماد مرشدين سياحيين لها.