يحمل كتاب الناقدة السورية خالدة سعيد «في البدء كان المثنى» (دار الساقي)، في طياته مناسبتين لا واحدة، تخصّ الأولى النقد نفسه؛ لكونها مناسبة لينظر النقد إلى صورته في مرآته كما لو أنه نرسيس غبّ اكتشافه جماله، ليمدح نفسه مرتين: مرةً لجمال المعرفة ومرةً لجمال لغة المعرفة. أمّا المناسبة الثانية فتخصّ النساء، إذ إن الكتاب الجديد مخصّص للكشف عنهن بما هنّ، فليس شرطاً أن تكون المرأة مبدعة ككاتبة أو شاعرة أو فنانة فحسب، بل إن خصوصية تجربتها ووجودها في العامّ قبل الخاصّ هما أسّ خيار خالدة سعيد على ما يبدو. ومع ذلك، فإن هذا الكتاب لا يندرج البتة تحت اسم الكتابات النسوية على الإطلاق، فهو كتابٌ نقدي عميق ينظر في وضع المرأة في المجتمع العربي من زوايا متعدّدة على نحوٍ يكشف فيه منظومة هائلة من الأفكار المسبّقة التي وإن كانت تخصّ المرأة هنا، إلا أنها ترتبط في الوقت نفسه، بأمور تتعلق بالعلم والمعرفة والتربية وإعلاء العقل، وكلّ ما من شأنه أن يخفّف من حدّة التخلف والأوضاع المتردية في المجتمع العربي. مقدّمة الكتاب تستحق بذاتها تحيةً كبيرةً، ففيها تبسط الناقدة اللامعة أفكارها التنويرية بمنهجية صارمة، لكن انسيابية مغلّفة بلغةٍ علميةٍ فائقة الدقّة. ومن شأن لغةٍ مماثلةٍ أن تطرد التأويل الذي يُخرج القول عن مساره المحدّد بدقة متناهية. خطوة خطوة وبدأب ومعرفة وافية تنجح سعيد في رسم وجهة كتابها الذي يبحث في وضع المرأة المتدني: أسبابه وخلفياته ونتائجه على اختلافها وتشعبها. تلاحظ أولاً أن «نوازع الهيمنة التي يتحرّك بموجبها الفرد المذكر تتخذّ سمة الانتداب الجمعي والتراثي، حيث الرجل المفرد يتصرف كممثلٍ لعموم جنس الرجال وللسلطة المعنوية الجمعية وحتّى الدينية... وهذا الإرهاب يتعدى امرأة بعينها إلى جنس بتمامه». ولئن كانت ذريعة الدين جاهزةً لتبرير وضع المرأة، فإن سعيد لا تنخدع بظواهر الأفكار المسبقة، بل تفكّكها واحدةً فأخرى. فهي تبدأ بفكّ الارتباط بين النصوص – (الأصول) والمرويات والكتابات اللاحقة عليها إذ تكتب: «هذا البون ينجم عن التفاوت الذي لا يكفّ عن التضخّم بين المنبع البدئي للأديان (أي النصوص الأساس) والإرث التاريخي الثقافي الاجتماعي السيكولوجي الذي يحضر في المرويات ويُحمل على الأصول». ولئلا يغدو كلامها منبتّاً عن المعرفة، فإنها لا توفر الأمثلة التي تبين التعارض الكبير بين ما قاله المسيح وما قاله اللاهوتيون من بعده عن المرأة فتسألُ: «إلى أي درجة يشبه هذا الكلام وهذا الموقف مسيرة المسيح وما ورد على لسانه في الأناجيل وما دونته الأناجيل من مواقفه إزاء النساء الخاطئات وغير الخاطئات؟ وأين طالب المسيح بعقاب النساء أو إذلالهن أو تحجيبهن انتقاماً من خطئية حواء؟»، ولا تلك التي تبين «سوء المقصد» في نسب خطيئة أكل الثمرة المحرمة إلى حواء، حيث تستشهد برد بنت الشاطئ على عباس محمود العقاد، وتكتب استنتاجها السليم: «فلا اختصاص للمرأة بالخطيئة ولا بالنار في النص القرآني، بل لا وجود لاسم حواء في القرآن الكريم». وإن كانت الذريعة تربط بين وضع المرأة ودرجة التخلف، فإن سعيد في المرصاد لصدّها، فمن خلال الأمثلة - التي تُشرّق وتغرّب - تبين أن «منْزلة النساء المتدنية لم تكن دائماً تابعة لدرجة التخلّف والتقدّم العلميين أو لدرجة الحضارة الصناعية. ولم تكن بالقطع تابعة لخصوصية الدين». طريدةً طريدةً تلاحق الناقدة الذرائع الواهية، وحجةً فحجةً يتضحّ الصيد الثمين الذي تقدّمه للقارئ: خصوصية المرأة هي الذريعة الأكثر مكراً، إذ إن الجميع - سواءٌ كان جاهلاً أم عالماً – يتلقفها. بيد أن خالدة تقلب الأمور إذ تكتب: «الذكورة هي أيضاً خصوصية، فلماذا تكون المرجع أو المعيار الذي يقاس عليه؟». وتضيف: «الخصوصية أنثوية كانت أم ذكورية ليست نقصاً ولا امتيازاً». ومن خلال دكّ المسلّمات والذرائع بالحجج المنطقية، تنفذ الناقدة إلى «الإنسانية» التي توسع دائرة البحث، فيطاول المسألة من الناحية القانونية، وبصورة خاصّة قانون الأحوال الشخصيّة المعوق الأساس لحراك المرأة. ف «صحيح أن الدولة الحديثة قطعت شوطاً كبيراً مبتعدةً من دولة الخلافة والدولة الدينية على مستوى قوانين الدولة والإدارة... إلا قانون الأحوال الشخصية فإنه باقٍ لا يمس»، بمعنى أن وجود الطبيبة والوزيرة والمديرة وسواهنّ أقرب إلى السراب الخادع، حيث إن المرأة و«مع ذلك وفي الوقت نفسه تبقى مكبلةً بقانون الأحوال الشخصية»، الأمرُ الذي تستفيد منه خالدة سعيد لترمي سهماً مصيباً: «ومن الأدلة على المفارقة بين القناعات النظرية وإشكالية العلاقة الشخصية بين الأنثوي والذكوري سلوك رجال قانون ومثقفين كبار... إزاء نساء في عائلاتهم سلوكاً غير قانوني ولا عقلاني». زد على هذا، سراب آخر يرى في ما اكتسبته المرأة فضيلةً تستحق مديحاً لا نهائياً، بينما ترى الناقدة الحصيفة المتخفّفة من الأوهام أن «ليس حصول النساء على بعض الحقوق والحريات محصناً ضد الانتكاس». بل إنها ترى أبعد وتقترح العمل على مستويين، الأوّل قانوني لا غنى عنه، والثاني ناجم عن الرواسب الموروثة، التي «لا بدّ لها من زمنٍ ومن أنواع متواصلة من التحليل والتأويل المتكرر المتجدّد على أيدي رجال ونساء». بعد هذه المقدّمة/ المتن، تنتقل خالدة إلى قاسم أمين، الذي تخصّه بفصلٍ مؤلّفٍ من ستة مقالات تحيطُ إلى حدّ كبير بأفكاره، فتبسطها أولاً ثم تربطها بسياقها التاريخي: «كان يطعن في قيم عصرٍ فيه يستمدّ الشرف والجاه من السلطة والارتباط بها وما توزعه من ألقاب ومراتب»، وتبيّن منهجه القائم على التوفيق بين العلم والدين؛ إذ كان «يحرص باستمرار على أن تكون نتائجه مقبولة من وجهة النظر الدينية، فلا يقع في تناقض مع الدين» من جهة، ومن جهة أخرى كان أمين «يحيل باستمرار إلى النتائج العلمية والإحصائيات والاختبار التاريخي». لكن ذلك لا يمنع - طالما أن التحليل العلمي هو الفيصل - من نقده، إذ تشير سعيد إلى التناقض لدى أمين: «فهو تارةً يشدد على إنسانية المرأة وعلّة رفض النظر إليها كإنسان، وتارةً يتكلم عن المرأة ببعدها الوظيفي البيولوجي»، ذلك أنّ الغاية الأساس من كتابها تدور حول فكرة الإنسانية التي من شأنها إنصاف المرأة. هذه الفكرة هي التي تنتظم المقالات المتنوعة وفقاً لسلكها. فعلى رغم أنها تدور حول نساء متميزات بسبب تجاربهن، إلا أن القصد هو مدح العمل الدؤوب الذي قمن به كل في مجالها، وهكذا نجد الضحيّات الناطقات: مختار ماي وعائشة عودة وسهير التلّ، إلى جانب الباحثات: لور مغيزل وفاطمة المرنيسي وروز غرّيب وسعاد الحكيم التي لا غنى عن كتابها «المعجم الصوفي»، ثمّ الى جانب إلى الكاتبات: مي غصوب وفدوى طوقان وأندريه شديد وأسيمة درويش وسحر خليفة وليانة بدر، ومن بعدهن الشاعرات والفنانات: ناديا تويني وسنية صالح وسلوى روضة شقير ومنى السعودي وأنجليكا فون شويدس. لكلّ واحدةٍ منهن نصيبٌ من قلم خالدة النقدي التي توائم بين الموضوع ومصطلحاته، فتحترم هذا الأخير من دون أن تتكئ عليه، فالأصل هو الإفهام لا التبجح، والقصد هو الترغيب لا التنفير، الأمرُ الذي ينعكس ماءً زلالاً على لغتها الرقيقة الدقيقة، التي تميل إلى تلبية طموح النقد في أن يكون موضوعياً، ويظهر هذا بصورة خاصّة في مقام مقالٍ قد يشدّها إلى الذاتية (سنية صالح؛ مشروع الحضور الشعري). ولكن لا شيء، لا شيء يصمد أمام دأب خالدة سعيد وموضوعيتها، إذ تكتب عن أختها الشاعرة قائلة: «يتميّز شعرها من أدب النساء عموماً بأنه لا يتوجه إلى الرجل. المخاطب هنا ليس الرجل بل الإنسان». الناقدة خالدة سعيد التي استعارت لقلمها في البداية اسماً من الزهور (خزامى صبري)، لتكتب عن الشعر الحديث غبّ تفتحه، يليق بها المدح الذي يربط بين الاسم وصاحبته. فإن كان لكل شاعر شيطانٌ مقيمٌ في وادي عبقر، يلهمه الذكاء والفطنة في تصريف القول الجميل، فإن لها نصيباً مختلفاً، ولها وادٍ برمّته لاسمها، ينشق عن نصفين؛ نصفٌ للخلود وآخر لسعادة المعرفة.