استعاض مجلس المطارنة الموارنة في لبنان بعد اجتماعهم الشهري أمس، برئاسة البطريرك بشاره الراعي وحضور الكاردينال نصر الله صفير، عن بيانهم التقليدي بإصدار «مذكرة وطنية» حددت مجموعة مواقف من القضايا السياسية العالقة في لبنان، خصوصاً «أننا على مشارف عهد رئاسي جديد، وفي مرحلة دقيقة وصفها البابا فرنسيس بأنها مرحلة مقلقة، نتيجة صراع سياسي سيؤدي، إذا استمر، إلى المزيد من «الاختلافات من شأنها أن تقوض استقرار البلاد». وعبرت الكنيسة المارونية عن هواجس «من استمرار التفرد والتعنت والطمع في السلطة، وتنازع عليها على حساب الميثاق، وتعطيل الدستور لصالح صراع القوى، وشل الدولة جراء لعبة تجاذبات المحاور الخارجية»، مؤكدة أن كل ذلك وغيره «يأخذ لبنان نحو الهاوية». وشددت على وجوب «انتخاب رئيس جديد للجمهورية، كرئيس للدولة وحام للدستور، من ضمن المهلة المحددة دستورياً وخارج أي جدل دستوري، كشرط أساس الذي من دونه لا حضور للدولة ولا انطلاق نحو المستقبل». وتوقف مجلس المطارنة عند ذكرى مئوية إعلان «لبنان الكبير» بعد 6 سنوات، مذكراً ب «جهود البطريرك الياس الحويك، الذي حمل إلى مؤتمر السلام في فرساي، سنة 1919، أماني اللبنانيين المشتركة في تحقيق وطن يليق بالإنسان». وشدد المطارنة في المذكرة على انه «حان الوقت لترجمة الإيمان بلبنان بالتركيز على أسس قيام الدولة، والالتزام بها فعلاً لا قولاً، من قبل كل القوى السياسية». وأعاد المجتمعون التذكير في مذكرتهم ب «الثوابت الوطنية: العيش المشترك، الميثاق الوطني والصيغة»، مشيرة إلى أن «مقولة العيش معاً التي يتمسك بها اللبنانيون ليست شيئاً عرضياً أو شعاراً مرحلياً، إنما هي لب التجربة اللبنانية، على رغم بعض التصرفات التي تحدو ببعضهم أحياناً إلى الشك بهذه التجربة». وعن «الميثاق الوطني»، ذكرت المذكرة بمفهوم «منجزي الاستقلال لشعار «لا شرق ولا غرب»، فأرادوه أولا كقاعدة لتأسيس دولة تحقق أماني اللبنانيين جميعاً وتبعدهم عن المحاور والصراعات، بتخلي خصوصياتهم عن الانشداد إلى اعتبارات تتخطى الكيان اللبناني ودولته، وثانياً كأساس لبناء علاقات هذه الدولة مع الخارج، المدعو إلى الاعتراف بخصوصية لبنان، لكونه مثالاً للعيش معاً بين الديانات والحضارات المختلفة». وأكدت أن «ما أنجزه اللبنانيون معاً، في زمن التأسيس، من ميثاقية وخبرة دستورية وسياسية، خليق بأن نفخر به، ونستعيده في هذا الزمن الدقيق الذي يعيشه لبنان والمنطقة. ويصلح لأن نستلهمه في حياتنا الوطنية، وفي خياراتنا السياسية، كي نتلافى ما قد يعرض جوهر التجربة التأسيسية لانتكاسات خطيرة». وتوقفت المذكرة عند «هاجس الوضع الراهن الذي بلغ مرحلة الأزمة المصيرية»، وإذ ذكرت بالمجمع الماروني الذي عقد بعد الحرب اللبنانية، وذكرت بالخلاصة التي انتهى إليها وهي «أن ما ينقذ التجربة اللبنانية مضي اللبنانيين قدماً في استكمال إنجاز بناء الدولة، وفقاً للميثاق والدستور»، استعادت «شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان» (2009) التي أقرت توجهات واضحة للمستقبل وشكلت هذه النصوص نوعاً من جرس إنذار مبكر، حيال ما آل إليه الوضع الداخلي اللبناني الذي يذهب مذهباً مقلقاً». وطالبت اللبنانيين أن «يعوا بأن أي مشروع وطني لا يمكن أن يتجذر في الواقع، إلا إذا أنتج دولة عادلة وقادرة ومنتجة، في كيان مستقر يخدم الإنسان، وإلا يكون المشروع الوطني غير قابل للتطبيق، والكيان دائم الاهتزاز، والمواطن في مهب الريح. ومن نتائج هذا المنزلق الخطير، بروز «الأمن الذاتي» الذي يعلل مبرر وجوده بعجز الدولة عن الوقوف في وجه المخاطر الحيوية، فيبيح لنفسه حق الدفاع عن ذاته... وعندئذ ينجر القوي إلى فرض خياراته على الآخرين، فتبدأ المواجهة في الداخل، ويلجأ كل فريق إلى الاستقواء بالخارج، فتدخل البلاد في صراع المحاور». وأكد المطارنة أن «هذا هاجسنا الأكبر الذي يحكم على لبنان بحال من العجز السياسي الخطير، الذي لم يعرفه في أحلك الظروف التاريخية». وفندت هذه الهواجس ب «عدم الوضوح في تحديد المصلحة الوطنية المشتركة العليا» والالتزام بها، ما يؤدي في الغالب إلى ممارسة سياسية تجنح إلى المحاصصة ودوائر النفوذ، بدلاً من تحقيق العدالة احتراماً للميثاق ومنطق الدولة». وتحدثت عن «تكبيل المؤسسات الدستورية ورهنها بخيارات الأفرقاء الذين يدعي كل منهم أن خياراته هي المنجية. فليس من المنطق بمكان أن يتغنى اللبنانيون بأن لديهم ديموقراطية ودستوراً ومؤسسات، وهم في معظمهم يناقضون الديموقراطية لصالح الاستقواء، ويعلقون الدستور رهناً بحسابات ذاتية أو فئوية، ويعطلون المؤسسات باستغلالها كل على هواه. وطغى على الحياة السياسية عندنا استغلال مبرح «للديموقراطية التوافقية» ما أدى إلى عجز اللبنانيين عن إيجاد الحلول داخلياً، وحاجتهم الدائمة إلى ناظم خارجي يبدع لهم التسويات». حصرية القوة العسكرية كما توقفت عند «عرقلة تكوين السلطة. ومن النتائج الخطيرة لتكبيل المؤسسات الدستورية تحويل الاستحقاقات الدستورية بمهلها أزمات وجودية، بدلاً من أن تكون فرصاً للديموقراطية من أجل تداول سلس للسلطة، وكأننا أمام صراع آلهة في الأساطير اليونانية. وخير مثال على ذلك: عدم التوصل إلى اتفاق على قانون انتخابي عادل، وعدم إجراء الانتخابات في موعدها، ما أوصل إلى تمديد للمجلس النيابي، وعدم التمكن من تشكيل حكومات في مهل معقولة، والتخوف من إحداث فراغ في رئاسة الجمهورية». وأشارت إلى «إقحام لبنان في قضايا الجوار من دون التبصر في ما يعود به ذلك على الوطن وتركيبته. ويبدو أن المبدأ الميثاقي «لا شرق ولا غرب»، بما يعنيه من عدم الالتحاق بمحاور، لم يعد يحكم تحركات بعض الجهات اللبنانية نحو الخارج. فهل فقد اللبنانيون الثقة بتجربتهم حتى يتخلوا عن دورهم كسفراء للتجربة اللبنانية؟». وأسهب المطارنة في التنبيه إلى أهمية «حياد لبنان الإيجابي أنجع الطرق للحفاظ على التعددية. كما أن حياد لبنان المرتكز على قوته الدفاعية بدعم الجيش وسائر القوى الأمنية، والملتزم قضايا الأسرة العربية، وبخاصة القضية الفلسطينية، وتلك المتعلقة بالعدالة، والعيش معاً، والتنوع في الوحدة، وحقوق المواطنة، وبناء السلام، يشكل حاجة للمنطقة تفرض وجوده. وكي يتمكن لبنان المحايد من تأدية رسالته، يجب أن يكون قوياً للدفاع عن نفسه ولخدمة محيطه. وإلى أن يستطيع استكمال مسيرة الحياد، يجب تحييده عن الصراعات بين المحاور الإقليمية والدولية، كما نص عليه «إعلان بعبدا»، الذي يعتبر خطوة مهمة على هذا المسار، وعدم السماح باستعماله مقراً أو ممراً أو منطلقاً لأي عمل من شأنه أن يورطه في هذه الصراعات أو في أزمات تتنافى وخصوصيته، والتوصل إلى الإستراتيجية الدفاعية الوطنية المنشودة، التي تمكن لبنان من استرجاع أراضيه وحماية حدوده». وشددت الكنيسة المارونية في مذكرتها على أن الخروج من الأزمة «لا يكون إلا بالعودة إلى المصلحة الوطنية العليا على أسس الميثاق والدستور، لأن لبنان، إما أن ننجزه معاً أو لا يكون. ويحتاج ذلك إلى حوار شفاف وصريح يفضي إلى سلام داخلي حقيقي، وإلى تحديد الأولويات للنهوض بلبنان. وهاتان المسؤوليتان ملقاتان أيضاً على عاتق رئيس الجمهورية الجديد، الذي يعد انتخابه ضرورة للبنان، كي يظهر لذاته وللعالم أنه بلد يحترم ديموقراطيته في تداول السلطة، وأنه حريص على دستوره». وربطت نجاح الحوار الداخلي بوجوب «حصوله في إطار المؤسسات، استكمالاً لهيئة الحوار الوطني، وأن تحكمه آليات الديموقراطية التوافقية التي تنطلق من أسس الميثاق والدستور، حتى تأتي نتائج الحوار ملزمة وهادفة إلى ما فيه خير لبنان». وشددت على أن «الميثاق روح وعهد، تجسده صيغة عقد ملزمة، في كيان ودولة، ما يحتم العودة إلى جوهر الميثاق والالتزام بجوهر الصيغة، لأننا بهما نقفل باب الاستقواء بالخارج، والتفرد في الداخل، والمس بالسيادة الوطنية، والتمسك بأبعاد صيغة «لا شرق ولا غرب»، فهي صيغة رسمت تجاه الخارج وعلاقة لبنان به». وتوقفت الكنيسة عند «أحقية القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم، وإنشاء دولة خاصة بهم على ترابهم الوطني، ورفض لبنان أي شكل من أشكال التوطين الفلسطيني على أراضيه، وفقاً لما جاء في مقدمة دستوره، ووجوب إحلال السلام في سورية بسرعة، ومساعدة أبنائها على تقرير مصيرهم بحوار نزيه في ما بينهم، وتأمين الاستقرار فيها حتى يعود أبناؤها النازحون إلى ديارهم مكرمين أعزاء وسالمين. وفي سرعة إحلال السلام وعودة النازحين مصلحة لبنانية حيوية». وجددت التزام لبنان «بقرارات الشرعية الدولية، ولا سيما بالقرار 1701». ورأت أن «صون الدستور والتقيد به يحتم: الحفاظ على المكتسبات الدستورية من حريات شخصية، ومدنية الدولة، وديموقراطيتها، وضمانة مشاركة المكونات كلها، والانفتاح على التطوير انطلاقاً من الدستور، والالتزام الجدي ببناء الدولة العادلة والقادرة والمنتجة من خلال: حفظ السيادة، وحصرية القوة العسكرية في يد الشرعية، باستكمال بناء جدي لجيش عصري، مجهز بالعتاد والأسلحة المتطورة الهادفة، وتقوية قوى الأمن وسائر الأجهزة الأمنية، وحماية استقلالية القضاء، ودعم هيئات الرقابة وتفعيلها، وفرض سلطة القانون على الجميع ومن خلال ضبط التدخل السياسي الزبائني في الإدارة، والالتزام بتفعيل عمل المؤسسات الدستورية وانتظامها وعدم تعطيلها، وانفتاح لبنان على قوة أبنائه في الانتشار». اولويات ورسمت الكنيسة أولويات وضعتها «برسم جميع اللبنانيين، ولا سيما المسؤولين من بينهم: أولها استكمال بناء سلطة الدولة داخلياً وبسطها على كامل الأراضي اللبنانية، والمساعدة على تحفيز القوى السياسية اللازمة لإدارة الحكم، ولإعادة بناء الدولة ومؤسساتها المركزية، والحرص على الدستور، وفصل السلطات، واحترام حرمة القضاء. وثانيها وضع قانون انتخابي نيابي جديد وفق الميثاقية اللبنانية، بحيث يترجم المشاركة الفاعلة في تأمين المناصفة الفعلية، والاختيار الحر، والمساءلة والمحاسبة، ويؤمن التنافس الديموقراطي، ويلغي فرض نواب على طوائفهم بقوة تكتلات مذهبية، وثالثها إقرار اللامركزية الإدارية الموسعة وتطبيقها، ورابع الأولويات استكمال تطبيق اتفاق الطائف، والنظر في ما يجب إيضاحه أو تفسيره أو تطويره في ضوء التجربة المعاشة، بما في ذلك صلاحيات رئيس الجمهورية، لسد الثغرات الدستورية والإجرائية التي ظهرت في تجربة ممارسة الحكم منذ هذا الاتفاق، بغية تحقيق ما يتطلبه الدستور من رئيس الجمهورية كرئيس للدولة، تأميناً لاستقرار النظام، وانتظام عمله الطبيعي، وتلافياً لتعطيل آلة الحكم أو انتقال السلطة، وخامساً تأليف حكومات كفية، تعتمد خططاً ولا ترتجل السياسات والحلول، وتلتزم ببياناتها الوزارية، ثم الاهتمام بالشباب الذين هم ثروة البلاد الكبرى والقوة التجددية في المجتمع والكنيسة، وتعزيز مساهمة المرأة في المسؤوليات العامة ومشاركتها في الحياة السياسية، وتحفيز المواطن على ممارسة واعية لحقوقه الديموقراطية، وواجباته تجاه مستلزمات بناء الدولة، والعمل على إصلاح إدارة الدولة وتحديثها، ثم تعزيز إسهام لبنان في عملية خروج العالم العربي من مخاضه الراهن، وتقوي حضوره الإيجابي في عالم اليوم، والحرص على ضمان متابعة تنفيذ خلاصات مجموعة الدعم الدولية للبنان، المتعلقة بدعم الاستقرار فيه، وتعزيز اقتصاده، وتقوية قدرات الجيش، والجهد القائم لمواجهة مشكلة النازحين السوريين». الحريري وحرب يرحبان بمذكرة بكركي ورحب زعيم «تيار المستقبل» رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في تصريح أمس، بالوثيقة الوطنية التي صدرت عن البطريركية المارونية، واعتبرها «رؤية لبنانيةأصيلة تعبر عن حقائق العيش المشترك بين جميع اللبنانيين». وقال: «الوثيقة التي أعلنها البطريرك بشارة الراعي يجب أن تشكل خريطة طريق لبناء الدولة وتحصين الوحدة الوطنية ودعم المؤسسات الشرعية وإنهاء حال الاهتراء السياسي والأمني التي يعاني منها لبنان». وزاد: «نحن في تيار المستقبل سنكون ظهيراً قوياً لهذه التوجهات الوطنية التي باتت تشكل ضرورة لحماية لبنان وإعادة الاعتبار لمؤسساته الشرعية». وأعلن النائب بطرس حرب في تصريح، تأييده مضمون الوثيقة، معتبراً أنها «أكدت الثوابت التاريخية والوطنية للكنيسة المارونية، والعيش المشترك ووجوب قيام الدولة القادرة، ووجوب احترام المواثيق الوطنية. ودعا «كل القوى السياسية إلى احترام مضمون المذكرة والعمل بموجبها».